دروس من الحج


يعتبر الحج ملتقى المسلمين الأكبر، ومؤتمرهم الإسلامي الأعظم، فهو الموعد المضروب لاجتماع المؤمنين من كل فج ليذكروا الله، ويدحروا الشيطان، ويجهروا بالعج والثج.
وفي الحج حكم وعظات كثيرة وعظيمة لعل أحداها هي حكمة الأمن والأمان؛ حيث الناس في شهر حرام، وبلد حرام، يُلقى فيه السلاح، وتحقن فيه الدماء {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِل ِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (سورة العنكبوت:67)، واقرؤوا قول الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}(سورة البقرة:125).
وبسبب هذه القدسية للحرم المقدس فإن مجرد إرادة فعل السوء والإلحاد تكون سبباً لعذاب الله تعالى قال عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة الحج:25)، وفي قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} (سورة الفيل:1-5) أبلغ تأكيد على هذا المعنى.
وقد أصبح الحج شعاراً للتوحيد الخالص بعد أن كان في الجاهلية مزيجاً من الأضداد والمتناقضات، وخلط بين الشرك والتوحيد، ومن ذلك ما ذكره شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله: "أن قبيلة من أهل اليمن كانوا يطوفون بالبيت عراة، فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (سورة الأعراف:28)، وكان أحدهم إذا قدم حاجاً أو معتمراً يقول: "لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دنست فيه"، فيقول: من يعيرني مئزراً؛ فإن قدر على ذلك وإلا طاف عرياناً، فأنزل الله فيه ما تسمعون: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (سورة الأعراف:31)"[1]، وكان سائر الناس يقفون في يوم عرفة على صعيد عرفات، فيما يقف أهل الحرم بالمزدلفة تمييزاً لهم؛ فأنزل الله آيات تعلن المساواة بين الجميع: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا ْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة البقرة:199)، وهكذا كان الحج عند أهل الجاهلية.
والحج أيامه أيام مباركة يكثر فيها ذكر الله، ويرفع فيها الحجيج أصواتهم بالتلبية والتهليل، والتوحيد والتكبير، والتسبيح والتحميد، وهم يعلنون بأفواههم توحيدهم الخالص "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ويرجمون مقام الشيطان إعلاناً لمعاداته، وبراءة من موالاته.
فما أعظمها من لحظات، وما أجملها من وقفات، في تلك المشاهد في عرفات.
هل رأيتم قط شُعثاً أحسن من المحرمين، وهل شاهدتم قط ماءً صافياً أصفى من دموع المتأسفين، وهل ارتفعت أكف، وانبسطت أيدٍ؛ فضاهت أكف الراغبين، وهل لصقت بالأرض جباه أفضل من جباه العابدين.
فهنيئاً لحجاج بيت الله الحرام وهم يندفعون إلى مركز الأمة، وقبلتها الخالدة إلى قيام الساعة، معلنين للناس جميعاً أن الإسلام دينهم، والإيمان شعارهم، والشوق حاديهم، والأمل حافزهم.
هنيئاً لهم ما أحرزوه من أجر، وما كُتب لهم من خير كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) رواه البخاري (1773)، ومسلم (3355)، ولهما عنه رضي الله عنه: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري (1521) واللفظ له، ومسلم (3358).
والمتأمل في الحج إلى بيت الله الحرام يرى أيضاً من المقاصد العظيمة، والفوائد الكثيرة، والمنافع العديدة: تجلي وحدة العقيدة والقصد والهدف، ووحدة الشعائر والمشاعر، ووحدة القلوب والقوالب، وباستشعار هذه الوحدة الإسلامية يتبين لكل مسلم أن الخلاف والمنازعات، والفرقة والخصام الذي أصاب أمتنا اليوم إنما هو من عند أنفسها {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة آل عمران:165)، وجدير بالأمة التي تمثل في هذا الاجتماع الكبير أعلى صور الوحدة والتضامن؛ أن تستمر على ذلك دوماً وأبداً؛ حتى تنتصر على أعدائها {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (سورة آل عمران:126).
ومن الغايات أيضاً: إشعار المسلم بدوره في الأمة، وإدراكه لمسئوليته في الصلاح والبناء، فهو لبنة من لبنات المجتمع المسلم، يشاطره آلامه وآماله، ويعايشه أفراحه وأتراحه.
نسأل الله تعالى أن يلهم هذه الأمة رشدها، وأن يعزها بطاعته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] تفسير الطبري (12/ 393).
منقول