من حكم الحج وأسراره


أيها المسلم الحبيب: كان من حكمة الله تعالى في تشريع العبادات أنه لم يشرع أي عبادة إلا وجعل لها حِكَماً بالغة، وفوائد جمة، والحج هو من العبادات العظيمة التي يستفيد منها المسلم، ويتعلم منها أسراراً عظيمة، وحكماً جليلة.
وإدراك العبد لحقيقة الحج والحكم والأسرار التي شُرع من أجلها؛ يهيئه لئن يكون حجه مبروراً، إذ القيام بذلك هو مثل الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها أكثر خشوعاً كانت صلاته أكثر قبولاً، وكذلك الحج كلما استوعب المرء حقيقته وروحه، والحِكم والغايات التي شُرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح عقيدته وسلوكه؛ كلما كان حجه أكثر قبولاً، وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج وحكمه.
وهذه الكلمات جمعنا فيها طرفاً من تلك الأحكام والأسرار:
1- فمن حِكَم الحج وأسراره: أن الله جعله سبباً لمغفرة الذنوب، وإزالة الخطايا، فالحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفا والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل، وحسن الظن بالله تعالى.
2- كذلك من الحِكَم: أنه يُقوِّي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر، ويهيج العواطف.
3- ومنها تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها: فالحج يرتكز على تجريد النية لله تعالى، وإرادته بالعمل دون سواه قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}(البقرة:196)، وقال عز وجل في ثنايا آيات الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (الحج:30-31).
4- كذلك من أبرز أسرار الحج وحكمه: أنه يربي العبد على تعظيم شعائر الله وحرماته، وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها أو هتكها قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32).
5- ومن حِكَم الحج أيضاً: التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، ومن ذلك: العفة، وكظم الغيظ، وترك الجدال والمخاصمة قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197)، والرفث هو الجماع ودواعيه من القول والفعل، كذلك يربي على التواضع ونكران الذات، واللين والسكينة، والبذل والسخاء...إلخ.
6- ومن حِكَم الحج: أنه يعمق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية، فالحجاج يجتمعون على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وأوطانهم وأعراقهم في مكان واحد، وزمان واحد، ومظهر واحد، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف والتعاون، والتناصح، وتبادل الخبرات والتجارب، والتفكير، ومشجعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم، والعمل على الرفع من شأنه.
7- ومن الحكم أيضاً: الإكثار من ذكر الله تعالى، فالمتأمل في شعائر الحج يجد فيها التلبية والتكبير والتهليل والدعاء... إلخ، وفي نصوص الوحيين التي تتحدث عنه يجد أن الإكثار من ذكر الله تعالى من أبرز حكم الحج وغاياته، ولعل من تلك النصوص قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}(البقرة:198).
8- ومن حِكم الحج: التعود على النظام، والتربية على الانضباط، ففي الحج قيود وحدود، والتزام وهيئات لا يجوز للحاج الإخلال بها، وهذه الأمور تعوِّد على حب النظام، والمحافظة عليه، وتربي صاحبها على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي.
9- ومن أسرار الحج كذلك: "أن في كل فعل من أفعال الحج تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر، فمن ذلك:
- أن يتذكر بتحصيل الزاد زاد الآخرة من الأعمال، وليحذر أن تكون أعماله فاسدة بالرياء والسمعة فلا تصحبه ولا تنفعه.
- وأن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه؛ لُبسَ كفنه، وأنه سيلقى ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا.
- وإذا سعى بين الصفا والمروة فيمثلها بكفتي الميزان، وتردده بينهما في عرصات القيامة.
- وأما الوقوف بعرفة: فيذكر ما يرى فيه من ازدحام، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات موقف القيامة، واجتماع الأمم في ذلك الموطن، واستشفاعهم"[1].
10- أخيراً فإن من حكم الحج: تلك المنافع الأخرى الدنيوية والأخروية، الفردية والجماعية التي تجل عن الحصر، ويدل عليها تنكير المنافع وإبهامها في قوله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج:27)[2].
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

[1] انظر مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (1/40-41) بتصرف.
منقول