مسائل تهم المسافر



تعبد الله تعالى عباده بالأحكام الشرعية من أوامر ونواهي، ثم رخص في بعضها رخصاً لهم رحمة بهم، ولم يترك خيراً إلا دل عليه، ولا شراً إلا حذر منه، رأفة منه بعباده.
ومن تلك الأحكام التي تعبدنا الله بها ما يعرض للإنسان في حال حضره وسفره من مسائل يحتاج المسلم إلى تعلمها ومعرفة ما فيها من الرخص والعزائم، إذ كثيراً ما تعرِضُ للمسلم مسائل يحار فيها أثناء سفره، فإن لم يكن لديه من العلم ما يكفيه ليتحرى الصواب والحق؛ فإنه يخطئ ويجانب الصواب، لذا فهو مطالب بتعلمها، وسؤال أهل العلم عنها، وبذل الوسع في معرفة الحق والصواب، والسؤال عما يشكل عليه، وألا يستهين بعباداته وأمور معاده.
ومن تلك المسائل التي يكثر السؤال عنها:
قصر الصلاة للمسافر:
وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
- أما دليله من الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا}(سورة النساء:101).
- ومن السنة حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر, فأُقرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر)) رواه البخاري برقم (350)، وفي لفظ للبخاري: ((فُرضت الصلاة ركعتين, ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعاً، وتُركت صلاة السفر على الأولى)) رواه البخاري برقم (3935).
- قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "أجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة في حج أو عمرة أو جهاد أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين" المغني (2/ 87).
والقصر في السفر أفضل من الإتمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتَى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))[1], وفي رواية: (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه))[2]، ومن أتم صلاته بدون قصر فلا شيء عليه؛ غير أنه خالف الأفضل.
- والمسافة التي تُقصَرُ فيها الصلاة كما ذكر الجمهور من أهل العلم أربعة بُرُد, والبريد مسيرة نصف يوم وهو أربعة فراسخ, والفرسخ ثلاثة أميال, فإذا كانت مسافة سفر الإنسان ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً؛ فله أن يقصر عند الجمهور.
والميل المعروف ألف وستمائة متر, فتكون الأربعة برد 76.8 كيلو تقريباً, وقيل :80.64 كيلومتر, وقيل: 72, قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والميل المعروف كيلو وستين في المائة[3].
الجمع بين الصلاتين في السفر:
اختلف العلماء في مسألة جمع الصلاة في السفر إلى خمسة أقوال:
- القول الأول: وهم القائلون بجواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بعذر السفر جمع تقديم في وقت الأولى منهما، وجمع تأخير في وقت الثانية منهما، وبه قال المالكية والشافعية وأحمد في المشهور عنه، وهو قول الجمهور، وهو الراجح، والله أعلم.
- القول الثاني: قالوا بأنه لا يجوز الجمع مطلقاً إلا بعرفة ومزدلفة، قال بهذا القول أبي حنيفة والحسن والنخعي وصاحبيه، وأجابوا بأن الجمع الذي ورد في الأخبار أنما هو جمعٌ صوري حيث أخر المغرب إلى آخر وقتها، وصلى العشاء في أول وقتها.
- القول الثالث: أن الجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمن جدَّ به السير، وبه قال الليث وهو المشهور عن مالك.
- القول الرابع: أن الجمع بين الصلاتين في السفر خاص بأهل الأعذار، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والحسن، والأوزاعي.
- القول الخامس: أن الجمع بين الصلاتين في السفر يجوز في جمع التأخير دون جمع التقديم، وهو مروي عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد، واختاره الإمام ابن حزم الظاهري.
الجمع بين الصلاتين قبل السفر:
س: إذا أردت السفر بالطائرة، وكان وقت الإقلاع قبل دخول وقت صلاة العصر، وكانت الطائرة ستهبط في مطار آخر، ووقت إقلاع الرحلة الثانية بعد الوصول مباشرة، فهل يجوز أن أجمع وأقصر صلاة العصر مع صلاة الظهر في مدينتي؟ وما الحكم إذا فعلت ذلك؟ وما هو العمل الصحيح؟
ج: الحمد لله، يجوز للمقيم أن يجمع بين الصلاتين إن كان هناك حرج من أداء الصلاة الثانية في وقتها، والجمع أوسع من القصر، فلا قصر إلا لمسافر، والجمع يجوز للمسافر والمقيم؛ حيث يوجد الحرج من أداء الصلاة الثانية سواء في وقتها أو في جماعة.
وعليه فيجوز لك أن تقدِّم العصر فتصليها مع الظهر في مدينتك إن غلب على ظنك أنك لن تقدر على أدائها في وقتها بسبب سفرك، وإذا كان المطار خارج قريتك أو مدينتك فإنك تقصر الصلاة كذلك، وإن كنت من سكان المطار فتتم من غير قصر؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: مسألة: إذا كان في القصيم إذا خرج الإنسان إلى المطار هل يقصر في المطار؟
الجواب : نعم يقصر؛ لأنه فارق عامر قريته، فجميع القرى التي حول المطار منفصلة عنه، أما من كان من سكان المطار فإنه لا يقصر في المطار؛ لأنه لم يفارق عامر قريته"[4].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر))، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً (أي: ابن جبير): لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمَّته" رواه مسلم برقم (705)؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والقصر سببه السفر خاصة لا يجوز في غير السفر، وأما الجمع فسببه الحاجة والعذر، فإذا احتاج إليه جمع في السفر القصير والطويل، وكذلك الجمع للمطر ونحوه وللمرض ونحوه، ولغير ذلك من الأسباب؛ فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة[5]"[6].

