الاختلاط ما يحل وما يحرم
الشريف حاتم العوني



الحمد لله الكبير المتعال، والصلاة والسلام على رسول الله وأزواجه والآل، أما بعد:
لاشك أن الإسلام الذي هو الدين الحق الذي أنزله رب العالمين على المبعوث رحمة للعالمين قد كفل للبشرية ما يحقق سعادتها، إذا ما التزم الناسُ أحكامَه. وهو الدين الوحيد الذي بقي موافقاً للفطرة البشرية، فهو يلبي للإنسان حاجاته الغريزية، ويوازن بينها وبين حاجاته الإيمانية (الروحانية).
فلا هو بالذي ألغى جانب الجسد في الإنسان، كما في رهبانية النصارى، ولا هو بالذي ألغى جانب القلب وتعلّقه بإلهه، كما تفعل حضارة الغرب اليوم.
ومن أمثلة أحكامه المتعلقة بذلك: نظام الإسلام المتكامل في تنظيم علاقة الرجل بالمرأة.
وتفاصيل ذكر هذا النظام فوق ما يحتمله هذا الجواب، لكنه أمرٌ مبذول في كتب ودراسات عديدة.
ومن هذه الأحكام مجموعةُ تدابيرَ شرعها الله - تعالى - من أجل حماية المجتمع المسلم من إحدى أكبر الجرائم وأشد الفواحش فتكاً بالمجتمعات، وهي فاحشة الزنا، التي في شيوعها من الأضرار الظاهرة ما لا يخفى على عاقل، وقد تحدّث عنها العقلاء من جميع الأديان.
ويكفي أن تحريم الزنا في الإسلام تحريم قطعي يقيني؛ لنعلم أنه خبيث لا خير فيه؛ لأن الله - تعالى -لم يحرّم علينا إلا الخبائث: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) [الأعراف: 157].
ولذلك فقد كانت نصوص تحريم الزنا تتضمن بيان خطورة هذه الفاحشة، كما في قوله - تعالى -: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) [الإسراء: 32]، فلم يقف التحذير من الزنا عند النهي عن الوقوع فيه، بل زاد على ذلك النهيَ عن عدم الاقتراب من الوقوع فيه. ثم جاء عليه من الوعيد الشديد، كما في مثل قوله - تعالى -: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً) [الفرقان: 68 69].
كما أن الله - تعالى - قد شرع عقوبة وحدًّا لهذه الفاحشة في الدنيا، وهي حد الزنا المعروف في الفقه الإسلامي. مع قلة العقوبات المحددة للمعاصي في الإسلام؛ مما يدل على غلظ هذا الذنب، وشدة خطورته، وعدم السماح للاجتهادات الشيطانية أن تسوّل لأحدٍ أن يتهاون في شأنه.
وسأضرب هنا أمثلةً لبعض الأحكام التي شرعها الله - تعالى - تحقيقاً لمقصوده من عدم الاقتراب من الزنا:
فمن ذلك ما جاء في قوله - تعالى -: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلنَ قولاً معروفاً وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) [الأحزاب: 32- 33].
فقد نهت هاتان الآيتان نهياً صريحاً عن أمرين: وهما: الخضوع بالقول، وهو اللين في الكلام الذي يُطمع الرجل في المرأة، والتبرجُ الذي هو عبارة عن كل ما تظهره المرأة من محاسنها أمام الرجال الأجانب، من تكسّر في المشي، أو إظهارٍ لما أمر الله - تعالى -بستره. ومن المعلوم الواضح أن الخضوع بالقول وحده والتبرج وحده ليس فيهما مضرة على المرأة أو الرجل؛ إلا أنهما داعيان قويان للوقوع في الزنا، وأنهما ذريعتان إليه. فجاء تحريمهما سدًا للذريعة، وجاء سد هذه الذريعة في كلام الله - تعالى - صريحاً؛ لكي لا يختلف فيهما المسلمون؛ ولكي يعلموا أن سدّ ذريعة الوقوع في الزنا أمرٌ قد أوجبه الله - تعالى -، وليس خاضعاً لاجتهاد عالم، ولا لإنكار منكر.
