تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 63

الموضوع: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق


    (24) سعد بن عبادة وموقفه من خلافة الصديق



    علي بن محمد الصلابي




    إن سعد بن عبادة قد بايع أبا بكر بالخلافة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إذ أنه نزل عن مقامة الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالخلافة، وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصاري أول من بايع الصديق في اجتماع السقيفة، ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات، لا بسيطة ولا خطيرة، ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة كما زعم بعض كتاب التاريخ، ولكن الأخوة الإسلامية ظلت كما هي، بل ازدادت توثقاً كما يثبت ذلك النقل الصحيح. ولم يثبت النقل الصحيح تآمرًا حدث بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله، فهم كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك.
    وقد حاول بعض الكتاب من المؤرخين أصحاب الأهواء أن يجعلوا من سعد بن عبادة منافساً للمهاجرين يسعى للخلافة بشرِّه، ويدبر لها المؤامرات، ويستعمل في الوصول إليها كلَّ أساليب التفرقة بين المسلمين.
    هذا الرجل، إذا راجعنا تاريخه وتتبعنا مسلكه، وجدنا مواقفه مع الرسول تجعله من الصفوة الأخيار، الذين لم تكن الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم؛ فهو النقيب في بيعة العقبة الثانية، حتى لجأت قريش إلى تعقبه قرب مكة وربطوا يديه إلى عنقه وأدخلوه مكة أسيرًا حتى أنقذه منهم جبير بن مطعم بن عدي، حيث كان يجيرهم في المدينة.
    وهو من الذين شهدوا بدرا وحظى بمقام أهل بدر ومنزلتهم عند الله، وكان من بيت جود وكرم وشهد له ذلك رسول الله، وكان رسول الله يعتمد عليه –بعد الله- وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق، عندما استشارهم في إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن الفزاري، فكان رد السعدين يدل على عمق الإيمان وكمال التضحية.
    فمواقف سعد مشهورة ومعلومة، فهذا الصحابي الجليل صاحب الماضي المجيد في خدمة الإسلام والصحبة الصادقة لرسول الله، لا يعقل ولم يثبت أنه كان يريد أن يُحيي العصبية الجاهلية في مؤتمر السقيفة لكي يحصل في غمارها هذه الفرقة على منصب الخلافة، كما أنه لم يثبت ولم يصح ما ورد في بعض المراجع من أنه –بعد بيعة أبي بكر- كان لا يصلي بصلاتهم ولا يفيض في الحج بإفاضتهم؛ كأنما انفصل سعد بن عبادة عن جماعة المسلمين، فهذا باطل ومحض افتراء، فقد ثبت من خلال الروايات الصحيحة أن سعدًا بايع أبا بكر، فعندما تكلم أبو بكر يوم السقيفة، فذكر فضل الأنصار وقال: ولقد علمتم أن رسول الله قال: «لو سلك الناس واديًا، وسلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار»، ثم ذكر سعد بن عبادة بقول فصل وحجة لا ترد، فقال: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم» قال سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء، فتتابع القوم على البيعة وبايع سعد. وبهذا
    ثبت بيعة سعد بن عبادة، وبها يتحقق إجماع الأنصار على بيعة الخليفة أبي بكر، ولا يعود أي معنى للترويج لرواية باطلة، بل سيكون ذلك متناقضاً للواقع واتهاماً خطيرًا، أن ينسب لسيد الأنصار العمل على شق عصا المسلمين، والتنكر لكل ما قدمه من نصرة وجهاد وإيثار للمهاجرين، والطعن بإسلامه من خلال ما ينسب إليه من قول: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، فكان لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع بجامعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم أي: في الحج.


    إن هذه الرواية التي استغلت للطعن بوحدة المهاجرين والأنصار وصدق أخوتهم، ما هي إلا رواية باطلة للأسباب التالية:
    أن الراوي صاحب هوى وهو «إخباري تالف لا يوثق به» ولا سيما في المسائل الخلافية.
    قال الذهبي عن هذه الرواية: وإسنادها كما ترى؛ أي: في غاية الضعف أما متنها
    فهو يناقض سيرة سعد بن عبادة، وما في عنقه من بيعة على السمع والطاعة، ولما روي عنه من فضائل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (25) ما يروى من خلاف بين عمر والحباب بن المنذر


    علي بن محمد الصلابي



    أما ما يروي عن تنازع في السقيفة بين عمر والحباب بن المنذر السلمي الأنصاري، فالراجح أنه غير صحيح، وأن عمر لم يُغضب الحباب بن المنذر منذ عهد رسول الله،
    فقد روى عن عمر قال: فلما كان الحباب بن المنذر هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلام؛ لأنه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوؤه أبدًا.
    كما أن ما يروى عن الحباب في هذه المنازعة مخالف لما عُهد عنه من حكمة، ومن حسن تأنيه للأمور؛ إذ كان يلقب: «بذي الرأي» في عهد رسول الله؛ وذلك لقبول مشورته في بدر وخيبر.
    وأما قول الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فقد سوغ ذلك وأوضح أنه لا يقصد بذلك الوصول إلى الإمارة، فقال: فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم، فقبل المهاجرون قوله وأقروا عذره ولا سيما أنهم شركاء في دماء من قتل من المشركين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (26) حديث الأئمة من قريش وموقف الأنصار منه


    علي بن محمد الصلابي




    ورد حديث «الأئمة من قريش» في الصحيحين وكتب الحديث الأخرى بألفاظ متعددة؛ ففي صحيح البخاري عن معاوية قال: قال رسول الله: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين». وفي صحيح مسلم: «لا يزال الإسلام عزيزًا بخلفاء كلهم من قريش». وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان».
    وقال رسول الله: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلهم وكافرهم لكافرهم». وعن بكير بن وهب الجزري قال: قال لي أنس بن مالك الأنصاري: أحدثك حديثاً ما أحدثه كل أحد، كنا في بيت من الأنصار فجاء النبي حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب، فقال: «الأئمة من قريش، إن لهم عليكم حقًا، ولكم عليهم حقًا مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا». وفي «فتح الباري» أورد ابن حجر أحاديث كثيرة تحت باب: الأمراء من قريش، أسندها إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات. فالأحاديث في هذا الباب كثيرة لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب الحديث، وقد رويت بألفاظ متعددة إلا أنها متقاربة، تؤكد جميعها أن الإمرة المشروعة في قريش، ويقصد بالإمرة الخلافة فقط، أما ما سوى ذلك فتساوى فيه جميع المسلمين.
    وبمثل ما أوضحت الأحاديث النبوية الشريفة أن أمر الخلافة في قريش، فإنها حذرت من الانقياد الأعمى لهم، وأن هذا الأمر فيهم ما أقاموا الدين كما سلف في حديث معاوية، وكما جاء في حديث أنس: إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
    وبهذا حذرت الأحاديث من اتباع قريش إن زاغوا عن الحكم بما أنزل الله، فإن لم يمتثلوا ويطبقوا مثل هذه الشروط، فإنهم سيصبحون خطرًا على الأمة، وحذرت الأحاديث الشريفة من اتباعهم على غير ما أنزل الله، ودعت إلى اجتنابهم والبعد عنهم واعتزالهم؛ لما سيترتب على مؤازرتهم آنذاك من مخاطر على مصير الأمة، قال: «إن هلاك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أغيلمة سفهاء من قريش»، وعندما سئل: فما تأمرنا؟ قال: «لو أن الناس اعتزلوهم».
    ومن هذه النصوص تتضح الصورة لمسألة الأئمة من قريش، وأن الأنصار انقادوا لقريش ضمن هذه الضوابط وعلى هذه الأسس، وهذا ما أكدوه في بيعاتهم لرسول الله: «على السمع والطاعة، والصبر على الأثرة، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، إلا أن يروا كفرا بواحًا عندهم من الله فيه برهان». فقد كان للأنصار تصور تام عن مسألة الخلافة، وأنها لم تكن مجهولة عندهم، وأن حديث «الأئمة من قريش» كان يرويه كثير منهم، وأن الذين لا يعلمونه سكتوا عندما رواه لهم أبو بكر الصديق، ولهذا لم يراجعه أحد من الأنصار عندما استشهد به، فأمر الخلافة تم بالتشاور والاحتكام إلى النصوص الشرعية والعقلية التي أثبتت أحقية قريش بها، ولم يسمع عن أحد من الأنصار بعد بيعة السقيفة أنه دعا لنفسه بالخلافة، مما يؤكد اقتناع الأنصار وتصديقهم لما تم التوصل إليه من نتائج.
    وبهذا يتهافت ويسقط قول من قال: إن حديث الأئمة من قريش شعار رفعته قريش لاستلاب الخلافة من الأنصار، أو أنه رأي لأبي بكر وليس حديثاً رواه عن الرسول، وإنما كان فكرًا سياسياً قرشياً، كان شائعا في ذلك العصر، يعكس ثقل قريش في المجتمع العربي في ذلك الحين.
    وعلى هذا فإن نسبة هذه الأحاديث إلى أبي بكر وأنها شعار لقريش، ما هي إلا صورة من صور التشويه التي يتعرض لها تاريخ العصر الراشدي وصدر الإسلام، الذي قام أساسًا على جهود المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، وعلى روابط الأخوة المتينة بين المهاجرين والأنصار، حتى قال فيهم أبو بكر: نحن والأنصار كما قال القائل:

