الأغراض البلاغية للجملة الإعتراضية في القرآن
د. سامي عطا حسن


يأتي الإعتراض - إضافة إلى أنه مؤكد لمفهوم الكلام الذي وقع فيه ، ومقرر له في نفوس السامعين - لأغراض بلاغية كثيرة منها :
1- التنزيه : كقوله سبحانه : ( ويجعلون لله البنات- سبحانه- ولهم ما يشتهون ) (109). فقوله : ( سبحانه ) : معترضة ، للمبادرة إلى تنزيه الله عن اتخاذ البنات ، و – سبحانه - : واقعة موقع المصدر الذي هو التنزيه ، فكأنه قيل : أنزهه تنزيها ، عما يقوله أولئك الخراصون.
( وهم : خزاعة وكنانة ، كانوا يقولون : الملائكة بنات الله تعالى ، وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها. و ( سبحانه ) : تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قولهم ذلك ، أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة ، وهو في المعنى الأول حقيقة ، وفي الثاني مجاز ) (110) ووقوع التنزيه قبل تمام الكلام ، فيه إشارة إلى شناعة هذا الكلام وفظاعته.
3- للتسديد : كقوله سبحانه : ( وإذا بدلناآية مكان آية – والله أعلم بما ينزل – قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) (111):فقوله تعالى - والله أعلم بما ينزل - : ( جملة معترضة بين الشرط وجوابه ، للمسارعة إلى توبيخ المشركين ، وتجهيلهم ) (112).
وأفادت جملة الإعتراض : أن تبديل آية مكان آية ، كان لحكمةيعلمها الله ، فالله عليم بما ينزل من الآيات ، وما سيبدل منها ، ولو حذفت جملة الإعتراض ، لم يكن في الآية إشارة إلى أن تبديل الآيات يتم بعلم الله ، ومن هنا كانت جملة الإعتراض مسددة للمعنى تسديدا تاما. قال الآلوسي : ( والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة ، والتنبيه على فساد رأيهم ، وفي الالتفات إلى الغيبة ، مع الاسناد إلى الاسم الجليل ، ما لا يخفى من تربية المهابة ، وتحقيق معنى الاعتراض. أو حالية ، كما قال أبو البقاء وغيره ) (113)
3- للتنبيه على أمر هام : نحو قوله تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم – ومن يغفر الذنوب إلا الله – ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) (114)
أفاد الإعتراض : الحث على الإستغفار ، والتنبيه على أن الله سبحانه هو الغفور لعباده ، فالمغفرة لا تكون إلا منه سبحانه ، وفي ذلك ترغيب للمذنبين وتنشيط لهم أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل ، غير يائسين من عفوه تعالى ، ورحمته الواسعة. (115).
وورود هذا التركيب – ومن يغفر الذنوب إلا الله – على هذا النحو ، يدل على أمور عدة منها :
أولا :- دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع ، وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار ، فلم يقل : (وما يغفر الذنوب إلا الله )، تقرير لذلك المعنى ، وتأكيد له ، كأنه قيل : هل تعرفون أحدا يقدر على غفران الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ، وسالفها ، وغابرها ، غير من وسعت رحمته كل شيء..؟
ثانيا : - الإتيان بالجمع المحلى باللام في قوله : ( الذنوب ) ، إعلام بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار ، يتلقى بغفران ذنوبه كلها ، فيصير كمن لا ذنب له.
ثالثا : - دلالة النفي بالحصر والإثبات ، على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله ، وذلك أن من وسعت رحمته كل شيئ ، لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا.
رابعا : - في إبداء سعة الرحمة ، واستعجال المغفرة ، بشارة عظيمة ، وتطييبا للنفوس ، فإذا نظر العبد إلى هذه العناية الشديدة ، والإهتمام العظيم في شأن التوبة ، يتحرك نشاطه ، ويهتز عطفه ، فلا يتقاعس عنها. (116)
4- لدفع الإيهام : وذلك كما في قوله تعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ). (117)
عد المفسرون قوله تعالى : ( والله يعلم إنك لرسوله ) جملة معترضة ، مقررة لمضمون ما قبلها من كونه صلى الله عليه وسلم – رسول من عند الله تعالى حقا.
وفائدة الاعتراض : أنه لو اتصل التكذيب بقولهم ، لربما توهم أن قولهم في حد ذاته كذب ، فأتبع بالاعتراض لدفع هذا الإيهام. (118)
قال في حاشية زادة : ( فإن قلت : أي فائدة في أنه جيء بقوله : ( والله يعلم إنك لرسوله ) جملة معترضة ، بين قوله : ( نشهد إنك لرسول الله ) وبين قوله : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ؟ قلنا : جيء بها لفائدة ، وهي : إنه لو قيل : قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يشهد إنهم لكاذبون ، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله تعالى ( والله يعلم إنك لرسوله ) ليزول هذا الوهم. ) (119)
5- للتعظيم : - وذلك كما في قوله تعالى : ( فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم.في كتاب مكنون ) (120)
قال يحيى بن حمزة العلوي : ( ففي هذه الآية إعتراضان :