ومن ذلك أيضاً ما جاء في قوله - تعالى -: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) [النور: 31]. فقد جاء النهي في هذه الآية عن ضرب النساء أرجلهن بالأرض، لكي لا يظهر صوت الخلخال، الذي يلبسه بعض النساء في سيقانهن من حلق الذهب والفضة ونحوها.
فإلى هذا الحد بلغ سد الإسلام لكل ما يمكن أن يكون ذريعةً للفاحشة، وهو وارد في النص الصريح من كلام الله - عز وجل -؛ فلا مجال لإنكاره ولا للنزاع فيه.
ولكل عاقل أن يتفكر في هذا التحريم الوارد في كتاب الله - تعالى -، وأن يسمح لخياله بأن يتصور الأثر الذي يحدثه صوت خلخال المرأة المتحجبة الحجاب الكامل؛ إذا ما سمعه الرجل الأجنبي عنها. وأن يزن هذا الأثر بغيره من وسائل الإغراء والإغواء، فهل سيأتي صوت قرقعة الخلخال في أعلاها أثراً أم في أدناها؟! مع ذلك حرّمه الله - تعالى - من فوق سبع سموات!.
ومن المعلوم أن الله - تعالى - لا يحرم شيئاً لسبب، ثم يبيح شيئاً آخر وُجد فيه سبب التحريم نفسه؛ لأن هذا تناقضٌ وخللٌ، لا تقبله القوانين الوضعية البشرية، فضلاً عن التشريع الإلهي الكامل.
ومعنى ذلك: أن الله - تعالى - لا يمكن أن يكون قد حرّم الخضوع بالقول والتكسّرَ في المشي وضربَ الأرجل لإظهار صوت الخلخال؛ سدّاً لكل ذريعة تُوقع في فاحشة الزنا، ثم يبيح ذريعةً أقوى إليها!.
كما أن جميع العقلاء يعلمون أن النهي عن شيء يتضمن النهي عن كل ما حقق مفسدته، فإن كان تحقق مفسدته بالأمر الآخر أظهر وأقوى، كان حظه من التحريم أكبر، وفيه يقول العقلاء: هو حرامٌ من باب أولى. إذ ما زال الناس يتندرون بفهم من قال: إن قول الله - تعالى -: (فلا تقل لهما أف) [الإسراء: 23]، لا يدل على تحريم ضرب الوالدين؛ لأن هذا الفهم بلغ من البعد عن الصواب حدَّ الطرَف والنوادر.
فمازال العقلاء يرفضون ذلك الفهم البعيد الرفضَ كله، مع أن ضرب الوالدين لم يرد فعلاً في نص الآية؛ فلماذا كان هذا هو موقفهم؟ ولماذا كان ذلك الفهم سقيماً عندهم غاية السقم؟! الجواب هو ما قدمت به هذا الكلام: وهو أن جميع العقلاء يعلمون أن النهي عن شيء يتضمن النهي عن كل ما حقق مفسدته، فإن كان تحقق مفسدته بالأمر الآخر أظهر وأقوى، كان حظّه من التحريم أكبر، وفيه يقول العقلاء: هو حرامٌ من باب أولى.
وهذا المعنى وسابقه هو ما نريد أن نطبقه على الاختلاط المحرم، ولا يصحّ أن يخرج الكلام عن الاختلاط المحرم عن قانون العقل الذي رأينا العقول كلها تأتلف عليه.
أقول ذلك لأقدم به الحديث عن موضوع الاختلاط بين الرجال والنساء، والذي وجدتُ بعضَ الناس فيه بين طرفي نقيض، وقليل منهم من توسّط.