    (أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذين يلقون منا لملت)
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق


    (27) الأحاديث التي أشارة إلى خلافة أبي بكر



    علي بن محمد الصلابي




    الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر كثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة، إما على وجه التصريح أو الإشارة، ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدع إنكارها.
    ومن تلك الأحاديث:
    أ- عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبيَّ فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك –كأنها تقول الموت- قال: «إن لم تجديني فأتى أبا بكر».
    قال ابن حجر: وفي الحديث أن مواعيد النبي كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها، وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس.
    ب- عن حذيفة قال: كنا عند النبي جلوساً فقال: «إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي» (وأشار إلى أبي بكر وعمر)، «وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه».
    فقوله : «اقتدوا بالذين من بعدي» أي: بالخليفتين الذين يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر. وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة.
    ج- عن أبي هريرة عن رسول الله قال: «بينما أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع الدلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر» ».
    قال الشافعي -رحمه الله-: رؤيا الأنبياء وحي، وقوله: «وفي نزعة ضعف» قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته.
    د- قالت عائشة: قال لي رسول الله في مرضه: « «ادعي لي أبا بكر, أخاك حتى أكتب كتابًا،فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».
    دل هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصديق، حيث أخبر النبي بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى، وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره، وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع، ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ثم اجتمعوا على أبي بكر.
    هـ- عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله؟ قالت: بلى، ثقُل النبي فقال: «أصلى الناس» قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله. قال: «ضعوا لي ماء في المخضب»، ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟». قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله. فقال:«ضعوا لي ماء في المخضب»، ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: «أصلى الناس»، قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله!
    قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر صل بالناس. قال: فقال عمر: أنت أحق بذلك، قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا يتأخر، وقال لهما: « «أجلساني إلى جنبه» فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي قاعد.
    قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله فقال: هات، فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً، غير أنه قال: أسَمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال، هو علي.
    هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة، منها: فضيلة أبي بكر الصديق وترجيحه على جميع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله من غيره، ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم، وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر ؛ لأن أبا بكر لم يعدل إلى غيره.
    و- قال عبد الله بن مسعود : لما قبض رسول الله قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، قال: فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
    ز- روى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله لديننا، فقدمنا أبا بكر.
    وقد علق أبو الحسن الأشعري على تقديم رسول الله لأبي بكر في الصلاة فقال: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة في دين الإسلام. قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنًّا، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلامًا». قال ابن كثير -وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب-: ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق وأرضاه.
    هذا ولأهل السنة قولان في إمامة أبي بكر من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي، فمنهم من قال: إن إمامة أبي بكر ثابتة بالنص الخفي والإشارة، وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري -رحمه الله تعالى- وجماعة من أهل الحديث، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي له في الصلاة وبأمره بسد الأبواب إلا باب أبي بكر. ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث، وبه قال أبو محمد بن حزم الظاهري، واستدل هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»، وبقوله لعائشة -رضي الله عنها-: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»، وحديث رؤياه أنه على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع الدلو من يده ليروحه.
    والذي أميل إليه ويظهر لي من خلال البحث: أن المصطفى يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر، وإنما دلهم عليه لإعلام الله -سبحانه وتعالى- له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية وأرضاه.
    قال ابن تيمية -رحمه الله-: والتحقيق أن النبي دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار رضى بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهدًا، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله بياناً قاطعاً للعذر، ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود، ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر... إلى أن قال: فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله له بها، وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختيارًا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله، فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعًا، لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها، وأم المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمين قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضي الله ورسوله بذلك، كان دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمين به أنه أحقهم بالخلافة، فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص.




    ([2]) منهاج السنة: 1/139 – 141؛ مجمع الفتاوى: 35/47 – 49.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (28) انعقاد الإجماع على خلافة الصديق


    علي بن محمد الصلابي


    أجمع أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي أبو بكر الصديق، لفضله وسابقته، ولتقديم النبي إياه في الصلوات على جميع الصحابة. وقد فهم أصحاب النبي مراد المصطفى -عليه الصلاة والسلام- من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد، ولم يكن الرب -جل وعلا- ليجمعهم على ضلالة، فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه.
    فعندما سئل سعيد بن زيد: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة ، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أولى بالخلافة من كل أحد، وهذه بعض أقوال أهل العلم:
    أ- قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة. وقيل: إنه قبض النبي عن ثلاثين ألف مسلم كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ورضوا به من بعده رضي الله عنهم.
    ب- وقال أبو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق، وسموه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة في العلم والزهد، وقوة الرأي وسياسة الأمة، وغير ذلك.
    ج- وقال عبد الملك الجويني: أما إمامة أبي بكر فقد ثبتت بإجماع الصحابة، فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه. وما تخرص به الروافض من إبداء عليٍّ شراسًا، وشماساًفي عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن في السقيفة، وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله، ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد.
    د- وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق: وكان مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له، حتى قال أمير المؤمنين علي مجيبا لقوله لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله لديننا ألا نرضاك لدنيانا، يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج، فأمرك علينا. وكان أفضل الأمة وأرجحهم إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (29) منصب الخلافة والخليفة



    علي بن محمد الصلابي




    الخلافة الإسلامية هي المنهج الذي اختارته الأمة الإسلامية وأجمعت عليه طريقة وأسلوباً للحكم تنظم من خلاله أمورها وترعى مصالحها، وقد ارتبطت نشأة الخلافة بحاجة الأمة لها واقتناعها بها، ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله.
    يقول الإمام أبو الحسن الماوردي: إن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح العامة حتى استثبتت به الأمور العامة، وصدرت عنه الولايات الخاصة.

    لقد كان على الأمة الإسلامية أن تواجه الموقف الصعب الذي نشأ عن انتقال
    الرسول إلى الرفيق الأعلى، وأن تحسم أمورها بسرعة وحكمة وألا تدع مجالاً لانقسام قد يتسرب منه الشك إلى نفوس أفرادها، أو للضعف أن يتسلل إلى أركان البناء الذي شيده رسول الله.

    ولما كانت الخلافة هي نظام حكم المسلمين، فقد استمدت أصولها من دستور المسلمين؛ من القرآن الكريم ومن سنة النبي. وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلافة الإسلامية فقالوا بالشورى والبيعة وهما –أصلاً-قد أشير إليهما فيالقرآن الكريم، ومنصب الخلافة أحياناً يطلق عليه لفظ الإمامة أو الإمارة. وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة، وأن تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شئون الأمة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة الإسلامية وعلى حماية الدين والأمة بالجهاد، وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس ورفع المظالم وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد، وهذا ثابت بالقرآن والسنة والإجماع.

    وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
    وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
    وقال : «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له»، «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
    وأما الإجماع فالصحابة -رضوان الله عليهم- لم ينتظروا حتى يتم دفن الرسول، وتوافدوا للاتفاق على إمام أو خليفة، وعلل أبو بكر قبول هذه الأمانة وهو خوفه أن تكون فتنة (أي من عدم تعيين خليفة للمسلمين). قال الشهرستاني في ذلك: ما دار في قلبه ولا في قلب أحد أنه يجوز خلو الأرض من إمام، فدل ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول كانوا عن بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من إمام، فذلك الإجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب الإمام.

    هذا وليس صحيحاً ما يروجه الحاقدون أن الطمع في الرياسة سبب الانشغال بالخلافة عن دفن النبي.
    هذا وقد عرف ابن خلدون الخلافة: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارهم بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة هذا الدين وسياسة الدنيا به.
    وقد تحدث العلامة أبو الحسن الندوي عن شروط خلافة النبي ومتطلباتها، وقد أثبت بالأدلة والحجج من خلال سيرة الصديق بأن أبا بكر كانت شروط خلافة النبي متحققة فيه، ونذكر هذه الشروط بإيجاز وبدون ذكر الشواهد التي ذكرها الندوي وقد بينتها في هذا الكتاب متناثرة، فأهم هذه الشروط:
    أ- يمتاز بأنه ظل طوال حياته بعد الإسلام متمتعا بثقة رسول الله به وشهادته له، واستخلافه إياه في القيام ببعض أركان الدين الأساسية، وفي مهمات الأمور، والصحبة في مناسبات خطرة دقيقة لا يستصحب فيها الإنسان إلا من يثق به كل الثقة، ويعتمد عليه كل الاعتماد.
    ب- يمتاز هذا الفرد بالتماسك والصمود في وجه الأعاصير والعواصف التي تكاد تعصف بجوهر الدين ولبه، وتحبط مساعي صاحب رسالته، وتنخلع لها قلوب كثير ممن قوي إيمانهم وطالت صحبتهم، ولكن يثبت هذا الفرد في وجهها ثبوت الجبال الراسيات، ويمثل دور خلفاء الأنبياء الصادقين الراسخين، ويكشف الغطاء عن العيون، وينفض الغبار عن جوهر الدين وعقيدته الصحيحة.
    ج- يمتاز هذا الفرد في فهمه الدقيق للإسلام، ومعايشته له في حياة النبي على اختلاف أطواره وألوانه من سلم وحرب، وخوف وأمن، ووحدة واجتماع، وشدة ورخاء.
    د- يمتاز بشدة غيرته على أصالة هذا الدين وبقائه على ما كان عليه في عهد نبيه، غيرة أشد من غيرة الرجال على الأعراض والكرامات، والأزواج والأمهات، والبنين والبنات، لا يحوله عن ذلك خوف أو طمع أو تأويل أو عدم موافقة من أقرب الناس وأحبهم إليه.