أحدهما : بجملة اسمية إبتدائية ، وهو قوله : (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) فأتى به إعتراضا بين القسم وجوابه ، وإنماأتى به على قصد المبالغة للمقسم به ، واهتماما بذكر حاله قبل جواب القسم ، وفيه الإعظام له ، والتفخيم لشأنه ، وذلك يكون أوقع في النفوس ، وأدخل في البلاغة.
وثانيهما : بجملة فعلية بين الصفة والموصوف ، وهو قوله ( لو تعلمون ) فإنه وسطه بين الصفة وموصوفها تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمره. كأنه قال : وإنه لقسم لو تعلمون حاله أو تحققتم أمره ، لعرفتم عظمة وفخامة شأنه ، فهذان الإعتراضان قد اختصا بمزيد البلاغة ، وموقع الفخامة مبلغا لا ينال ) (121).
6 - للتوبيخ : - ومما جاء من الإعتراض مفيدا للتوبيخ قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون - ونحن أقرب إليه منكم - ولكن لا تبصرون ). (122)
ذكر المفسرون أن قوله – ونحن أقرب إليه منكم – جملة معترضة بين جملة ( وأنتم حينئذ تنظرون) وجملة ( ولكن لا تبصرون ) ، أفادت أن ثمة حضورا أقرب من حضورهم عند المحتضر ، وأكدت ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم - سبحانه –منهم ، والمعنى : إذا كنتم أيها الجاحدون المكذبون لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب وترهيب ، على لسان رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – قهلا اعتبرتم واتعظتم وآمنتم بوحدانيتنا وقدرتنا ، حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم ، وقد بلغت روحه حلقومه ، أوشكت على أن تفارق جسده ، وأنتم أيها المحيطون بهذا المحتضر العزيز عليكم ، حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة ، التي تنذر بقرب نهايته ، تنظرون إلى ما يقاسيه من غمرات الموت ، وتبصرون ما فيه من شدة وكرب ، وتحرصون كل الحرص على إنجائه مما حل به ، ولكن حرصكم يذهب أدراج الرياح ، ونحن أقرب إليه منكم ، ولكنكم لا تدركون ذلك ، بقدرتنا النافذة ، وحكمتنا البالغة. (123)
7 - لتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر يتعلق بهما :
كما في قوله تعالى : ( ووصينا الإنان بوالديه – حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين – أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) (124). فقوله سبحانه : ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ) ، إعتراض بين قوله ( ووصينا الإنسان بوالديه ) وبين الموصى به ( أن اشكر لي ولوالديك ) ، وفائدة هذا الإعتراض : هو توجيه نظر الأبناء إلى الإهتمام بالأم أكثر من الإهتمام بالأب لضعفها، فذكر ما تكابده الأم ، وتعانيه من المشاق والمتاعب ، في حمله وفصاله ، هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا. (125)
8 - للتعجيز والتحدي : كقوله تعالى : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) (126)
فقوله تعالى ، ( ولن تفعلوا ) جملة معترضة بين الشرط وهو قوله : ( فإن لم تفعلوا ) وبين جوابه ، وهو قوله : ( فاتقوا النار ) ، لا محل لها من الإعراب ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته ، وأن ذلك غير متاح لهم ، ولو تظافرت هممهم عليه.
كما نبه بالاعتراض على عجز المخاطبين في المستقبل ، عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن ، حتى لا يتوهم المخاطبون أنهم قادرون على ذلك في المستقبل ، وإن لم يكونوا قادرين عليه في الماضي ، أو الحاضر.
قال الدكتور تمام حسان : إن قوله : - ولن تفعلوا - : ( اعتراض للتعجيز والتحدي ، بواسطة تأبيد النفي مستقبلا ) (127)
وقال الآلوسي : ( والجملة _ ولن تفعلوا - اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرر لمضمون مقدمها ، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهذه معجزة باهرة ، حيثأخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه ، وقد وقع الأمر كذلك ، كيف لا ، ولو عارضوه بشيء يدانيه ، لتناقلته الرواة ، لتوفر الدواعي. وما أتى به مسيلمة لم يقصد به المعارضة ، وإنما ادعاه وحيا. ) (128)
والمعنى : إن ارتبتم أيها المشركون في شأن القرآن الذي أنزلنا على عبدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - فأتوا بسورة من مثله في سمو الرتبة ، وعلو الطبقة ، ( وادعوا آلهتكم ، وبلغاءكم ، وجميع البشر ليعينوكم ، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله ، في حكمة معانيه ،وحسن بيانه. وفي هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم ، إذ عرض بعدم صدقهم ، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها. ) (129)
هذه نماذج مما ذكره البيانيون ، والمفسرون ، من أغراض بلاغية للجملة المعترضة ، وليس غرضي الإستقصاء ، فذلك أمر بعيد المنال ، لا يتسع له هذا البحث ، وأكتفي من القلادة ما يحيط بالعنق.


