اللين والرفق



يسعى الإسلام فيما يسعى إليه؛ إلى تربية النفس البشرية وتهذيبها، وجَعْلِ محطات لتربية الذات وتهذيبها، والسعي بها إلى درجات الكمال، ومراقي الصعود.
ومن أبرز هذه المحطات الصلاة التي تنمي في النفس الانضباط والإتقان، وتبعد صاحبها عن كل ما هو فاحش ومنكر قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (سورة العنكبوت:45).
وتأتي الزكاة كمطهرة للمال، وتعويد للنفس البشرية على البذل والعطاء، والبعد عن الشح.
ويعتبر الصيام بحق مدرسة تعليم الصبر لكل المسلمين، وهو في الوقت ذاته مطهرة للنفس.
ويجمع الحج أكثر ما سبق، كما يُبرِزَ الانضباط، والبذل، والصبر.
إن الحج مؤتمر يقام كل عام على نحو تعجز أقوى أمم العالم وأدقها تنظيماً أن تقيم مثله ولو في الدهر مرة، ولا تكاد توجد جماعة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا ولها في هذا المؤتمر من يمثلها قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (سورة الحج:27-28).
وإذا علمنا أن لكل عبادة غايتها المثلى، وهدفها الأسمى؛ فإن للحج من الغايات الكريمة، والعوائد الحميدة؛ ما لا يستطيع القلم أن يحصيه عداً، أو يستوعبه دراسة وبحثاً، ومهما تكلم المتكلمون، وحاضر المحاضرون حول أي عبادة افترضها الله تعالى، وأسرارها، ودلالاتها، وغاية فرضها؛ فلن يوفوا بحقها، ولن يصلوا إلا إلى اليسير منها؛ لأنه لا يعلم هذه الأمور كلها إلا ربنا عز وجل.
وإن من الأمور التي يغرسها الحج في النفس المؤمنة؛ التربية على الأخلاق الحميدة، والالتزام بها في كل حال، والتحلي بالسلوك الحميد من التواضع، ولين الجانب قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (سورة البقرة:197)، فحال الحاج أنه محافظ على نفسه من أن يقع في خطأ يفسد عليه حجه، فتراه يرفق بإخوانه، ويبتعد عن فاحش الكلام، ويتعود على لين الجانب في كل حال، ويحمله على ذلك الحال التي هو عليها.
وإن من أفضل حجاج بيت الله عز وجل من حقق أقصى درجات التواضع واللين كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: ((الزاد والراحلة))، قال: يا رسول الله فما الحاج؟ قال: ((الشعث التفل))، وقام آخر فقال: يا رسول الله وما الحج؟ قال: ((العج والثج))[1]، و"الشعث بفتح الشين المعجمة، وكسر العين المهملة، وبالثاء المثلثة؛ وهو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله، وقال القاري: أي المغبر الرأس من عدم الغسل، مفرق الشعر من عدم المشط، وحاصله تارك الزينة، والتفل بفتح التاء المثناة من فوق، وكسر الفاء، وهو الذي ترك الطيب حتى تغيرت رائحته، وقال القاري: أي تارك الطيب فيوجد منه رائحة كريهة، من تفل الشيء من فيه إذا رمى به متكرهاً له"[2].
ومن اللين في الحج أيضاً التزام الحاج كظم الغيظ، وترك الجدال، والسعي لأن تكون النفس متسامحة رفيقة بكل شيء: بالبشر وغيرهم، وهنا نعرف الدافع الذي من أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:
((يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر)) مسند أحمد (190) وقال شعيب الأرناؤوط: حسن رجاله ثقات رجال الشيخين، وقال الألباني في مناسك الحج والعمرة: أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما وهو حديث قوي كما بينته في "الحج الكبير" (1/20).
ومع أن استلام الحجر سنة، لكن قد يحصل بسبب استلام الحجر أن يتدافع الناس، ويحصل الزحام، ويصل القوي، ويتأذى الضعيف، وأذية المسلم حرام، وهنا كان الفقه العظيم، والأمر الكريم بترك السنة ليتجنب الحرام الذي هو أذية الضعفاء من الرجال أو النساء.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى كل خير، وأن يجعلنا من أرحم خلقه بخلقه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


[1] سنن ابن ماجه (2896)، وصحيح الترغيب والترهيب (2/9)، وقال: حسن لغيره.

[2] مشكاة المصابيح (8/853).
منقول