فمن الناس من أباح الاختلاط بكل صوَره، أو بعامتها، حتى تلك الصور التي ما يشك عاقلٌ أنها أولى بالتحريم من الخضوع بالقول وإظهار صوت الخلخال؛ لأنها أقوى منهما في تيسير الوقوع في الفاحشة. بل ربما تجاوز في ذلك حتى أباح ما جاء النص بتحريمه من صور الاختلاط، كالخلوة بالمرأة الأجنبية، التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلون رجل بامرأة؛ إلا ومعها ذو محرَمٍ)) [متفق عليه]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلون أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثُهما)) [أخرجه الإمام أحمد رقم 114، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم والضياء].
ومن الناس من أفرط في جانب منع الاختلاط، حتى منع أو حرّم ما أباح الله - تعالى -: مثل أن تخرج المرأة لحاجتها في سوق لبيع أو شراء، أو نحوه من حاجاتها، ولو كانت متحجبة محتشمة. حتى ربما تجاوز بعضهم في ذلك فمنعها مما جاء النص يمنع من منعهن إياه، كالخروج إلى المسجد للعبادة، وفي حديث ابن عُمر - رضي الله عنهما -، قال: كانت امرأة لِعُمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك، ويغارُ؟ قالت: وما يمنعُه أن ينهاني؟ قال: يمنعُه قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا إماءً الله مساجد الله)) [متفق عليه]، وجاء في رواية عند الإمام مسلم: أن ابناً لعبد الله بن عمر قال: والله لنمنعهن، فقال له عبد الله: أقولُ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول أنت لنمنعهنّ!.
وهذا يبين أن خروج النساء إلى مكانٍ فيه رجال (وهو المسمى بالاختلاط) ليس كله مباحاً ولا كله بالمحرّم، فلا يصح منع كل صوره؛ لأنه يخالف ما عرفناه يقيناً من حياة الصحابيات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من حضور المجامع العظيمة في المساجد وغيرها، ومن خروجهن لحاجاتهن من بيوتهن ومرورهن بالأماكن التي فيها رجال. كما لا يصح إباحته كله؛ لأن بعض صور الاختلاط تتعارض مع النصوص (كالخلوة)، وبعضها الآخر مفسدته أوضح من بعض ما جاءت النصوص بتحريمه، مما سبق ذكر أمثلة له: كالخضوع بالقول، والضرب بالأرجل ليظهر صوت الخلاخيل.
وقد جاءت السنة تبين هذه الحقيقة، وهي حقيقة أن الاختلاط منه ما يحرم ومنه ما لا يحرم: فمن المعلوم أن خروج المرأة إلى المسجد جائز (وسبق الحديث في ذلك)، مع أن المسجد مجمعٌ للرجال، فهذا نوعٌ من الاختلاط. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظم هذا الاجتماع بين الرجال والنساء، لكي لا تحصل مفاسده:
فأولاً: جعل صفوف الرجال وحدها، وصفوف النساء وحدها؛ وهذه أول خطوة لمنع مفاسد الاختلاط.
وثانياً: جعل صفوف الرجال هي الأولى، وصفوفَ النساء هي الأخيرة؛ لكي لا تقع عين الرجال على النساء أثناء الصلاة.
وثالثاً: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخيرُ صفوف النساء آخرُها وشرها أولها)) [أخرجه مسلم]؛ لكي يوضِّح المعنى المقصود من هذا الفصل بين الجنسين، ولكي يضع قاعدةً للاحتياطات التي ينبغي أن تُتّخذ لمنع مفاسد اجتماع الرجال والنساء في مكانٍ واحد، وهي الحرص على التباعد بينهما.
ورابعاً: تأخّر انصراف الرجال من المسجد، حتى يسبقهن النساء في الخروج منه؛ لكي يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تزاحم النساء مع الرجال على الأبواب عند الخروج. كما جاء في حديث أمّ سلمة - رضي الله عنها -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلّم، قام النساءُ حين يَقضي تسليمَهُ، ويمكث هو في مقامه يسيراً، قبل أن يقومَ. قال نرى (والله أعلم) أنّ ذلك كان لكي ينصرف النساءُ قبل أن يدركهن أحدٌ من الرجال))[أخرجه البخاري في صحيحه].
وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - فقهَ هذا الباب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا لما كثرَ المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وخشي عمر من تزاحم الرجال والنساء على أبواب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الدخول، بعد أن نظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخروج، كما سبق = خصص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - باباً لدخول النساء وحدهن، ونهى الرجال من الدخول منه. كما في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، الذي أخرجه أبو داود في سننه [رقم 463 465].
حتى إن ابن عمر لم يدخل من باب النساء قط بعد أن نهى عمر من دخول الرجال منه، حتى مات ابن عمر - رضي الله عنهما -.
وأُذكر هنا: بأن هذه الاحتياطات كلها لمنع مفاسد الاختلاط قد وقع الاحتياطُ بها بين أطهر جيلٍ وأكرم ناسٍ خُلُقاً وأكملهم ديناً، وهو جيل الصحابة - رضي الله عنهم - وحواريُّو المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وليس هذا فقط، بل في حياة سيد الأولين والآخرين وإمام الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وليس هذا فقط، بل في حضرته - صلى الله عليه وسلم -، وأثناء وقوف أصحابه بين يديه؛ مع ما هم عليه - رضي الله عنهم - من إجلالٍ له - صلى الله عليه وسلم -، وهيبةٍ وعظيم توقير.
وليس ذلك في أي حضرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل في مسجده الشريف الذي عظمه الله - تعالى -وكرّمه وخصه بالفضائل.
وليس في مسجده - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل أثناء أداء الصلاة التي هي مقام العبد أمام ربه - عز وجل -، والتي كان الصحابة - رضي الله عنهم - أكثر الناس إدراكاً منها لهذه المعاني الجليلة وأعظمهم استحضاراً لها في قلوبهم.
ومع ذلك كله.. تُتّخذُ تلك الاحتياطات كلها، خشيةً من وقوع الافتتان بين الرجال والنساء.
فينبغي على كل مسلم عند حديثه عن موضوع الاختلاط، أن يستحضر تلك الاحتياطات النبوية له، وأن يزن بها ما يريد أن يقول ويفعل، أين هو منها بعداً أو قرباً.
أما أن يحتج أحد بطواف النساء حول الكعبة مع الرجال، لتجويز صوَر من الاختلاط المحرّم، أو لإنكار تحريم الاختلاط جملةً وتفصيلاً، دون استحضار تلك النصوص القرآنية والمعاني والاحتياطات النبوية، فهو مخطئ بذلك خطأً جسيماً.
ولا يقع أحدٌ في مثل هذا الخطأ الكبير؛ إلا لجهله الشديد بالنصوص القرآنية، وبتلك السنن النبوية، وبهاتيك الاحتياطات المؤيدة بوحي الله - تعالى - إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فإن لم يكن الجهل هو سبب ذلك الخطأ، فهو الهوى، الذي غيّب عنه تلك الحقائق الكبرى الواضحة، حتى أصبح لا يرى إلا ما يريد أن يرى، وإن كان فيما لا يريد أن يرى: الشمسُ في رابعة النهار!.
هل يمكن أن يلغى طواف النساء مع الرجال حول الكعبة تلك الأدلة كلها؟! وبأي حق أقدم هذا الدليل الفريد (لو كان دليلاً) على تلك الأدلة الكثيرة التي لم أذكر إلا طرفاً يسيراً منها آنفاً.
إذ من أراد الحقّ: رجّح الأقوى على الأضعف من الأدلة، وقدم الأكثر على الأقل منها؛ إن أراد الترجيح. أو إن أراد أن يفهم الأدلة التي الأصل فيها عدم التناقض (كأدلة الوحي)، فعليه أن يجمع بين الأدلة بما لا يجعلها متهاترةً متكاذبة.
أما أن يأخذ بدليل (يظنه دليلاً) ويترك خلف ظهره أدلةً عديدة، ويحتجّ بما تنقضه الحججُ الكثيرة، فهذا منهج أهل الجهالة (كما سبق)، أو منهج الذين أخبر الله - تعالى - عنهم، فقال - تعالى -: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)[آل عمران: 7]، وقال - تعالى -: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)[البقرة: 85].