من كتاب :


الجملة المعترضة في القرآن .. مفهومها وأغراضها البلاغية -

د. سامي عطا حسن

جامعة آل البيت - المفرق – المملكة الأردنية الهاشمية
(109) - سورة النحل : آية / 57 .
(110) - الآلوسي : روح المعاني ( مرجع سابق ) ج14/ ص 167 . وانظر : دز عبد الفتاح لاشين : المعاني في ضوء أساليب القرآن ، ص 363 .
(111) - سورة النحل : آية / 101 .
(112) - د. محمد السيد طنطاوي : التفسير الوسيط ، ج14/ ص 188 .
(113) - الآلوسي : روح المعاني ( مرجع سابق) ج14/ ص 231 .
(114) - سورة آل عمران : آية / 135 .
(115) - الزمخشري : الكشاف ( مرجع سابق) ج1/ ص 217-218 ، ومحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي : تفسير البحر المحيط . ج3/ ص 59 .
(116) - أبو حيان : البحر المحيط ( مرجع سابق ) ج3/ ص 260 . والآلوسي : روح المعاني ( مرجع سابق ) ج3/ ص 60 .
(117) - سورة المنافقون : آية / 1 .
(118) - انظر : الزمخشري : الكشاف ، ج4 / ص 107 . ومحمد الطاهر بن عاشور : تفسير التحرير والتنوير ج28/ ص 235 ، وشهاب الدين الآلوسي : روح المعاني : ج28/ ص108 .
(119) - محمد بن مصلح المعروف بشيخ زادة : حاشية زادة على تفسير البيضاوي : ح2/ ص 497 .
(120) - سورة الواقعة : الآيات / 75-78 .
(121) - يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني : الطراز . ج2/ ص 169 .
(122) - سورة الواقعة : الآيات / 83- 85 .
(123) - انظر : د. محمد السيد طنطاوي : التفسير الوسيط للقرآن الكريم . ج27/ ص 240 ، والطاهر بن عاشور :تفسير التحرير والتنوير ج27/ ص 342.
(124) - سورة لقمان : آية / 14.
(125) - د. فضل حسن عباس : البلاغة فنونها وأفنانها ( مرجع سابق ) ص 503 . والزمخشري : الكشاف ( مرجع سابق ) ج3/ ص 493 .
(126) - سورة البقرة : الآيتان / 23، 24 .
(127) - د. تمام حسان : البيان في روائع القرآن : ص 184 .
(128) - شهاب الدين محمود الآلوسي : روح المعاني : ج1/ ص 198 .
(129) - د . محمد السيد طنطاوي : التفسير الوسيط ، ج1/ ص 96 .