الصلاة في السيارة والطائرة:
س: أنا امرأة أسكن في إحدى المدن، وأذهب مع زوجي إلى مدينة أخرى لعمل ما، أو بغرض أن نتمشى أو نتسوق، وتدركنا صلاة المغرب أو العشاء فنذهب للبحث عن مسجد فيه مصلى نساء، أحياناً لا نجد، فيصلي زوجي في المسجد، وأنا لا أجد مكاناً أصلي فيه، والله يعلم أننا نبحث وبشكل جدي ولكن للأسف كما قلت أحياناً لا نوفق، فأضطر أن أصلي في السيارة وأنا جالسة.
السؤال: هل تصح صلاتي بهذه الطريقة علماً أنني فعلت هكذا أكثر من مرة. أفيدوني؟
الحمد لله، عملك هذا أيتها الأخت غير صحيح، لأن القيام مع القدرة ركن من أركان الصلاة، فيمكنك أن تصلي في المسجد (قسم الرجال) بعد خروج الرجال منه، فإن لم تجدي مسجداً فإنك تصلين على الأرض في أي مكان، والصلاة في السيارة أو الطائرة، أو القطار أو غيرها من المراكب؛ إذا كان المصلي لا يستطيع استقبال القبلة، والصلاة قائماً؛ لا تجوز في الفريضة إلا بشرطين:
1- أن يخشى خروج وقت الفريضة قبل وصوله، أما إن كان سينزل قبل خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل ثم يصلي.
2- ألا يستطيع النزول للصلاة على الأرض، فإن استطاع النزول وجب عليه ذلك.
فإذا وجد الشرطان جاز له الصلاة في هذه المراكب، والدليل على جواز الصلاة على هذه الحال عموم قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (سورة البقرة:286)، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (سورة التغابن:16)، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (سورة الحـج:78).
فإن قيل: إذا جاز لي الصلاة على هذه المراكب فهل أستقبل القبلة، وهل أصلي جالساً مع القدرة على الصلاة قائماً؟
فالجواب: إن استطعت أن تستقبل القبلة في جميع الصلاة وجب فعل ذلك؛ لأنه شرط في صحة صلاة الفريضة في السفر والحضر ، وإن كان لا يستطيع استقبال القبلة في جميع الصلاة فليتق الله ما استطاع؛ لما سبق من الأدلة.
وأما صلاة الفريضة جالساً مع القدرة على القيام فإنها لا تجوز لعموم قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (سورة البقرة:238)، وحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)) رواه البخاري برقم (1117)، وبالله التوفيق .. فتاوى اللجنة الدائمة 8/126"[7].

الصوم في السفر:
أيهما أفضل: الفطر في السفر أم الصوم؟
"س: من سافر في رمضان وهو صائم فهل الأفضل له الفطر أم متابعة الصيام؟
الحمد لله: ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ, وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ صَحِيحٌ مُنْعَقِدٌ, وَإِذَا صَامَ وَقَعَ صِيَامُهُ وَأَجْزَأَهُ (أنظر الموسوعة الفقهية ج28 ص73).
وأما الأفضلية فعلى التفصيل التالي:
الحال الأولى: إذا كان الصوم والفطر سواء، بمعنى أن الصوم لا يؤثر عليه، ففي هذه الحالة يكون الصوم أفضل للأدلة التالية:
أ/ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ" رواه البخاري برقم (1945) ومسلم برقم (1122).
ب/ أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر، والأداء وهو صيام رمضان يقدم.
ج/ أنه أسهل على المكلف غالباً؛ لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم.
د/ أنه يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان، فإن رمضان أفضل من غيره لأنه محل الوجوب، فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله من أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحال الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل.
الحال الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة؛ فهنا يكون الصوم في حقه حراماً، والدليل على ذلك ما رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ، إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ؟ فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ"، وفي رواية: "فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ" رواه مسلم برقم (1114)، فوصف من صام مع المشقة الشديدة بالعصاة. (أنظر الشرح الممتع للشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله ج6 ص355).
"قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: إنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفِطْرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ, وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ, وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ, وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ بَعْضِهَا, أَوْ ادِّعَاءِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَاَلَّذِينَ سَوَّوْا بَيْنَ الصَّوْمِ وَبَيْنَ الْفِطْرِ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: ((أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ رضي الله تعالى عنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: إنْ شِئْت فَصُمْ, وَإِنْ شِئْت فَأَفْطِرْ)) متفق عليه. (الموسوعة الفقهية ج28 ص73)"[8].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] مسند أحمد (5866)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل (564).

[2] صحيح ابن حبان (354)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1060).

[3] الشرح الممتع لابن عثيمين (4/351).

[4] الشرح الممتع (4/514).

[5] مجموع الفتاوى (22/293) طبعة مجمع الملك فهد.

[6] نقلاً عن موقع الإسلام سؤال وجواب الفتوى برقم (20017).

[7] نقلاً عن موقع الإسلام سؤال وجواب الفتوى برقم (21869).

[8] نقلاً عن موقع الإسلام سؤال وجواب الفتوى برقم (20165).

منقول