وكيف يتصور عاقل أن الوحي الذي شرع تلك الاحتياطات كلها يُغفل موضوع تنظيم الطواف بالصورة التي تصورها هو منه؛ لأن ذلك يعني التناقض والخلل، والذي لا تقبل القوانينُ الوضعية البشرية أن يُنسب إليها مثله، فضلاً عن التشريع الإلهي الكامل، كما سبق.
فلو افترضنا أن طواف النساء مع الرجال لم يرد فيه ما يوضح حقيقته التي لا تتناقض مع بقية الأدلة، كان الواجب علينا أن نفهمه نحن بما لا يُوجب ذلك التناقض.
لكن الواقع أن طواف النساء مع الرجال قد ورد فيه ما يُوضح صورته التي تأتلف مع بقية الأدلة الواردة في الموضوع، فلا تتناقض معه.
بل سترى كيف أن طواف النساء مع الرجال بعد بيان صورته في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأمره - صلى الله عليه وسلم - سيصبح دليلاً على تحريم ما أراد أن يبيحه ذلك الذي احتجّ به لتجويز الاختلاط، وأنه على النقيض مما أراد منه تماماً!.
فقد جاء في صحيح الإمام البخاري، في كتاب الحج منه، وفي باب طوَاف النساء مع الرجال، ما يلي:
"قال ابن جُريج: أخبرني عطاءٌ، إذ منع بن هشام النساء الطواف مع الرجال. قال: كيف يمنعهن، وقد طاف نساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الرجال. قلت أبعدَ الحجابِ، أو قبلُ؟ قال إي لعمري، لقد أدركته بعدَ الحجابِ. قلت: كيفَ يخالطْنَ الرجالَ؟ قال: لم يكنّ يخالطن، كانت عائشةُ - رضي الله عنها - تطوف حجرةً من الرجال لا تخالطهم. فقالت امرأةٌ انطلقي نستلِمْ يا أم المؤمنين، قالت: عنكِ، وأبتْ. وكن يخرجنَ متنكِّراتٍ بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كنّ إذا دخلن البيت قمنَ حتى يدخلنَ، وأُخرجَ الرجالُ".
ثم أورد أيضاً حديث أم سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: شكوتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي. فقال: طُوفي من وراء الناس، وأنتِ راكبةٌ. فطفتُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ: (والطور وكتاب مسطور).
والحديثان واضحان:
أما الأول: فيدل على أن النساء كنّ يطفن مع الرجال في وقت واحد، لكن كنَّ يطفن غير مخالطات للرجال، في دائرة أبعد عن الكعبة.
ومعنى حجرة: أي معتزلة في ناحية.
وأما الثاني فقد دل على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجه أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - بذلك، حيث قال لها: ((طوفي من وراء الناس)).
وهذا ما فهمه شراحُ صحيح الإمام البخاري، كعلي بن خلف الشهير بابن بطال المالكي المذهب في شرح صحيح البخاري (4/298- 300)، وابن حجر الشافعي المذهب في شرحه فتح الباري (3/480 482 رقم 1618 1619)، وبدر الدين العيني الحنفي المذهب في شرحه عمدة القاري (9/260 162).
وقد جاء في أخبار مكة للفاكهي (1/ 252) عن فقيه الكوفة الأكبر في زمن التابعين إبراهيم النخعي (ت 96هـ)، وهو شيخُ شيخِ الإمام أبي حنيفة، أنه قال: "نهى عمر - رضي الله عنه - أن يطوف الرجال مع النساء".
