الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
فإن طلب العلم من أفضل العبادات، وأشرف القربات، وأعظم سبل السعادات،. وطالب العلم، من أعلى الناس مكانةً وفضلًا, وأرفعهم قدرًا وذكرًا, فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا, ولكن ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر
وبلا شك, فإن ورثة الأنبياء هم أعلى الناس منزلة, لأنهم مؤتمنون على تبليغ الرسالة, ومُوَقِّعُونَ, عن رب العالمين تبارك وتعالى، وأعظِمْ بهذه المنزلة، فينبغي على طالب العلم أن يشكر الله على أن اصطفاه لحمل هذه الأمانة، ولتبليغ هذه الرسالة، وعليه أن يعلم أن هذه هي دعوة الأنبياء والمرسلين، ومن بعدهم من العلماء الربانيين.
وطالب العلم في مسيرته يجب أن يصبر على عوائق الطلب،
فإن العوائق كثيرةٌ، والصوارف عديدةٌ، من صبر عليها فهو المُوَفَّقُ
والصبر على عوائق الطلب هو سمة العلماء السابقين، فطريق العلم ليس سهلًا ميسورًا، لكنه محفوفٌ بالعوائق والمكاره
فكم من عالمٍ هجر أهله وبلده، وقطع المَفَاوِزَ من أجل حديثٍ واحدٍ، وما هذا إلا لأنهم أخلصوا لله، وعلموا شرف العلم ومكانته، فهان عليهم كل عسير، وبذلوا في سبيل طلب العلم كل غالٍ ونفيس، فرزقهم الله العلم، وجعلهم أئمةً يُقْتَدَى بهم، ومصابيحَ يُهْتَدَى بها
فهذان عاملان يُهَوِّنَانِ على طالب العلم مشقة الطريق، ألا وهما الإخلاص، ومعرفة فضل العلم وشرفه
وأضف إليهما عاملين آخرين، ألا وهما: مطالعة سير أهل العلم قديمًا وحديثًا، والوقوف على أخبارهم، ثم كثرة الدعاء والتضرع، وسؤال الله التثبيت والإعانة
فأما الإخلاص، فهو أصل الأصول كلها، وهو الذي لا يصح عملٌ بدونه، فلا صلاة إلا بإخلاص، ولا زكاة إلا بإخلاص، ولا صوم إلا بإخلاص، ولا حج إلا بإخلاص، وكذلك لا علم إلا بإخلاص
فإن طالب العلم ينبغي عليه أن يسأل نفسه سؤالًا، ألا وهو: لماذا أطلب العلم؟
وعليه أن يكرر هذا السؤال كلما وصل إلى مرحلةٍ معينةٍ في مسيرة طلبه للعلم، حتى لا تتغير نيته التي كانت في بداية الطلب، فمتابعة النفس بالمحاسبة، ومتابعة القلب بالمراقبة، لهما عظيم الأثر على الطالب
وكم رأينا من طالب علمٍ كان مقبلًا على الطلب بكليته، ثم دخل الغرورُ قلبَه، وصار همه من طلب العلم المفاخرة والمباهاة، وكثرة الجدال والمراء، فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الثبات والعافية.
فقد قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها، أشد على العارفين من طول الاجتهاد.
وأما معرفة شرف العلم ومكانته، فهي التي ينبغي أن لا تخفى على أي طالب علم، لأنه إن كان جاهلًا بها كان من جملة المفرطين، فإن العلم له فضلٌ عظيمٌ، ومكانةٌ عاليةٌ.
وأهل العلم هم أرفع الناس قدرًا، وأعلاهم مكانةً وذكرًا، فهم الذين أراد الله بهم خيرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: من يُرِد الله به خيرًا يفقهه في الدين.
قال الإمام أبو بكرٍ محمد بن الحسين الآجري الشافعي رحمه الله في كتابه "أخلاق العلماء" :
فلما أراد الله بهم خيرًا، فقههم في دينه، وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سُرُجًا للعباد، ومنارًا للبلاد.
وقال رحمه الله: فالعلماء في كل حالٍ لهم فضلٌ عظيمٌ، في خروجهم لطلب العلم، وفي مجالستهم لهم فيه فضلٌ، وفي مذاكرة بعضهم بعضًا لهم فيه فضلٌ، وفي من تعلموا منه العلم لهم فيه فضلٌ، وفي من علموه العلم لهم فيه فضلٌ، فقد جمع الله للعلماء الخير من جهاتٍ كثيرةٍ، نفعنا الله وإياهم بالعلم. إنتهى كلامه رحمه الله. قلت: آمِينَ آمِينَ آمِينَ.
وكذلك فإن العلم طريقٌ موصلٌ إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة.
وهكذا، ينبغي على طالب العلم أن يعرف قدر ما يطلب، ليهون عليه كل عسير، وليصبر على بذل كل نفيس، فمن عرف قدر ما يطلب، هان عليه ما يبذل.
وَمَنْ يَصْطَبِرْ لِلْعِلْمِ يَظْفَرْ بِنَيْلِهِ... وَمَنْ يَخْطُبْ الْحَسْنَاءَ يَصْبِرْ عَلَى الْبَذْلِ.
وأما مطالعة سير أهل العلم وأخبارهم، فلها دورٌ عظيمٌ في رفع همة طالب العلم.
فعليه أن يُكْثِرَ من مطالعتها، لا سيما إذا ضَعُفَتْ همتُهُ، وخارت عَزِيمَتُهُ، فإن فيها رفعًا للهمم، وتقويةً للعزائم. واعلم أنك تسير في طريقٍ سار فيه الربانيون في سائر الأزمان، فاقتبس من نورهم نورًا يهديك في ظلمة الطريق، وخذ من همتهم همةً تقويك أمام العقبات. وأحسن كتابٍ ينفعك في هذا الباب هو كتاب "سير أعلام النبلاء للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى، ففيه من ذلك خيرٌ كثيرٌ، وكذلك كتاب "شرف أصحاب الحديث" للإمام أبي بكرٍ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي الشافعي رحمه الله تعالى، ففيه الكثير من الأخبار التي تشحذ الهمم، وتقوي العزم على مواصلة المسير. فاقرأ وانتفع، واعمل بما قرأت، لعلك تصل كما وصلوا.
وأما كثرة الدعاء والتضرع، فهي سمةٌ يجب أن لا تنفك عن طالب العلم، فطالب العلم ينبغي عليه أن يلتجئ إلى الله عز وجل في سائر أحواله، وأن يسأله الثبات والصبر على عوائق الطلب. فلتكن لك يا طالب العلم خبيءةٌ بينك وبين ربك، تلتجئ بها إليه وقت شدتك وحاجتك، لا يعلمها إلا الله رب العالمين، فكم من شدةٍ انْجَلَت بخبيءةٍ صالحة، وكما قيل: سر الصلاح صلاح السر.
فهذه العوامل الأربعة إن تحققت في طالب العلم قَوِيَ على تحمل أعباء الطريق. وعليه أن لا يتعجل الثمرة، وأن يتصف بالأناة
فإن الطريق إلى الله طويل، وليست الغاية أن نصل إلى نهاية الطريق، ولكن الغاية أن نموت على الطريق.
نسأل الله أن يوفقنا لكل خير، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يثبتنا على دينه.
والحمد لله رب العالمين