    هـ- يكون دقيقاً كل الدقة وحريصاً أشد الحرص على تنفيذ رغبات الرسول الذي يخلفه في أمته بعد وفاته، لا يحيد عن ذلك قيد شعرة، ولا يساوم فيه أحدًا، ولا يخاف لومة لائم.
    و- يمتاز بالزهد فمتاع الدنيا والتمتع به، زهدًا لا يتصور فوقه إلا عند إمامه وهاديه سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأن لا يخطر بباله تأسيس الملك والدولة وتوسيعهما لصالح عشيرته وورثته، كما اعتادت ذلك الأسر الملوكية الحاكمة في أقرب الدول والحكومات من جزيرة العرب؛ كالروم والفرس.
    وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلها في سيدنا أبي بكر، كما تمثلت في حياته وسيرته في حياة الرسول قبل الخلافة وبعد الخلافة إلى أن توفاه الله تعالى، بحيث لا يسع منكرا أن ينكره أو مشككا يشكك في صحته، فقد تحقق بطريق البداهة والتواتر.
    هذا وقد قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصديق بيعة خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني، وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة.
    وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ، منها: أن قيادة الأمة لا تقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب دينا والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية وشخصية وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة «قريش» في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقعًا يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضًا مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين؛ حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية.
    وقد استدل الدكتور توفيق الشاوي على بعض الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعية في عهد الراشدين من حادثة السقيفة، حيث قال:
    * أول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن «نظام الحكم ودستور الدولة» يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى؛ أي أن هذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في الإسلام وهو الشورى الملزمة،
    وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييدًا وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنة التي أوجبت الشورى.

    * تقرر يوم السقيفة أيضا أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى؛ أي: بالبيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة –الدستور في النظم المعاصرة- وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قرارًا إجماعياً كالقرار السابق.
    * تطبيقا للمبدأين السابقين، قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية.
    ثم إن هذا الترشيح لم يصبح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي: موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي ألقاه، وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق
    (30) البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية


    علي بن محمد الصلابي




    أولا: البيعة العامة:
    بعد أن تمت بيعة أبي بكر البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر، وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة العامة،

    قال أنس بن مالك: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله،
    ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إليَّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا –يقول: يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة..

    ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد:
    "أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله".

    وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناسعامة.
    وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.

    من خلال الخطبة والأحداث التي تمت بعد وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة، والتي من أهمها:
    # يتبع #

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (31) مفهوم البيعة



    علي بن محمد الصلابي




    عرف العلماء البيعة بتعاريف عدة، منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر.
    وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام، وعرفت كذلك بأنها: أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة، وإقامة ما أقامه.
    وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدًا للعهد والولاء، فأشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمي هذا الفعل بيعة.
    ونتعلم من مبايعة الأمة للصديق بأن الحاكم في الدولة الإسلامية إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد، وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه؛ حفاظاً على وحدة الأمة وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الإسلامية وخارجها.
    قال رسول الله: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال.
    وقال رسول الله: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
    فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به نتيجة الخروج على الإمام، مما يدل على حرمة هذا الفعل؛ لأنه يطلب بيعة أخرى بالبيعة الأولى التي هي فرض على المسلمين.
    والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة، وأما في الأقاليم فقد يأخذها الإمام وقد يأخذها نواب الإمام، كما حدث في بيعة الصديق، فبيعة أهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
    والذي تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى وأمراء الأمصار، وأما سائر الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد.
    وهناك من العلماء من قال: لا بد من البيعة العامة؛ لأن الصديق لم يباشر مهامه كخليفة للمسلمين إلا بعد البيعة العامة من المسلمين.

    والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تم للصديق لا تعطى إلا للإمام الأعظم في الدولة الإسلامية ولا تعطى لغيره من الأشخاص، سواء في ظل الدولة الإسلامية أو عند فقدها؛ لما يترتب على هذه البيعة من أحكام.


    وخلاصة القول: إن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين: الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة.


    فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة، أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد مثل ذلك خروج على الإسلام؛ بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الإيمان، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
    فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصديق.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (32) مصدر التشريع في دولة الصديق

    علي بن محمد الصلابي

    فمصدر التشريع عند الصديق: القرآن الكريم،قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}. فهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة
    التصنيفات: سير الصحابة -
    قال أبو بكر: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم،

    فمصدر التشريع عند الصديق:
    أ- القرآن الكريم:
    قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
    فهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
    ب- السنة المطهرة:
    هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور الإسلامي أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن .
    إن دولة الصديق خضعت للشريعة، وأصبحت سيادة الشريعة الإسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون، وأعطيت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الإسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لا يتقدم ولا يتأخر عنها.
    ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة، الشريعة فوق الجميع يخضع لها الحاكم والمحكوم، ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله؛
    لأن رسول الله قال: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف».

    3- حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
    قال أبو بكر: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.
    فهذا الصديق يقر بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها؛ بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه، وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي، وقد أقر الصديق في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وأن آخر رسول كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته، وبعد وفاته أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة له.
    إن الأمة في فقه أبي بكر لها إدارة حية واعية لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الرعية نُصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الإمام ألا يهان، ومن معاضدته أن يُحترم وأن يُكرم، فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله تستوجب إجلاله وإكرامه وتبجيله، إجلالاً وإكرامًا لشرع الله الذي ينافح عند ويدافع عنه، قال رسول الله: «إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط». والأمة واجب عليها أن تناصح ولاة أمورها، قال: «الدين النصيحة» -ثلاثا- قال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
    ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم.
    ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق، وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره.
    والشيء المحزن أن كثيرًا من الدول الإسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم، فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلط بغيض، «ودكتاتورية» لعينة أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها وزرعت بها الجبن والفزع إلا من رحم ربي، وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته وتأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض، فتنطلق إلى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي


    أبو بكر الصديق

    (33) إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس



    علي بن محمد الصلابي




    قال أبو بكر: الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله.
    إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهم هذه القواعد: الشورى والعدل، والمساواة والحريات. ففي خطاب الصديق للأمة أقر هذه المبادئ، فالشورى تظهر في طريقة اختياره وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع، بمحضر من جمهور المسلمين، وأما عدالته فتظهر في نص خطابه، ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام، الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.
    إن إقامة العدل بين الناس أفرادًا وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه؛ بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل،
    قال الفخر الرازي -رحمه الله-: أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل.
    وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية، إن من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بجميع أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو مالاً، وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
    لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
    لقد كان الصديق قدوة في عدله، يأسر القلوب ويبهر الألباب، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام فيه تفتح قلوب الناس للإيمان. لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه،
    فعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن أبي بكر الصديق قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد، فقال عمر: والله لا يستقد ولا تجعلها سنة، قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها.
    وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيدًا لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
    إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية؛ الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود. لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء. وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك؛ حيث يقول: «وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه».
    وكان ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية بين الناس؛ فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر، كان له بيت مال بالسُّنْح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، قيل له: ولِمَ؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي ما فيه حتى لا يُبقى فيه شيئاً، فلما تحول إلى المدينة حوله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيرًا، وانفتح معدن بني سُليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة، فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء،
    قالت عائشة -رضي الله عنها-: فأعطى أول عام الحرَّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأَمَتَها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: يا خليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسويت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك، وإنا ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة.
    فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب.

    ورغم أن عمر غير في طريقة التوزيع فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس.
    وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة: كساء مخمل) أتى بهما من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في خلافته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير.
    لقد اتبع أبو بكر المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، وراعى حقوق الضعفاء، فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد وإرادة واعية لا تستذلها عوامل القوة الأرضية تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته، ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة.
    لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية؛ فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصديق سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
    كان أبو بكر يريد أن يطمئنَ المسلمون إلى دينهم وحرية الدعوة إليه وإنما تتم الطمأنية للمسلمين ما قام الحاكم فيهم على أساس من العدل المجرد عن الهوى.
    والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات، والتجرد لله تجردًا مطلقاً جعله يشعر بضعف الضعيف، وحاجة المجتمع، ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه وأهله، ثم يتبع أمور الدولة جليلها ورقيقها، بكل ما أتاه الله من يقظة وحذر.
    وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس؛ فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لا يمنع حقه ولا يضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة لذي سطوة أو مكانة، وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض.