وهذا تطبيقٌ عملي للسنة النبوية في طواف النساء، كان إبراهيم النخعي ينسبه إلى الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وبذلك يتبين أن طواف النساء مع الرجال حول الكعبة المشرفة لم يكن كهيئته اليوم، ليحتجّ به ذلك المحتج على ما أراد. بل ننتهي بأنه حجةٌ على عدم جواز الاختلاط، حتى في ذلك المكان الطاهر المقدس، وحتى في ذلك الجيل الطاهر المفضّل، جيل الصحابة - رضي الله عنهم -، وفي حضرة أفضل الخلق وحبيب الحق - صلى الله عليه وسلم -، وأثناء أداء عبادة من أشرف العبادات، تُغيِّبُ الشعورَ بالفتنة في استحضار جلال البيت وجلال ربّ البيت - عز وجل -.
فإذا انتهينا من هذا الجواب، والذي أجبت به عن سؤال السائل، أرى أن أتمه بتلخيص فقه هذا الباب، بأن أحاول منع جانب الإفراط فيه والتفريط. وهذا إنما يتم بوضع ضابط للاختلاط المحرم؛ لكي لا يتجاوزه بعضُ أصحاب الغلو إلى جانب تحريم ما أباح الله - تعالى -، ولا يتجاوزه بعضُ أصحاب التهاون والتفلت من أحكام الشريعة إلى جانب تحليل ما حرم الله - تعالى -.
والذي أستطيع أن أضبط به ما يجوز مما لا يجوز من الاختلاط، هو أن الاختلاط المحرم مرجعه إلى ثلاث صور:
الأولى: الذي يمسُّ فيه جسدُ المرأة جسدَ الرجل؛ إذ لا يشك عاقل أن المس أشد فتنة من مجرد سماع صوت الخلخال. بل هو أقوى ذريعة إلى الفاحشة من أكثر الذرائع التي حرمتها النصوص صراحة، كالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من المرأة. ودل على حكم هذه الصورة بوضوح حديثاً المسجد والطواف، بما حرص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم تزاحم الرجال والنساء.
فالاختلاط الذي يحصل فيه نوع مسّ والتصاقٍ لجسد الجنسين ببعضهما محرّمٌ.
الثانية: الاختلاط الذي يحقق الخلوة بين المرأة والرجل، ولو أحياناً لوضوح النصوص في تحريمه، وإطلاقها دون تقييد الخلوة بالطول أو القصر، كما سبق.
الثالثة: دوامُ مُكث الرجل مع المرأة الأجنبية في مكانٍ واحد، ولو لم تتحقق الخلوة، مثل مكاتب الموظفين في دوامها المستمر يومياً؛ إذ لا يشك عاقل أن خلوة المرأة مع الرجل خمس دقائق أو ربع ساعة (وهو محرّم) ليس أخطر عليهما من ذلك المكث الطويل المستمر، وما يسهّله هذا الاجتماعُ المستمر من تبادل الحديث بينهما، وما يحققه من الغفلة عن التحفظ من أسباب الوقوع في شراك الفتنة، وما يؤدي إليه من توسيع مداخل الشيطان بينهما. لا يشك عاقلٌ منصف مبتغٍ للحق في أن هذا اللقاء الدائم، أخطر من خلوة قصيرة، ومن تزاحم لحظة على باب مسجد أو خلال الطواف بالبيت، ومن خضوع بالقول مرّة، ومن قرقعة صوت الخلخال في طريق من طرق المسلمين!.
هذا إن كان الاختلاط لم تصاحبه مخالفاتٌ شرعيةٌ أخرى، كتخفّف من القدر الواجب من الحجاب، أو خضوع بالقول، أو تكسّرٍ في المشي، ونحو ذلك من المحرمات المنصوص عليها.
هذه هي ضوابط الاختلاط المحرّم، وما سواه فهو مباح. فواجب المسلمين أن يتقيدوا بهذه الضوابط، فلا يخرجوا عنها، لا إلى جانب التفريط، ولا إلى جانب الإفراط.
قال - تعالى -: (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) [الأحزاب: 4].
والحمد لله كل الحمد، والصلاة والسلام على محمد، وعلى أزواجه وآله ما تعاقبت شمسٌ وفرقد. والله أعلم.