الحج ووحدة الأمة


جلال عجيب .. موقف مهيب .. مشهد رهيب
جموع الحجيج المتوافدة، ومنظر الجباه الساجدة التي تقاطرت من كل فج عميق، قاصدة رحاب البيت العتيق، لتلتقي في أطهر بقعة، وتنيخ ركابها في أقدس محلة.
حينها تنطلق في مخيلتك معالم الوحدة، وتسري في أعماقك معاني الغبطة، وها أنت ترى معلماً واضحاً لاجتماع اللحمة الإسلامية، والجسد المحمدي، تلك الأمة العظيمة التي التقت في موسم الحج العظيم؛ لترسم أروع حدث تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهى حللها، وأروع مظاهرها، وأرفع صورها.
أمة واحدة:
شاء الله سبحانه أن تكون هذه الأمة أمة واحدة لا أمماً متفرقة، ودولة جامعة لا دويلات متمزقة، وكياناً متماسكاً لا كيانات متناثرة، والقرآن يؤكد ذلك في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} سورة الأنبياء (92)، وقال جل جلاله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} سورة المؤمنون (52).
وها هي أمم الكفر في مشارق الأرض ومغاربها ما فتئت تجتمع لاستئصال شأفة أهل الإيمان، وإبادة أهله، والباطل منذ القدم لم يزل يسخر قواه للقضاء على الحق، وتركيع جنده {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} سورة التوبة (32)، والواقع يؤكد تعاون اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، والوثنية الشرقية؛ على قصعة الأمة الإسلامية.
لكن ما إن يرون مشهد المسلمين في الحج كياناً واحداً، ولحمة واحدة؛ قد غابت بينهم الفوارق والحواجز والطبقات، وانصهروا جميعاً في بوتقة
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
حتى تتبدد أحلامهم، ويغصُّون بريقهم، وتغتاظ صدورهم، وتتقطع قلوبهم كمداً وحنقاً.
إن خصوم الإسلام يدركون جيداً أهمية الحج في توحيد الأمة، وإن مما يذكر في ذلك ما كتبه رئيس حملة التبشير التي اجتاحت مصر في أوائل هذا القرن حيث يقول: "سيظل الإسلام في مصر صخرة عاتية تتحطم عليها محاولات التبشير المسيحي؛ ما دام للإسلام هذه الدعائم الثلاث: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي"!
فانظر يا رعاك الله كيف أدرك هذا المبشر ما يصنعه "مؤتمر الحج" الكبير بروحانيته وإيحاءاته، وشعائره ومشاعره في أنفس المسلمين، وكيف يربطهم بأصولهم، ويذكِّرهم بهويتهم وتميزهم، ويعطيهم درساً رائعاً في الانتماء إلى الأمة الكبيرة، الأمة الواحدة، أمة الموحدة، أمة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
تجليات الوحدة
حدِّق بعينيك، تأمل حواليك، أمواج متلاطمة من البشر، ألوف مؤلفة، بل ملايين مملينة، اختلفت ألوانهم، وتناءت ديارهم، واختلفت ألسنتهم، وتعددت لغاتهم، عرب وعجم، هنود وزنج، سود وبيض، حمر وصفر، رجال ونساء، صغار وكبار، لكن جمعهم شيء واحد هو وحدة الغاية والمقصد، وهي رضا الله، اللغة واحدة: لغة التوحيد، واللهجة واحدة: لهجة الصدق، وحدة حقيقية من عاشها تمنى أن يدوم الحج ولا ينتهي.
ثم انظر إلى هذا المشهد الرائع في بطحاء عرفة، وخذ لمحة ذات اليمين وأخرى صوب الشمال، أرجع البصر كرتين هل ترى إلا ثياباً بيضاً قد علت الأبدان، ووجوهاً متوضئة من شتى الأصقاع تناجي الرحمن، التقت في صحراء عرفة، بثياب رثة لا تصلح لخيلاء، ولا تنفع لكبر، نشيدهم العذب: لبيك اللهم لبيك، وحلو كلامهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} سورة البقرة (201)، وجميل منطقهم: ربنا {هَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} سورة آل عمران (8).
وعذب حديثهم: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
وعالي صوتهم: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً.
وزفير أنفاسهم: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم.
وحشرجة صدورهم: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
ونبضات قلوبهم: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وتقلب أبصارهم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} سورة آل عمران (191).
نعم، إنها الوحدة التي أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن تلزم غرزها، وتتمسك بمعصمها، وحذرها من مغبة فرقتها واختلافها، وقد بدا ذلك واضحاً في حجة الوداع، وكانت أقواله صلى الله عليه وسلم محرضة على ذلك: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) رواه مسلم، وعند أحمد في المسند: ((يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد)).
فيا أمة الإسلام: لنتعلم من الحج كيف نتحد، ونوثق أواصرنا، وننسى خلافاتنا, ولنجعل ديدننا أن نجتمع على كلمة سواء، فلن يجمع شملنا، ويرفع كلمتنا، ويعيد مجدنا شيء مثل اجتماعنا على كلمة التوحيد الصافية النقية، وعقيدة السلف المبرأة السوية، وليكن نبراسنا التي نستضيء به قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} سورة آل عمران (103).
ووالله إن مشهد الحجيج ليبعث في النفوس الأمل أن تعود الأمة صفاً واحداً، تنطق من مشكاة واحدة، وتستند إلى مرجعية واحدة، وعزاؤنا أنه {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} سورة إبراهيم (20).
ذلك الحلم الذي أرجوه دوما أن أراك عزيزة والله قادر
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منقول