    وما أجمل ما قاله ابن تيمية -رحمه الله-: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (34) الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم


    علي بن محمد الصلابي




    قال أبو بكر: «الصدق أمانة والكذب خيانة». أعلن الصديق مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة، وهو: أن الصدق بين الحاكم والأمة وهو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر الهام في قوة الأمة؛ حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها، إنه خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، ومن التحذير منه كقول رسول الله: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر».
    فهذه الكلمات: «الصدق أمانة» اكتست بالمعاني، فكأن لها روحاً تروح بها وتغدو بين الناس؛ تلهب الحماس، وتصنع الأمل. «والكذب خيانة»، وهكذا يأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكما يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول.. وهل بعد الخيانة من عداوة؟ حقاً ما زال الصديق يطل على الدنيا من موقفه هذا فيرفع أقواماً ويسقط آخرين!!.
    وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم؛ إذ هم عدة الأمة ورصيدها الذي تدفع به عن نفسها ملمات الأيام، ولا شك أن من تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقه الخبر بأن الرجل كان رائدًا في هذا الفن الرفيع؛ فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم.
    إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا المنهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم، لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم،

    ولا بد من إشراف الأمة على التزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا، فتمنعهم من سرقة إرادتهم وشرفهم وحريتهم وأموالهم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (35) إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك


    علي بن محمد الصلابي



    قال أبو بكر: وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه وقائده العظيم، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك والإيمان، والضلال والهدى، والشر والخير، ولقد ذكرت مواقف الصديق في غزوات الرسول، ولقد فهم الصديق من حديث رسول الله: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». إن الأمة تصاب بالذل إذا تركت الجهاد، فلذلك جعل الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته، ولذلك حشد طاقات الأمة من أجل الجهاد؛ لكي يرفع الظلم عن المظلومين، ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين، ويعيد الحرية للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في آفاق الأرض يزيل كل عائق ضدها.
    إعلان الحرب على الفواحش:
    قال أبو بكر: ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...» إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لا قداسة لشيء؛ فالمجتمع الفاحش لا يغار ويقر الدنية ويرضاها، إنه مجتمع الضعف والعار والأوجاع والأسقام وحال الناس أدل شاهد.
    لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم الأمة وأخلاقها، فقد حرص في سياسته على طهر الأمة ونقائها، وبعدها عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو يريد بذلك أمة قوية لا تشغلها شهواتها، ولا يضلها شيطانها، لتعيش أمة منتجة تعطي الخير، وتقدم الفضل لكل الناس.
    إن علاقة الأخلاق بقيام الدولة وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق وخربت الذمم ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدمار. والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة والدين الصحيح؛ كالحضارة التي قامت في زمن داود وسليمان عليهما السلام، والتي قامت في زمن ذي القرنين، وكثير من الأمم التي التزمت بالقيم والأخلاق فظلت قوية طالما حافظت عليها، فلما دب سوس الفواحش إليها استسلمت للشياطين، وبدلت نعمة الله كفرًا، وأحلت قومها دار البوار، فنزلت قوتها، وتلاشت حضارتها.
    إن الصديق استوعب سنن الله في المجتمعات وبناء الدول وزوالها، وفهم أن زوال الدول يكون بالترف والفساد، والانغماس في الفواحش والموبقات قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، أي: أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات وترك المعاصي فعصوا وفسقوا فحق عليهم العذاب والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم. وفي قراءة: {أَمَّرْنَا} بالتشديد أي: جعلناهم أمراء. والترف وإن كان كثرة المال والسلطان من أسبابه، إلا أنه حالة نفسية ترفض الاستقامة على منهج الله وليس كل ثراء ترفًا.
    إن سياسية الصديق في حربه للفواحش حري بحكام المسلمين أن يقتدوا به، فالحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على الأخلاق القويمة؛ لأنه حينئذ سيقود شعبًا أحس طعم الآدمية، وجرى في عروقه دم الإنسانية، وأما إن سُلب الحاكم الذكاء وصار من الأغبياء.. أشاع الفاحشة في قومه، وعمل على حمايتها بالقوة والقانون، وحارب القيم والأخلاق الحميدة، ودفع بقومه إلى مستنقعات الرذيلة ليصبحوا كالحيوانات الضالة والقطعان الهائمة، لا هم لها إلا المتاع والزينة الخادعة، فيصبحوا بعد ذلك أقزامًا، قد ودعوا الرجولة والشهامة.
    ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
    هذه بعض التعليقات التي فتح الله بها بما ترى على البيان الذي ألقاه الصديق للأمة، والذي رسم فيه سياسة الدولة، فحدد مسئولية الحاكم ومدى العلاقة بينه وبين المحكومين، وغير ذلك من القواعد المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب، وهكذا قامت الخلافة الإسلامية، وتحدد مفهوم الحكم تحديدًا عمليًا، وكان حرص الأمة على منصب الخلافة واختيار الخليفة على هذه الصورة، ومسارعة الناس إلى الرضا بذلك, دليلاً على أنهم كانوا يسلمون بأن النظام الذي أنشأه النبي -عليه الصلاة والسلام- واجب البقاء، وأن النبي وإن مات فإنه خلف فيهم دينًا وكتابًا يسيرون على هديه؛ فرضاء الناس يومئذ يعبر عن إرادة الاستمرار في ظل النظام الذي أنشأه النبي.
    إن حكومة الصديق تمتع بها المسلمين زمنًا ليس بكثير، وعين أبو بكر حد السلطة العليا فيها بتلك الخطبة الراقية على مستوى أنظمة الحكم في ذلك العصر وفي هذا الزمن؛ فهي حكومة شورية قلَّ أن يجد طلاب الحرية والعدل في كل عصر أحسن لسياسة الأمم منها، قادها التلميذ الأنجب والأذكى والأعلم والأعظم إيمانا للحبيب المصطفى، أبو بكر.

    وقد بيَّن الإمام مالك بأنه لا يكون أحد إمامًا أبدًا إلا على هذا الشرط ؛ يقصد بالمضامين العظيمة التي ألقاها الصديق في بيانه السياسي الأول.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق
    (36) إدارة الشئون الداخلية



    علي بن محمد الصلابي




    أراد الصديق أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته، واتخذ من الصحابة الكرام أعواناً يساعدونه على ذلك، فجعل أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة (وزير المالية)، فأسند إليه شئون بيت المال، وتولى عمر بن الخطاب القضاء (وزارة العدل)، وباشر الصديق القضاء بنفسه أيضاً، وتولى زيد بن ثابت الكتابة (وزير البريد والمواصلات) وأحياناً يكتب له من يكون حاضرا من الصحابة؛ كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم.
    وأطلق المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله، ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق للخلافة، فقد كان أبو بكر رجلاً تاجرًا يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع، فلما استخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالا: انطلق معنا حتى نفرض لك شيئاً، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة.
    وجاء في «الرياض النضرة» أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السنة، وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان قد ألقي كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع فتصافق «بايع»، فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس، فقال: ما شأنكن؟ قلن: نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقال: تعالَ ها هنا.
    فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي. قال: فإنا نزيدك. قال أبو بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها. قال عمر: أما هذا فلا، فجاء علي وهما على حالهما تلك، قال: أكملها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلنا.
    وانطلق أبو بكر فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعليا كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟ قال المهاجرون: اللهم نعم، قد رضينا.
    وهكذا وقف الصحابة في فهمهم الراقي لولاية الدين وأمانة الحكم يفرضون لإمامهم رزقاً يغتني به عن التجارة، بعد إذ صار عاملاً للأمة تملك منه الوقت والجهد والفكر، ومن ثم يقررون معنى في الإسلام بديعاً يفصل الذمة المالية للأمة عن ذمة الحاكم.
    هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إلا في عهوده القريبة، إذا ظلت راية (ما لقيصر لقيصر) مشرعة خفاقة يقاتل الناس دونها أزماناً طويلة.
    إن أصدق تعبير تقف به على دخول الذمة المالية للدولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر: أنا الدولة والدولة أنا. لقد كان لويس تاجر غلال معروفاً يتجر في قوت أمته، وهي تتضور جوعاً، ثم لا يرى أحد في ذلك شيئاً من العار، أليس هو الأصل والأمة فرع عنه؟.
    أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لا حصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال لكثرتها وأكثرها يعود إلى الحكام وأمراء الشعوب المستضعفة، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنها لا تكفي شيئاً، ولا تغني صاحبها شيئاً، فإن شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد أرضا تقبله ليأوي إليها، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد والحساب عظيم.
    فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصحابي الجليل الذي أدار دولة الإسلام بعد وفاة الرسول، فما أجمل قوله: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين فيه.
    إن الصديق يؤكد معاني بديعة، فولاية الدين ليست في حد ذاتها مغنمًا، أما ما يفرض لها من رزق فلما تقضي إليه من اشتغال عامل الأمة عن أمر نفسه.
    لقد سطر الصديق والصحابة الكرام صفحات رائعة في جبين الزمن، حتى إن البشرية تسعى في سلم التطور وتسعى، ثم إذا هي قابعة عند أقدامهم.

    سار الصديق في بناء دولة الإسلام بجد ونشاط واهتم بالبناء الداخلي، ولم يترك أي ثغرة يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الذي تركه رسول الله، فاهتم بالرعية وله مواقف مشرفة في هذا الباب، وأعطى للقضاء اهتماماً خاصاً، وتابع أمر الولاة، وسار على المنهج النبوي الكريم في كل خطواته، وإليك شيء من التفصيل عن تلك السياسة الرشيدة:
    فتابعونا

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي


    أبو بكر الصديق

    (38) نصحه لامرأة نذرت أن لا تحدث أحدًا


    علي بن محمد الصلابي




    كان أبو بكر ينهى عن أعمال الجاهلية، والابتداع في الدين، ويدعو إلى أعمال الإسلام، والتمسك بالسنة، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس، يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال أبو بكر: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: نوت حجة مصمتة فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، قال: فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين.
    قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر. قالت: يا خليفة رسول الله، ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت به أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس.
    قال الخطابي -رحمه الله-: كان من سنة الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت، فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لا يتكلم استحب له أن يتكلم ولا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره؛ لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لا يحل، وأنه من فعل الجاهلية، وأن الإسلام هدم ذلك، ولا يقول مثل هذا إلا عن علم من النبي ، فيكون من حكم المرفوع.

    وقال ابن حجر: وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله فلا يعارض لاختلاف المقاصد في ذلك؛ فالصمت المرغب فيه: ترك الكلام بالباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين، والله أعلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (39) اهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


    علي بن محمد الصلابي


    كان الصديق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبين للناس ما التبس عليهم من الفهم، فعن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، إني سمعت رسول الله يقول: «إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب». وفي رواية: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها، وإنا سمعنا النبي يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب».

    قال النووي: وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}. فليس مخالفاً لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه.
    وكان رضي الله عنه يحث الناس على الصواب، فعن ميمون بن مهران أن رجلاً سلم على أبي بكر فقال: السلام عليك يا خليفة رسول الله، قال: من بين هؤلاء أجمعين؟ وكان يترك السنة مخافة أن يظن من لا علم له أنها فريضة أو واجبة، فعن حذيفة بن أسيد أنه قال: رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- وما يضحيان مخافة أن يستن بهما. وفي رواية: كراهية أن يقتدى بهما. وكان يوصي ابنه عبد الرحمن بحسن المعاملة لجيرانه، فقد قال له ذات يوم وهو يخاصم جار له: لا تماظ جارك؛ فإن هذا يبقى ويذهب الناس.
    وكان باراً بوالده، فلما اعتمر في رجب سنة اثنتي عشرة من الهجرة، دخل مكة ضحوة فأتى منزله، وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره معه فتيان يحوشهم، فقيل له: هذا ابنك فنهض قائماً، وعجل أبو بكر أن ينيخ ناقته فنزل عنها وهي قائمة –ليقابل أباه في بر وطاعة، وجاء الناس يسلمون عليه، فقال أبو قحافة: يا عتيق، هؤلاء الملأ فأحسنْ صحبتهم، فقال أبو بكر: يا أبة لا حول ولا قوة إلا بالله، طوقت أمراً عظيماً لا قدرة لي به، ولا يدان إلا بالله.
    وكان يهتم بالصلاة والخشوع فيها ويحرص على حسن العبادة، وكان لا يلتفت في صلاته، وكان أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر، وأخذها أبو بكر من النبي. وكان عبد الرزاق يقول: ما رأيت أحداً أحسن صلاة من ابن جريج.، وعن أنس قال: صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه، فلما انصرف قال له عمر: يا خليفة رسول الله، ما انصرفت حتى رأينا أن الشمس قد طلعت، قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
    وكان يحث الناس على الصبر في المصائب، ويقول لمن مات له أحد: ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة، الموت أهون مما قبله وأشد مما بعده، اذكروا فَقْدَ رسول الله تصغر مصيبتكم، وعظم الله أجركم.
    وعزى عمر عن طفل أصيب به فقال: عوضك الله منه ما عوضه منك.
    وكان يحذر الناس البغي، والنكث، والمكر ويقول: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمكر.
    وكان يعظ الناس ويذكرهم بالله، ومن مواعظه: الظلمات خمس والسُّرُج خمس: حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى، والذنب ظلمة والسراج له التوبة، والقبر ظلمة والسراج له لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح، والصراط ظلمة والسراج لها اليقين.
    وكان من خلال منبر الجمعة يحث على الصدق والحياء، ويحث على الاعتبار والاستعداد للقدوم على الله ويحذر من الغرور.
    فعن أوسط بن إسماعيل -رحمه الله- قال: سمعت أبا بكر الصديق يخطب بعد وفاة رسول الله بسنة، فقال: قام فينا رسول الله مقامي هذا عام أول، ثم بكى أبو بكر ثم قال: (وفي رواية: ثم ذرفت عيناه فلم يستطع من العَبْرَة أن يتكلم)، ثم قال: «أيها الناس: اسألوا لله العافية، فإنه لم يعط أحد خيرًا من العافية بعد اليقين، وعليكم بالصدق فإنه مع البر، وهما في الجنة. وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار. ولا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا.
    وقال الزبير بن العوام: إن أبا بكر قال وهو يخطب الناس: يا معشر المسلمين: استحيوا من الله عز وجل، فو الذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعا بثوبي استحياء من ربي عز وجل.
    وعن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر فقال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، فاشترى القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فصدقوا قوله، وانتصحوا كتابه، واستوضئوا منه ليوم الظلمة؛ فإنما خلقكم للعبادة، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون، ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غُيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم، فيردكم إلى أسوأ أعمالكم، فإن أقواماً جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا مثلهم، فالوحا الوحا، ثم النجا النجا، فإن وراءكم طلبا حثيثاً مَرُّه سريع.
    وفي رواية أخرى: أين من تعرفون من إخوانكم ومن أصحابكم؟! قد وردوا على ما قدموا، قدموا ما قدموا في أيام سلفهم، وحلوا فيه بالشقوة أو السعادة. أين الجبارون الذين بنوا المدائن، وحففوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك؟ وأين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر، فأصبحوا في ظلمات القبور، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
    إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرفه عن سوء إلا بطاعته واتباع أمره، وإنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة، واعلموا أنكم ما أخلفتم لله -عز وجل- فربكم أطعتم، وحقكم حفظتم، وأوصيكم بالله لفقركم وفاقتكم أن تتقوه، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تستغفروه إنه كان غفارًا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
    وهكذا كان الصديق يهتم بالمجتمع فيعظ المسلمين، ويحثهم على الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا غيض من فيض، وقليل من كثير.

    ب- نصحه لامرأة نذرت أن لا تحدث أحدًا:

    كان أبو بكر ينهى عن أعمال الجاهلية، والابتداع في الدين، ويدعو إلى أعمال الإسلام، والتمسك بالسنة ([1])، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس([2]), يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال أبو بكر: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: نوت حجة مصمتة([3]) فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل ([4])، هذا من عمل الجاهلية، قال: فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين. قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر. قالت: يا خليفة رسول الله، ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت به أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس ([5]).
    قال الخطابي -رحمه الله-: كان من سنة الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت، فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لا يتكلم استحب له أن يتكلم ولا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره؛ لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لا يحل، وأنه من فعل الجاهلية، وأن الإسلام هدم ذلك، ولا يقول مثل هذا إلا عن علم من
    النبي ، فيكون من حكم المرفوع ([6]).


    وقال ابن حجر: وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله فلا يعارض لاختلاف المقاصد في ذلك؛ فالصمت المرغب فيه: ترك الكلام بالباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين، والله أعلم ([7]).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (40) القضاء في عهد الصديق


    علي بن محمد الصلابي



    يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة، والجانب القضائي خاصة، امتدادًا للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.
    وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين:
    1- المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء، والتقيد بما جاء فيه، والسير في ركابه، والاستمرار في الالتزام به.
    2- وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية الواسعة، ومواجهة المستجدات المتنوعة.
    كان أبو بكر رضى الله عنه يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم تفصل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولاية خاصة مستقلة، كما كان الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الناس على مقربة من النبوة، يأخذون أنفسهم بهدى الإسلام، وتقوم حياتهم على شريعته، وقلما توجد بينهم خصومة تذكر؛ ففي المدينة عهد أبو بكر إلى عمر بالقضاء، ليستعين به في بعض الأقضية ولكن هذا لم يعط لعمر صفة الاستقلال بالقضاء.
    وأقر أبو بكر رضى الله عنه معظم القضاة والولاة الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحدهما في عهده، وسوف نأتي على ذكر الولاة وأعمالهم بإذن الله تعالى.
    وأما مصادر القضاء في عهد الصديق رضى الله عنه هي:
    1- القرآن الكريم.
    2- السنة النبوية، ويندرج فيها قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    3- الإجماع، باستشارة أهل العلم والفتوى.
    4- الاجتهاد والرأي، وذلك عند عدم وجود ما يحكم به من كتاب أو سنة أو إجماع.
    فكان أبو بكر رضى الله عنه إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى، فإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس، هل علمتم أن رسول الله قضى فيه بقضاء، فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول عندئذ: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به.
    ويظهر أن الصديق يرى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل الشورى على أمر؛ إذ لا يجوز للإمام مخالفتهم. وهذا ما حكى عنه في القضاء، فإنه كان إذا اجتمع رأى المستشارين على الأمر قضى به وهذا ما أمر به عمرو بن العاص عندما أرسل إليه خالد ابن الوليد مددًا حيث قال له: شاورهم ولا تخالفهم.
    وكان رضى الله عنه يتثبت في قبول الأخبار، فعن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله تعالى شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد ابن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضى الله عنه. كان يرى أن القاضي لا يحكم بعلمه الشخصي، إلا إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم، فقد روى عن أبي بكر رضى الله عنه أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد، لم أعاقبه حتى تقوم البينة عليه، أو يكون معي شاهد آخر.
    وهذه بعض الأقضية التي صدرت في عهد أبي بكر رضى الله عنه:
    أ- قضية قصاص:
    قال علي بن ماجدة السهمي: قاتلت رجلاً، فقطعت بعض أذنه، فقدم أبو بكر حاجًّا، فرفع شأننا إليه، فقال لعمر: انظر هل بلغ أن يتقص منه، قال: نعم، عليَّ بالحجَّام، فلما ذكر الحجام، قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني وهبت لخالتي غلامًا، أرجو أن يبارك لها فيه، وإني نهيتها أن تجعله حجامًا، أو قصابًا، أو صانعًا».
    2- نفقة الوالد على الولد:

    عن قيس بن حازم قال: حضرت أبا بكر الصديق رضى الله عنه، فقال له رجل: يا خليفة رسول الله، هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: إنما لك من ماله ما يكفيك، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنت ومالك لأبيك؟» فقال أبو بكر رضى الله عنه: ارض بما رضي الله به. ورواه غيره عن المنذر بن زياد، وقال فيه: إنما يعني بذلك النفقة.
    3- الدفاع المشروع:


    عن أبي مليكة عن جده أن رجلاً عض يد رجل فأندر ثنيته (قلع سنه)، فأهدرها أبو بكر.
    4- الحكم بالجلد:
    روى الإمام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن أبا بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها، ثم اعترف على نفسه بالزنا، ولم يكن أحصن، فأمر به أبو بكر فجلد الحد، ثم نفى إلى فدك.
    وفي رواية: بأنه لم يجلد الجارية ولم ينفها لأنها استكرهت، ثم زوجها إياه أبو بكر وأدخله عليها.
    5- الحضانة للأم ما لم تتزوج:
    طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية -أم ابنه عاصم- فلقيها تحمله بِمُحَسِّر، ولقيه قد فُطم ومشي، فأخذ بيديه لينتزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال: أنا أحق بابني منك.
    فاختصما إلى أبي بكر، فقضى لها به، وقال: ريحها وحجرها وفرشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه، وفي رواية: هي أعطف وألطف وأرحم وأحن وأرأف، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج.
    هذه بعض الأقضية والأحكام التي حدثت في عهد الصديق رضى الله عنه، هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها:
    - كان القضاء في عهد الصديق امتدادًا لصورة القضاء في العهد النبوي؛ بالالتزام به، والتأسي بمنهجه، وانتشار التربية الدينية، والارتباط بالإيمان والعقيدة والاعتماد على الوازع الديني، والبساطة في سير الدعوى واختصار الإجراءات القضائية، وقلة الدعاوى والخصومات.
    - أصبحت الأحكام القضائية في عصر الصديق موئل الباحثين، ومحط الأنظار للفقهاء، وصارت الأحكام القضائية مصدرًا للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية، والآراء الفقهية في مختلف العصور.
    مارس الصديق وبعض ولاته النظر في المنازعات، وتولى القضاء بجانب الولاية.
    ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدي، وصارت مصادر الأحكام القضائية هي: القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي الاجتهادي مع المشورة.
    هـ- كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف،ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم، وإقامة الحق والشرع على جميع الناس، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام، إن لم ينفذها الأطراف طوعًا واختيارًا، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فورًا.
    - الولاية على البلدان:
    كان أبو بكر يستعمل الولاة في البلدان المختلفة ويعهد إليهم بالولاية العامة في الإدارة والحكم والإمامة، وجباية الصدقات، وسائر أنواع الولايات، وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للأمراء والولاة على البلدان، فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحدًا منهم إلا ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول، ويرضاه، كما حدث لعمرو بن العاص.
    وكانت مسئوليات الولاة في عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه بالدرجة الأولى امتدادا لصلاحياتهم في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، خصوصاً الولاة الذين سبق تعيينهم أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويمكن تلخيص أهم مسئوليات الولاة في عصر أبي بكر وهي:
    أ- إقامة الصلاة وإمامة الناس، وهي المهمة الرئيسية لدى الولاة نظرا لما تحمله من معان دينية ودنيوية، سياسية واجتماعية، حيث الولاة يأمون الناس وعلى وجه الخصوص في صلاة الجمعة، والأمراء دائمًا كانت توكل إليهم الصلاة سواء كانوا أمراء على البلدان أم أمراء على الأجناد.
    ب- الجهاد كان يقوم به أمراء الأجناد في بلاد الفتوح، فكانوا يتولون أموره وما فيه من مهام مختلفة بأنفسهم، أو ينيبون غيرهم في بعض المهام، كتقسيم الغنائم أو المحافظة على الأسرى، أو غير ذلك، وكذلك ما يتبع هذا الجهاد من مهام أخرى كمفاوضة الأعداء وعقود المصالحة معهم وغيرها، ويتساوى في المهمات الجهادية أمراء الأجناد في الشام والعراق، وكذلك الأمراء في البلاد التي حدثت فيها الردة كاليمن والبحرين ونجد، نظرًا لوجود تشابه في العمليات الجهادية مع اختلاف الأسباب الموجهة لهذه العمليات.


    جـ- إدارة شئون البلاد المفتوحة، وتعيين القضاة والعمال عليها من قبل الأمراء أنفسهم، وبإقرار من الخليفة أبي بكر، أو تعيين من أبي بكر رضى الله عنه عن طريق هؤلاء العمال.
    د- أخذ البيعة للخليفة، فقد قام الولاة في اليمن وفي مكة والطائف وغيرها بأخذ البيعة لأبي بكر رضى الله عنه من أهل البلاد التي كانوا يتولون عليها.
    هـ- كانت هناك أمور مالية توكل إلى الولاة أو إلى من يساعدهم ممن يعينهم الخليفة أو الوالي لأخذ الزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، أو أخذ الجزية من غير المسلمين وصرفها في محلها الشرعي، وهي امتداد لما قام به ولاة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص.
    و- تجديد العهود القائمة من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قام والي نجران بتجديد العهد الذي كان بين أهلها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بناء على طلب نصارى نجران.
    ز- كانت من أهم مسئوليات الولاة إقامة الحدود، وتأمين البلاد، هم يجتهدون رأيهم فيما لم يكن فيه نص شرعي، كما فعل المهاجر بن أبي أمية بالمرأتين اللتين تغنتا بذم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفرحتا بوفاته، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في جهاد الصديق لأهل الردة.
    ح- كان للولاة دور رئيسي في تعليم الناس أمور دينهم وفي نشر الإسلام في البلاد التي يتولون عليها، وكان الكثير من هؤلاء الولاة يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والأحكام، وذلك عملاً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعتبر هذه المهمة من أعظم المهام وأجلها في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر، وقد اشتهر عن ولاة أبي بكر ذلك، حيث يتحدث أحد المؤرخين عن عمل زياد والي أبي بكر على حضرموت فيقول: فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك.
    وبهذا التعليم كان للولاة دور كبير في نشر الإسلام في ربوع البلاد التي يتولونها، وبهذا التعليم تثبت أقدام الإسلام سواء في البلاد المفتوحة الحديثة العهد بالإسلام أو في البلاد التي كانت مسلمة وارتدت، وهي حديثة عهد بالردة، جاهلة بأحكام دينها، إضافة
    إلى البلاد المستقرة كمكة والطائف والمدينة، كان بها من يقرئ الناس بأمر من الولاة أو الخليفة نفسه، أو من يعينه الخليفة على التعليم في هذه البلدان .
    وقد كان الوالي هو المسئول مسئولية مباشرة عن إدارة الإقليم الذي يتولاه، وفي حالة سفر هذا الوالي فإنه يتعين عليه أن يستخلف أو ينيب عنه من يقوم بعمله حتى يعود هذا الوالي إلى عمله، ومن ذلك أن المهاجر بن أبي أمية عينه الرسول صلى الله عليه وسلم على كندة، ثم أقره أبو بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يصل المهاجر إلى اليمن مباشرة وتأخر نظرًا لمرضه، فأرسل إلى «زياد بن لبيد» ليقوم عنه بعمله حتى شفائه وقدومه، وقد أقر أبو بكر ذلك، كذلك كان خالد أثناء ولايته للعراق ينيب عنه في الحيرة من يقوم بعمله حتى عودته.
    وكان أبو بكر رضى الله عنه يشاور الكثير من الصحابة قبل اختيار أحد من الأمراء سواء على الجند أو على البلدان، ونجد في مقدمة مستشاري أبي بكر في هذا الأمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما، كما كان أبو بكر رضى الله عنه يشاور الشخص الذي يريد توليته قبل أن يعينه، وعلى وجه الخصوص إذا أراد أن ينقل الشخص من ولاية إلى أخرى، كما حدث حينما أراد أن ينقل عمرو بن العاص من ولايته التي ولاه عليها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ولاية جند فلسطين، فلم يصدر أبو بكر قراره إلا بعد أن استشاره وأخذ منه موافقة على ذلك، كذلك الحال بالنسبة للمهاجر بن أبي أمية الذي خيرة أبو بكر بين اليمن أو حضرموت، فاختار المهاجر اليمن فعينه أبو بكر عليها.
    ومن الأمور التي سار عليها أبو بكر رضى الله عنه أنه كان يعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في تولية بعض الناس على قومهم إذا وجد فيهم صلحاء، كالطائف وبعض القبائل، وكان أبو بكر رضى الله عنه عندما يريد أن يعين شخصا على ولاية يكتب للشخص المعين عهدا له على المنطقة التي ولاه عليها، كما أنه في كثير من الأحيان قد يحدد له طريقه إلى ولايته وما يمر عليه من أماكن، خصوصا إذا كان التعيين مختصا بمنطقة لم تفتح بعد، ولم تدخل ضمن سلطات الدولة، ويتضح ذلك في حروب الردة، وفتوح الشام والعراق، وقام الصديق أحيانا بضم بعض الولايات إلى بعض، خصوصا بعد الانتهاء من قتال المرتدين؛ فقد ضم أبو بكر كندة إلى زياد ابن لبيد البياضي، وكان واليا على حضرموت واستمر بعد ذلك واليا لحضرموت وكندة.
    وكانت معاملة أبي بكر للولاة تتسم بالاحترام المتبادل الذي لم تشبه شائبة، وأما عن الاتصالات بين الولاية وبين الخليفة أبي بكر رضى الله عنه، فقد كانت تجري بصفة دائمة، وكانت هذه الاتصالات تختص بمصالح الولاية ومهام العمل، فقد كان الولاة كثيرًا ما يكتبون لأبي بكر في مختلف شئونهم يستشيرونه، وكان أبو بكر يكتب لهم الإجابة عن استفساراتهم، أو يوجه لهم أوامره، وكانت الرسل تأتي بالأخبار من الولاة، سواء أخبار الجهاد أو قبل ذلك على جهات حروب المرتدين. كذلك كان الولاة يبعثون بأخبار ولاياتهم من تلقاء أنفسهم، وكان الولاة يتصل بعضهم ببعض عن طريق الرسل أو عن طريق الاتصال المباشر واللقاءات، وتتمثل هذه اللقاءات والاتصالات بالدرجة الأولى بين ولاة اليمن وحضرموت بعضهم مع بعض، وكذلك الحال بالنسبة لولاة الشام، الذين كانوا كثيرًا ما يجتمعون لتدارس أمورهم العسكرية بالدرجة الأولى، وكانت كثير من مراسلات أبي بكر رضى الله عنه تختص بحث الولاة على الزهد في الدنيا وطلب الآخرة، وكانت بعض هذه النصائح تصدر على شكل كتب عامة رسمية من الخليفة نفسه إلى مختلف الولاة وأمراء الأجناد.
    هذا وقد قسمت الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى عدة ولايات، وهذه أسماء الولايات والولاة:
    أ- المدينة: عاصمة الدولة وبها الخليفة أبو بكر رضى الله عنه.
    ب- مكة: وأميرها عتاب بن أسيد وهو الذي ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر مدة حكم أبي بكر.
    جـ- الطائف: وأميرها عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقره أبو بكر عليها.
    د- صنعاء: وأميرها المهاجر بن أبي أمية، وهو الذي فتحها ووليها بعد انتهاء أمر الردة.
    هـ- حضرموت: وليها زياد بن لبيد.
    و- زبيد ورقع: ووليها أبو موسى الأشعري.
    ز- خولان: ووليها يعلى بن أبي أمية.
    ح- الجند: وأميرها معاذ بن جبل.
    ط- نجران: ووليها جرير بن عبد الله البجلي.
    ي- جرش: ووليها عبد الله بن ثور.
    ك- البحرين: ووليها العلاء بن الحضرمي.
    ل- العراق والشام: كان أمراء الجند هم ولاة الأمر فيها.
    م- عمان: ووليها حذيفة بن محصن.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (41) موقف علي والزبير رضي الله عنهما من خلافة الصديق


    علي بن محمد الصلابي




    وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق رضي الله عنهما، وكذا تأخر الزبير بن العوام، وجل هذه الأخبار ليس بصحيح إلا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغسيل وتكفين، ويبدو ذلك واضحا فيما رواه الصحابي سالم بن عبيد رضي الله عنه من أن أبا بكر قال لأهل بيت النبي، وعلى رأسهم علي: عندكم صاحبكم، فأمرهم يغسلونه.
    وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوم الثلاثاء. قال أبو سعيد الخدري: لما صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء، فقال له أبو بكر: يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال الزبير: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الزبير، فبايع أبا بكر، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علي بن أبي طالب فدعا بعلي، فجاء، فقال له أبو بكر: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال علي: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي، فبايع أبا بكر.
    ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح أن الإمام «مسلم بن الحجاج» صاحب «الجامع الصحيح» الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد «صحيح البخاري» ذهب إلى شيخه الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة:
    هذا الحديث يساوي بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بدنة فقط، إنه يساوي بدرة مال.

    وعلق على هذا الحديث ابن كثير -رحمه الله- فقال: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جلية، وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، وفي رواية حبيب بن أبي ثابت، حيث قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج علي إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء وهو متعجل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر ثم جلس، وبعث في ردائه، فجاءوه به فلبسه فوق قميصه، وقد سأل عمرو بن حريث سعيد ابن زيد رضي الله عنه، فقال له: أَشَهِدْتَ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال له: متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة. قال: هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد: لا، لم يخالفه إلا مرتد أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه. قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا. لقد تتابع المهاجرون على بيعته!!.
    وأما علي رضي الله عنه فلم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين.
    ويرى ابن كثير وكثير من أهل العلم أن عليا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى؛ أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة.
    وكان علي في خلافة أبي بكر عيبة نصح له، مرجحا لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين، وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجه أبي بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي،
    فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما برز أبو بكر إلى ذي القصة، واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا، فرجع.
    فلو كان علي رضي الله عنه -أعاذه الله من ذلك– لم ينشرح صدره لأبي بكر وقد بايعه على رغم من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك –حاشاه عنه- من كراهته له وحرصه على التخلص منه، أغرى به أحدًا يغتاله، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق

    (42) إنا معشر الأنبياء لا نُورث، ما تركنا صدقة


    علي بن محمد الصلابي



    قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن فاطمة والعباس -رضي الله عنهما-: أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» وفي رواية: قال أبو بكر رضي الله عنه:«لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.

    وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي بكر يسأله ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركنا صدقة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة».
    وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: لذلك قال الصديق: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، وقال: والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته.
    وقد تركت فاطمة -رضي الله عنها- منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: وأما منازعة فاطمة أبا بكر -رضي الله عنهما- في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمنكر؛ لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلما أخبرها بقوله كفت.
    وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها، ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي عليٌّ الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم.
    وقال حماد بن إسحاق: والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر -رضي الله عنهم جميعًا- إنما هو الميراث، حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة». فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق، ولو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما، فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد صلى الله عليه وسلم.
    وأما ما ذكره عدد من الرواة في كون فاطمة -رضي الله عنها- غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت، فبعيد جدًا لعدة أدلة، منها:
    ما رواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبي بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة -رضي الله عنها- لهجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وما فعل إلا امتثالاً واتباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    لقد انشغلت عن كل شيء يحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشئون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول –في كل لحظة من لحظاته- بشئون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها؛ فقد أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أول من يلحق به من أهله، ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يروِ أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران.
    هذا ومن الثابت تاريخيًا أن أبا بكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر فيما يختص بآبائهم شيء من الجور أو الشطط، أو ما يشكونه من الحيف أو الظلم.
    ولما توفيت فاطمة -رضي الله عنها- بعد رسول الله بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقًا به، وقال لها مع ذلك: {أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة}، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة.
    عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وُضعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فو الله لا يصلي عليها غيرك، فصلى عليها أبو بكر، ودفنت ليلاً. وجاء في رواية: صلى أبو بكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليها أربعًا، وفي رواية مسلم، صلى عليها علي بن أبي طالب.
    هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعضاء أهل البيت صلة ودية تقديريه تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمى علي أحد أولاده بأبي بكر، وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمدًا بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله.
    هذه بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق رضي الله عنه، والتزم فيها بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقة وحرص، فرضي الله عنه وعن جميع الصحابة الكرام الطيبين الأبرار.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي


    أبو بكر الصديق

    (43) إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما


    علي بن محمد الصلابي




    كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة العربية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال الجزيرة، وكان أمراء تلك المناطق يُعينون من قبل الدولة الرومانية وينصاعون لأوامرها.

    بعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق، وأرسل دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام، ولكنه عاند وأخذته العزة بالإثم، وكانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة المعالم لهز هيبة الروم في نفوس العرب، ومن ثم تنطلق جيوش المسلمين لفتح تلك الأراضي، فأرسل صلى الله عليه وسلم في العام الثامن للهجرة جيشا واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة، واستشهد قادة الجيش على التوالي زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة رضى الله عنهم، وتولى قيادة الجيش بعدهم خالد بن الوليد رضى الله عنه فعاد بالجيش إلى المدينة النبوية.
    وفي العام التاسع للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم إلى الشام ووصل إلى تبوك، ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ولا القبائل العربية وآثر حكام المدن الصلح على الجزية وعاد الجيش إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك.
    وفي العام الحادي عشر ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين وفيهم كبار المهاجرين والأنصار، وأمرَّ عليهم أسامة رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر: جاء أنه كان تجهيز جيش أسامة رضى الله عنه يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر ودعا أسامة رضى الله عنه فقال: «سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش» وطعن بعض الناس في إمارة أسامة رضى الله عنه فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده».
    ومرض النبي صلى الله عليه وسلم بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين واشتد وجعه عليه الصلاة والسلام فلم يخرج هذا الجيش وظل معسكرا بالجرف ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتغيرت الأحوال مع انتقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رحمة ربه، وصارت كما تصف أم المؤمنين عائشة الصديقة -رضي الله عنها- بقولها: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة واشرأب النفاق. والله قد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزي مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة.
    ولما تولى الخلافة الصديق أمَّر رضى الله عنه رجلاً في اليوم الثالث من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس: ليتم بعث أسامة رضى الله عنه، ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة رضى الله عنه إلا خرج إلى عسكره بالجرف، ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس: إنما أنا مثلكم وإني لا أدري لعلكم تكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق، إن الله اصطفى محمدا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة -ضربة سوط فما دونها – وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد، والوحا الوحا، والنجاء النجاء، فإن وراءكم طالبا حثيثا، مَرُّه سريع، احذر الموت واعتبر بالآباء والأبناء والإخوان ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.
    وقام أيضا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم، أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما، قد توالت عليهم العالات، الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كلا شيء إلا أن الله -عز وجل- قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم
    والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلقا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم. أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]. أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه، وأقاموا للشقاوة أو السعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا ولا يصرف به عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة.

    وفي هذه الخطبة دروس وعبر، منها:
    أ- بيان طبيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليس خليفة عن الله بل عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر غير معصوم لا يطيق مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبوته ورسالته، ولذلك فهو في سياسته متبع وليس بمبتدع؛ أي أنه على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بالعدل والإحسان.
    ب- بيان واجب الأمة في مراقبة الحاكم لتعينه في إحسانه وصلاحه، وتقومه وتنصحه في غير ذلك؛ ليظل على الطريق متبعا غير مبتدع.
    ج- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل بين الأمة فلم يظلم أحدًا، ولذلك ليس لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلم مظلمة صغيرة أو كبيرة، ومعنى هذا أنه سوف يسير على نفس النهج؛ ينشر العدل ويبتعد عن الظلم، ومن ثم على الأمة أن تعينه على ذلك، وإذا رآه أحد غاضبًا فعليه أن يجتنبه حتى لا يؤذي أحدًا فيخالف ما رآه في سياسة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم. والشيطان الذي يعتري الصديق يعتري جميع بني آدم، فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» » قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». وقد جاء في الحديث أيضا: لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلاً فقال: صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما سوءًا»، ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوما كالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا حق.
    د- حرص الصديق على وعظ المسلمين وتذكيرهم بالموت وحال الملوك الذين مضوا، وحثهم على العمل الصالح ليستعدوا للقاء الله عز وجل، ويستقيموا في حياتهم على منهج الله تعالى ، وهنا نلحظ توظيف الصديق لقوة البيان في خطبه وفي حديثه للأمة، وقد كان رضى الله عنه أفصح خطباء النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عنه الأستاذ العقاد: أما كلامه فهو من أرجح ما قيل في موازين الخلق والحكمة، وله من مواقع الكلم أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها، فيغني القليل منها عن الكثير، كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل، فحسبك أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله: «احرص على الموت تُوهب لك الحياة» أو قوله: «أصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة». «الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله». فهي كلمات تتسم بالقصد والسداد كما تتسم بالبلاغة وحسن التعبير، وتنبي عن المعدن الذي نجمت منه فتغني عن علامات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون؛ لأن هذا الفهم الأصيل هو اللباب المقصود من التثقيف، وكانت له صلى الله عليه وسلم لباقة في الخطاب إلى جانب البلاغة في الكلام

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي

    أبو بكر الصديق


    (44) ما تم بين الصديق والصحابة في أمر إنفاذ الجيش



    علي بن محمد الصلابي




    اقترح بعض الصحابة على الصديق رضى الله عنه بأن يبقي الجيش فقالوا: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين. وأرسل أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: إن معي وجوه المسلمين وجلتهم ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسل وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتخطفهم المشركون.
    ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، ولم يسترح أسامة وهيئة أركان حربه لإصرار الخليفة على رأيه، وقد بذلوا لدى الخليفة عدة محاولات كي يقنعوه بصواب فكرتهم، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكر دعا عامة المهاجرين والأنصار إلى اجتماع في المجلس لمناقشة هذا الأمر معهم، وفي هذا الاجتماع دار نقاش طويل متشعب، وكان أشد المعارضين لاستمرار حملة الشام عمر بن الخطاب، مبديا تخوفه الشديد على الخليفة وحرم رسول الله وكل المدينة وأهلها من أن تقع في قبضة الأعراب المرتدين المشركين، وعندما أكثر وجوه الصحابة بهذا الصدد على الخليفة وخوفوه مما ستتعرض له المدينة من أخطار جسام إن هو أصر على تحريك جيش أسامة لغزو الروم، أمر بفض الاجتماع الأول بعد أن سمع الصديق لرأيهم واستوضح منهم إن كان لأحدهم ما يقول، وذلك حتى يعطي إخوانه وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم، ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد، وفي هذا الاجتماع طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه في احتلال المدينة من قبل الأعراب المرتدين، فقد وقف خطيبا وخاطب الصحابة
    قائلاً: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.
    نعم لقد كان أبو بكر مصيبا فيما عزم عليه من بعث أسامة مخالفا بذلك رأي جميع المسلمين؛ لأن في ذلك أمرًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثبتت الأيام والأحداث سلامة رأيه وصواب قراره الذي اعتزم تنفيذه.
    وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سنا من أسامة يتولى أمر الجيش، وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك، فقال عمر رضى الله عنه: فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سنا من أسامة، رضى الله عنه، فوثب أبو بكر رضى الله عنه وكان جالسا فأخذ بلحية عمر رضى الله عنه، وقال له ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، فخرج عمر رضى الله عنه إلى الناس فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثم خرج أبو بكر الصديق رضى الله عنه حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب. وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر -رضي الله عنه- فقال له أسامة رضى الله عنه: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
    ثم قال الصديق رضى الله عنه لأسامة رضى الله عنه: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل. فأذن له، ثم توجه الصديق رضى الله عنه إلى الجيش فقال: يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
    لا تخونوا ولا تُغِلوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منه شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله.
    وأوصى الصديق أسامة -رضي الله عنهما- أن يفعل ما أمر به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قائلاً: اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ ابدأ ببلاد قضاعة ثم إيت آبل ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده.
    ومضى أسامة رضى الله عنه بجيشه، وانتهى إلى ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل فسلم وغنم، وكان مسيرة ذاهبا وقافلاً أربعين يوما.
    وقدم بنعي رسول الله على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبر واحد، فقالت الروم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا؟ وقال العرب: لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •