تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 17 من 17

الموضوع: مقاصد المكلفين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (1)


    زين العابدين كامل



    لا شك أن أمر النية من أهم الأمور والمسائل التي يجب على كل مسلم أن يهتم بها؛ فهي أصل العمل وروحه، لذا اهتم العلماء قديماً وحديثاً بموضوع النية، وأفردوا لها بعض المصنفات، ومن المصنفات المعاصرة التي اهتمت بدراسة أمر النية كتاب: (مَقَاصِدُ المُكَلفينَ فيمَا يُتعَبَّدُ به لِرَبِّ العَالمين) للدكتور عمر سليمان عبد الله الأشقر، والكتاب في أصله عبارة عن رسالة دكتوراه، جمع فيها مؤلفها المسائل والأحكام التي تخص أمر النية، ونظراً لأهمية هذا الموضوع، فقد عزمت على أن نتناول موضوع الكتاب في مقالات عدة -بمشيئة الله تعالى-، وأود أن أشير إلى أننا لن نطوف كثيراً حول التعريف ببعض المصطلحات الخاصة بكلمة النية ومعناها ومدلولاتها من الناحية النظرية، كالحديث عن الفرق بين العزم والإرادة والقصد ونحو ذلك، ولكننا نريد أن نسلط الضوء ونطيل النفس حول الجانب التربوي والتعبدي، وذلك بذكرنا لبعض أقوال العلماء والصالحين في هذه المسألة، وكذا نذكر شيئاً من قصصهم وأحوالهم في عبادتهم.
    ونؤكد أولاً على خطورة أمر النية في الأعمال فإنَّ مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري -جلَّ وعلا-، وأمر النيات يحتاج دائما إلى تقويم وتهذيب ورعاية؛ وذلك لأن النيات تقع موقع الأرواح من الأعمال، وتقوم مقام الجذور والأصول بالنسبة للأشجار؛ لأن النيّة هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، فهى عمل قلبي، ومما يدل على خطورة أمر النية ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (متفق عليه)، وبهذا الحديث صدر البخاري كتابه الصحيح؛ لأنه أصل عظيم في الدين.
    لذا قال الشافعي -رحمه الله- في هذا الحديث: هو ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه، وقال أحمد -رحمه الله-: أصل الإسلام على ثلاثة أحاديث، حديث عمر، الأعمال بالنيات، وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا، وحديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين، وإذا تدبرنا آيات الكتاب المبين، نجد أن الآيات التي تتحدث عن القصد والنية هي الآيات التي تتحدث عن الإرادة والإخلاص، كقوله -تعالى-: {فَاعْبُدِ الله مخلِصًا لَهُ الدِّينَ}، وقوله {وَمَا أمِرُوا إلاّ لِيَعبدُوا الله مُخْلصِين لَهُ الدِّينَ}وقوله -تعالى-: {فمَنْ كَانَ يَرْجو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيعْمَلْ عَملاً صالحًا، وَلاَ يشْركْ بعبادَةِ رَبِّه أَحَدًا} وفي الحديث الذي ذكرناه آنفا، «إنما الأعمال بالنيات» دليل على أن الأعمال لا تصح ولا تعتبر ولا تقبل إلا بالنية، وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وبين ما يقبل وما يُرد، ومن ثم لم يعتد الشرع أو يعتبر الأفعال التي وقعت دون قصد وإرادة، كالأعمال الصادرة من المجنون والمخطىء والساهي والغافل والنائم ونحو ذلك، فلا يُعتدُّ بها إن كانت طاعات، ولا يعاقب عليها إن كانت معصية.

    فالذي يستمع القرآن بغير قصد الاستماع والتعبد لا يثاب على استماعه، ومن جامع امرأة يظنها زوجته ثم تبين أنها ليست هي فلا عقوبة عليه، ومن أكل أو شرب ناسيا وهو صائم فصومه صحيح، وهكذا، والأدلة على ما ذكرنا من الكتاب والسنة متضافرة، قال -تعالى-: {لاَ يُكَلَفُ الله نَفْسًا إلاّ وُسعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَت، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إن نَسِينَا أوْ أَخْطَأْنَا}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (حديث حسن، أخرجه ابن ماجه، وابن حبان فى صحيحه والحاكم في مستدركه) وكذا كان الحكم برفع القلم عن ثلاثة: «عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر» كما ثبت في الحديث الصحيح، وكذا الناطق بكلمة الكفر مُكرها، وقلبه مطمئن بالِإيمان، لا يؤاخذه الله: {إلاّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيَمانِ}ونس كمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين


    مقاصد المكلفين (2)


    زين العابدين كامل

    أشرنا في المقال السابق إلى خطورة أمر النية، وأن مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري -جلَّ وعلا-، وأمر النيات يحتاج دائما إلى تقويم وتهذيب ورعاية، وذكرنا أن الشرع لم يعتد أو يعتبر الأفعال التي وقعت دون قصد وإرادة، كالأعمال الصادرة من المجنون والمخطىء والساهي والغافل والنائم ونحو ذلك، فلا يُعتدُّ بها إن كانت طاعات، ولا يعاقب عليها إن كانت معصية، وفي هذا المقال نسلط الضوء على مسألة مهمة ألا وهي: أن النيّة هي سر العبودية وروحها.


    يقول ابن حزم -رحمه الله- في هذه المسألة «النية هي سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، ومحال أن يجعل في العبودية عملا لا روح له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب»، والذي يظهر من استقراء الأدلة الشرعية، أن المخاطب والمأمور بالتكاليف الشرعة هو النفس الإنسانية، وأما الجسد فهو الآلة القائمة بتنفيذ الأمر، فإذا قام البدن بعمل معين بلا نية في القلب والنفس، كان ذلك كشجرة لا أصل لها ومن ثم لا فائدة فيها.

    أعمال القلوب

    لذا اهتم الشرع بأعمال القلوب وجاءت النصوص واضحة في ذلك، لأن القلب هو موضع الإيمان، ولابد من إرادة قلبية قبل الشروع في أي عمل من أعمال الجوارح؛ فالقلب هو ملك الأعضاء، وهو مصدر التوجيه، وهو محل الأسرار، والأعضاء هي الجنود والرعايا، يقول الله -تعالى- في حق من قاموا بتحقيق مفهوم الولاء والبراء: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة:22)، وقال -تعالى- {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات:7)، وقال -تعالى-: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14)، والآيات حول هذا المعنى كثيرة.

    ومن السنة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات» (أخرجه البخاري) ويقول أيضاً: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (أخرجه البخاري)، وكان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، وقال أيضاً: «إن القلوبَ بين أُصبعين من أصابِع الله يُقلِّبُها كيف يشاء» (أخرجه أحمد والترمذي وحسنه الألباني)، وليس معنى ذلك أنه يكفي التصديق بالقلب فقط،بل لابد من عمل القلب والجوارح معاً.

    ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة سالفة الذكرعلى أن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب فقط، وأن أعمال الجوارح ليست من الإيمان، يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله-: «أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص»؛ فلابد من قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح. فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ثم إن هذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- وتعظيم الله ورسوله، والتوكل والإخلاص والإنابة والرضا واليقين والخوف والخشية ونحو ذلك،ثم قول اللسان وأعمال الجوارح من صلاة وصيام ونحو ذلك.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (3)


    زين العابدين كامل



    ذكرنا في المقال السابق أن النية هي سر العبادة وروحها، وأن المخاطب والمأمور بالتكاليف الشرعية هي النفس الإنسانية، ثم إن الجسد هو القائم بتنفيذ الأوامر، وتحدثنا عن معنى قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، ونريد في هذا المقال أن نسلط الضوء على مسألة مهمة،ألا وهي: تأثير النية فى الأعمال.

    فالنية تؤثر في الفعل والعمل؛ فيصير تارة حرامًا، وتارة حلالًا، وصورته واحدة، كالذبح مثلا؛ فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لأجل الله، ويحرم إذا ذبح لغير الله، والصورة واحدة، وقد أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى هذه المسألة في كتاب الروح؛ حيث قال: «فالشيء الْوَاحِد تكون صورته وَاحِدَة وَهُوَ منقسم إِلَى مَحْمُود، ومذموم، كالفرح، والحزن، والأسف، وَالْغَضَب، والغيرة، وَالْخُيَلَاء، والطمع، والتجمل، والخشوع، والحسد، وَالْغِبْطَة، والجرأة، والتحسر، والحرص، والتنافس، وَإِظْهَار النِّعْمَة، وَالْحلف، والمسكنة، والصمت، والزهد، والورع، والتخلي، وَالْعُزْلَة، والأنفة، وَالْحمية، والغيبة، وَفِي الحَدِيث: إن من الْغيرَة مَا يُحِبهَا الله وَمِنْهَا مَا يكرههُ؛ فالغيرة التي يُحِبهَا الله الْغيرَة فِي ريبة والتى يكرهها الْغيرَة فِي غير ربية، وَإِن من الْخُيَلَاء مَا يُحِبهُ الله وَمِنْهَا مَا يكرههُ ؛فالتى يحب الْخُيَلَاء فِي الْحَرْب، إلى آخر كلامه -رحمه الله».

    لذا فإن العبد يبلغ بنيته ما لم يبلغ بعمله؛ ولذلك فإنَّ العبد الذي ينوي نيَّة صادقة ولا يستطيع تحقيقها في الواقع فإنه ينال الأجر والثواب بنيته؛ ففي الحديث: «من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» (رواه مسلم).
    لذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: من نوى الخير وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله: كان له أجر عامل، وقال -رحمه الله- أيضا: «الْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً، مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ»(مجم ع الفتاوى)، وهذا المعنى يظهر جليًا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ». (رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني)؛ ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أنه تكفي النية حتى يتحقق هذا الجزاء، ولكن يشترط لذلك أن يكون عاجزًا عن العمل؛ فإن كان قادرًا على العمل كله أو بعضه فإنه يفعل ما يستطيع منه، وقد حمل بعض الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم : «فهما في الأجر سواءٌ»، على أن المراد استواؤهما في أصلِ أجرِ العمل، دون مضاعفته؛ فالقائم بالعمل تحصل له المضاعفة، الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، أما الناوي فقط؛ فيكتب له الثوب بلا مضاعفة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (4)


    زين العابدين كامل



    سلطنا الضوء في المقال السابق على مسألة تأثير النية في العمل، وأن العبد يبلغ بنيته ما لا يبلغه بعمله، ونريد أن نستكمل في هذا المقال الحديث حول المعنى نفسه؛ وذلك نظراً لأهميته، وعلينا أن نتأمل الفرق والتباين بين النيّة التي نريد بها أعمال النّاس في الدنيا ولا نستطيع تحقيقها؛ فهذه في الغالب لا يعترف بها جل الناس تقريباً، ولا يجزون عليها؛ فالناس لا يعترفون إلاّ بما تحقق في واقع الأمر، ولا يعترف بحسن المقصد مع العجز عن العمل إلا النزر اليسير من الناس.

    وهؤلاء أصحاب النفوس الصافية والمعادن النفيسة، كما قال الشاعر:

    لأشْكُرنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِه


    إنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعَروفِ مَعْروف


    أما النيّة التي نريد بها العمل الصالح الذي فرضه الله علينا ابتغاء رضوان الله، ثم نعجزعن فعل ما أردنا، فالنية هنا قيمة كبيرة عند الله، بل هي محلّ نظر الله -سبحانه- كما قال -تعالى-: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لَحُوُمها وَلاَ دِمَاؤُها، وَلَكنْ يَنَالُهُ التقْوَى منْكُمْ} (الحج:37).

    حقيقة العمل

    فالله ينظر إلى حقيقة العمل الذي في القلب لا إلى صورته، والأدلة على هذا المعنى وثبوته متواترة؛ فلقد تُوفي أحد الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد تجهَّز للخروج للجهاد وقتال الكفار؛ فقالت ابنته متحسِّرة: «إن كنت لأرجو أن تكون شهيدًا، قد كنت قضيت جهازك»؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «قد أوقع الله أجره على قدر نيته» (رواه النسائي في سننه (4/ 14)، ومالك في موطئه (كتاب الجنائز 36)، وأحمد في مسنده (5/ 446)، ورواه ابن حبان والحاكم، وإسناده صحيح).

    غزوة تبوك

    وتخلف رجال من المؤمنين عن غزوة تبوك، كانوا يتحرَّقون شوقًا إلى صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يرجون أن ينالوا شرف الخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن حبسهم العذر، بعضهم لم يكن عنده الزاد والراحلة، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، وبعضهم لعلَّه كان مريضا، ومنهم من تخلف عن الرسول[ ليَليَ شؤون المدينة، ويقوم على حمايتها؛ فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة، أن أولئك المتخلفين المعذورين يشاركونهم في الأجر؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر» (رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.).

    المساواة بين أصحاب الأعذار

    وقد أشار القرآن العظيم إلى وقوع المساواة بين أصحاب الأعذار الذين منعهم العذر وبين المجاهدين، قال -تعالى-: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدون َ فِي سبِيل الله بأَمْوالِهمْ وَأنفُسهِمْ} (النساء: 95)، وقد نزلت هذه الآية كما يقول ابن كثير أولًا دون: {أُولي الضَّرَرِ}، وكان عند الله ابن أمّ مكتوم قريبا من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: أَنا ضرير، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت؛ فنزلت: {غيْرُ أولي الضَّرَر} (تفسير ابن كثير (2/ 366)، والحديث تفرد بروايته البخاري دون مسلم كما يقول ابن كثير )؛ فالآية كما يقول ابن كثير، ويرويه عن ابن عباس: تدلُّ على أنَّ {أولي الضرر} يساوون المجاهدين، ما دام الضَّرر قاهرًا، والنية مستقرة في القلوب ، فإذا صدقت النيّات، واستقر الإخلاص في القلب الذي هو مستودع الأسرار ومحل نظر الباري -جل وعلا- ثم عجز العبد عن تنفيذ ما عزم على فعله ابتغاء مرضاة الله ، فإن صاحب النية يعدّ في تعداد العاملين لهذا العمل، وما أحسن قول القائل:


    يَا رَاحليِنَ إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ
    سِرْتُمْ جُسوماً وَسِرنَا نَحْنُ أَرْواحا
    إِنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْر وَعَنْ قَدَرٍ
    وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذرٍ فَقَدْ رَاحَا
    الدنيا لأربعة نفر

    وقد ذكرنا في المقال السابق الحديث الذي أخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «أنَّ الدنيا لأربعة نفر»، وفيه أن الذي لا يملك المال ثم يتمنى أن يكون كفلان الغني كي ينفق ويتصدّق مثله فإنّه يستوي مع الغني المنفق المتصدق في الأجر والثواب، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «فهما في الأجر سواء»، وقال في الفقير الذي يريد مثل مال الغني الجائر الظالم الذي ينفق المال في الذنوب والمعاصي، ليفعل مثل فعله- قال فيه: «هما في الوزر سواء» (رواه الترمذي فى سننه (كتاب الزهد: 17).


    المداومة على العبادة

    ومن ثم فإن العبد الذي ينوي المداومة على عبادة معينة من العبادات كصلاة، أو صيام، أو صدقة، أو غير ذلك من أنواع العبادات، ثم تفوته العبادة لعذر شرعي، كالمرض ونحو ذلك فإنه يُكتب له ما كان يعمله؛ فعن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرىء تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم، إلاّ كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه» (رواه النسائي في السنن: كتاب قيام الليل، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم (3/ 257)، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مرض العبد أو سافر كتب له بمثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (5)


    زين العابدين كامل




    ما زلنا نطوف حول النية وأهميتها للعبد، وفي هذا المقال نسلط الضوء -بمشيئة الله تعالى- على مسألتين جديدتين في أمر النيات، أولها: أن أعمال البدن قد تتوقف بخلاف النية فهي باقية لا تتوقف.

    ومثال ذلك: أمر الهجرة في سبيل الله -تعالى-؛ فلقد هاجر الصحابة -رضي الله عنهم- من مكة إلى بلاد الحبشة في وقت استضعاف، وكذلك هاجر الصحابة -رضي الله عنهم- من مكة إلى المدينة، ولكن عندما انتشر الِإسلام، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وأصبح للإسلام والمسلمين شوكة ومنعة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في العام الثامن من الهجرة فاتحًا منتصرًا، وفي هذا الموطن أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة»، ومعنى الحديث أنه لا هجرة من مكة بعدما فتحها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- جعلها دار إسلام بعد فتحها؛ فلم يبق هناك حاجة إلى الهجرة منها، وليس المعنى نفي الهجرة بالكلية، فالهجرة نفسها باقية؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الصحيح: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة»، وكذلك أيضًا في أمر صلة الأرحام وغير ذلك كثير.

    وأما المسألة الثانية فهي: أن قاصد فعل الخير يُؤجر ويُثاب حتى وإن لم يصب المراد، فإذا قصد العبد القيام بفعل بطاعة يتقرب بها إلى الله -تعالى-، إلاّ أنَّ هذه الطاعة وهذا العمل لم يقع الموقع المناسب فإنّ صاحبه يؤجر ويُثاب بقصده ونيّته، والدليل على ذلك هو ما أخرجه البخاري في صحيحه عن معن بن يزيد، قال:» كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدّق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إيّاك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن» فيزيد الأب لم يقصد توجيه المال الذي أخرجه إلى ابنه معن، ولكنَّ الله أثابه بنيّته الصالحة، وكتب له الأجر، وإن عاد المال إليه، يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث «فقوله - صلى الله عليه وسلم -: لك يا يزيد ما نويت يدل على أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان إذا نوى الخير حصل له، وإن كان يزيد لم ينو أن يأخذ هذه الدراهم ابنه لكنه أخذها وابنه من المستحقين فصارت له»
    ومن أوضح الأدلة أيضًا على هذا المعنى ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «قَال رَجُلٌ لأتَصدقَنَّ بِصَدقَةِ، فَخَرجَ بِصَدقَته، فَوَضَعَهَا في يَدِ سَارِقٍ، فَأصْبحُوا يتَحدَّثُونَ: تَصَدِّقَ الليلة علَى سارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدقَتِهِ، فَوَضَعَهَا في يدِ زانيةٍ، فَأصْبَحُوا يتَحدَّثُونَ تُصُدِّق اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصدقة، فَخَرَجَ بِصَدقَتِهِ، فَوَضَعهَا في يَدِ غَنِي، فأصْبَحُوا يتَحدَّثونَ: تُصُدِّقَ علَى غَنِيٍّ، فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ علَى سارِقٍ، وعَلَى زَانِيةٍ، وعلَى غَنِي، فَأتِي فَقِيل لَهُ: أمَّا صدَقَتُكَ علَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتِعفَّ عنْ سرِقَتِهِ، وأمَّا الزَّانِيةُ فَلَعلَّهَا تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وأمَّا الْغنِيُّ فَلَعلَّهُ أنْ يعْتَبِر، فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ» فهذا الرجل المُتصدّق، وضع جميع صدقاته الثلاث في أيدي أولئك، وهو لا يعلم عن حقيقتهم شيئا؛ فالمؤمن يتحرى ويجتهد في إخراج الصدقة -وهو مأجور حتى ولو وقعت في يد غير أهلها، فهو يؤجر ويثاب على نيته وقصده؛ ولهذا نرى أن العلماء قديمًا وحديثًا على اختلاف تخصصاتهم وفنونهم، قد اهتموا بأمر النيات اهتمامًا بالغاً؛ لما تشكله النية من أهمية كبيرة، فالنيّات تشكل مباحث مهمة في علم الأخلاق، والفقه، والأصول، والتوحيد، وغير ذلك من العلوم والفنون، ولهذا اعتنى بها شراح الحديث ومفسّرو القرآن العظيم، ومما يدلّ على قدر تعظيمهم لأمرها اعتناؤهم بالحديث الذي يعد الأصل في موضوع النيّات، وهو حديث «إنَّما الأعمال بالنيّات» وقد توالت أقوال أهل العلم من السلف على أهمية هذا الحديث وأنه العمدة والأصل الذي لا غنى للمسلم عنه، فلا أجمع ولا أغنى ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (6)



    زين العابدين كامل



    ما زلنا نطوف حول أمر النية وأهميتها للعبد، وقد سلطنا الضوء في المقال السابق على مسألتين وهما: أن أعمال البدن قد تتوقف بخلاف النية فهي باقية لا تتوقف، وأن قاصد فعل الخير يُؤجر ويُثاب حتى وإن لم يصب المراد، وفي هذا المقال نسلط الضوء بمشيئة الله -تعالى- على مسألة أخرى وهي: أن العمل بغير نية كالجثة الهامدة التي لا روح فيها.

    من المعلوم أن الله -تعالى- لا يقبل العمل الذي يُتقرب به إليه إلاّ بأمرين: أن يكون العمل خالصًا لله -تعالى- وهذه هي النية الصالحة، وأن يكون وفق ما جاء به الشرع، فلا تعتريه بدعة، وفي هذا يقول ابن مسعود: «لا ينفع قول إلاّ بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا ينفع قول وعمل ونيّة إلا بما يوافق السنة».

    وبهذا يتضح أن العمل بلا نية لا فائدة منه؛ فالعبادات التي تخلو من النية لا قيمة لها أبدًا؛ لأن الأصل مفقود وهو النية، ولذلك فإن العبادات التي تنبعث بنيّة غير صادقة لا تعد باطلة فحسب، بل يعذَّب صاحبها بسبب قصده الفاسد، كهؤلاء الذين يفعلون العبادات من أجل الدنيا ومن أجل الناس ومن أجل الشهرة ونحو لك؛ فالعبادات التي يقوم بها المراؤون والمنافقون وعباد الدينار والدرهم، وزرها عظيم، وحسابها شديد، ولا قيمة لها على الإطلاق، وصدق الله إذ يقول: {وَقَدمنْا إِلى ما عَمِلُوا منْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباءً منثورا} (الفرقان:23) وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39).

    فهؤلاء الكفار الذين يفعلون الأعمال من باب الرياء والسمعة والشهرة، لا تنفعهم عبادتهم شيئًا؛ لأن نياتهم فاسدة؛ ولذلك رتَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأجر والثواب والمغفرة في كثير من الأعمال على النيّة الصادقة الصالحة، الخالصة من الرياء وإرادة الدنيا، والأدلة في السنة النبوية على هذا المعنى كثيرة، ومنها: يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي). فالصوم الذي تُغفر به الذنوب هو الذّي يقوم به العبد حق قيام لله -تعالى- وحده، إيمانًا بالله وفرضيته للصوم، واحتسابًا للأجر والمثوبة من عند الله -تعالى-، وفي الحديث الآخر يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدَّم من ذنبه « (أخرجه البخاري ومسلم).

    وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد، لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد» (أخرجه البخاري) فهذا هو الشرط، ألا يخرج إلا إلى الصلاة فِي المسجد فقط، فلو خرج لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم يكن خروجه لذلك، لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاص، وإلى هذا ذهب فريق من أهل العلم.


    وكذا الأمر أيضا في اتباع الجنازة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: «من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى يصلي عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين» (متفق عليه) وكذا في أمر المساهمة في الجهاد يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، كان شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» (أخرجه مسلم).

    ولو أردنا أن نتتبع النصوص في هذا الموضوع لطال المبحث، والذي يعنينا هنا أن نعلم أنَّ النيَّة الصالحة روح العمل، والعمل من دونها كالجثة الهامدة التي لا روح فيها، ويؤكد هذا المعنى ويقويه ويوضحه الحديث الذي دائمًا حوله ندندن، «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلٍّ امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» (متفق عليه)؛ ولذا فإن الحساب يوم القيامة يكون على نية العبد.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (7)



    زين العابدين كامل


    ما زلنا نطوف حول أمر النية وأهميتها للعبد، وقد ذكرنا في المقال السابق أن العمل بلا نية لا فائدة منه؛ فالعبادات التي تخلو من النية لا قيمة لها أبدًا؛ لأن الأصل مفقود وهو النية، ونسلط الضوء في هذا المقال -بمشيئة الله تعالى- على مسألة الحساب يوم القيامة؛ فإن الحساب يوم القيامة يكون على نية العبد؛ فهي المقياس الذي يحاسب العباد على أساسه.


    ففي الحديث عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يغزو جيش الكعبة؛ فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم» قالت: يا رسول الله، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم» (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، فهذا الجيش الذي سيتحرك نحو الكعبة لغزوها وهدمها، إذا كان بأرض واسعة متسعة، خسف الله بأولهم وآخرهم، فلما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ورد على خاطر عائشة -رضي الله عنها- سؤال، فقالت: «يا رسول الله كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟» أسوأقهم: أي الذين جاؤوا للبيع والشراء؛ ليس لهم قصد سيء في غزو الكعبة، وفيهم أناس ليسوا منهم تبعوهم من غير أن يعلموا بخطتهم، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «يخسف بأولهم وآخرهم وأسواقهم ومن ليس منهم ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم».

    معنى ذلك أنهم يبعثون على أحوال شتى، لا يبعثون جميعًا على حال واحدة، مع أنهم جاؤوا جميعًا مع هذا الجيش، سواء كانوا من التجار، أم من السوقة، أم غير ذلك، وقد جاء في رواية مسلم: «يهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتى» وفي حديث أم سلمة عند مسلم: فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: يُخسف به، ولكن يبعث يوم القيامة على نيته أي: يخسف بالجميع لشؤم الأشرار ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، وفي رواية عند مسلم «فقلنا: إن الطريق تجمع الناس قال: «نعم فيهم المستنصر لذلك» أي: للمقاتلة «والمجبور» أي المكره «وابن السبيل» أي: سالك الطريق معهم وليس منهم، فقال «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم».

    ومما يدل على هذا المعنى أيضًا ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد، فأُتى به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتى به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» (رواه مسلم)
    ففي هذا الحديث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حال ثلاثة أصناف من الناس، عملوا أعمالاً ظاهرها الصلاح؛ لكنها فقدت شرطاً مهماً ألا وهو الإخلاص لله -تعالى- في أعمالهم؛ فاستحقوا بذلك أن يكونوا أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله، ولهذا لابد أن ننتبه جيدًا لهذا الأمر و أن نخلص العمل لله، وأن نحذر من الرياء ومن كل ما يخل بالعمل أو ينقص من أجره وثوابه يوم القيامة؛ فالحساب يكون على نيات العباد وقدر إخلاصهم لله -تعالى.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين


    مقاصد المكلفين (8)



    زين العابدين كامل

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فما زلنا نطوف حول أمر النية وأهميتها للعبد، وقد ذكرنا في المقال السابق: أن الحساب يوم القيامة يكون على نية العبد، فهي المقياس الذي يحاسَب العباد على أساسه، ثم نود أن نشير إلى أن النيّات هي التي تميز الأعمال، وهذا يدل أيضًا على خطورة أمر النية وما تمثله من أهمية بالغة، فربما تتفق الأعمال في الصورة والمظهر، ولكن يتميز بعضٌها عن بعض بالنيات، وربما كان الفعل الواحد من أعظم الطاعات إذا نوى به صاحبه نيّة صالحة، ويكون كذلك من أعظم الذنوب إذا نوى به نية سيئة، كالناطق بالشهادتين يريد الإسلام حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، فإذا نطق بهما نفاقًا لأجل دنيا فهو بأشر المنازل -والعياذ بالله-.

    وكذا مَن سجد لله -تعالى-، فإذا سجد طاعة وخضوعًا وتعبدًا وانقيادًا، فقد أتى قربة من أعظم القربات، والساجد لغير الله فعله من أعظم الذنوب، وكذا الذبح صورته واحدة، فالذي يذبح لغير الله فقد أذنب وعصى، والذي يذبح لله؛ فقد بر وأطاع، وحقق قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)، وهناك مَن يذبح على سبيل العادة التي تعود عليها.
    ومِن أنواع التمييز أيضًا:
    أن النيات تميز رتب العبادات: فالنية هي التي تميز راتبة الفجر عن فرض الفجر إذا صلاهما المصلي منفردًا، وبها يتميز القضاء عن الأداء، والصدقة المستحبة عن الصدقة الواجبة، وحج الفريضة عن حج النافلة، وتميز بين النوافل: فهذه نافلة العشاء، وهذه نافلة الفجر، وهذه صلاة استخارة، وتلك قيام ليل، وهكذا.
    وكذلك النية تميز بين العبادات والعادات: فالإمساك عن الطعام والشراب قد يكون عبادة وطاعة لله -تعالى-، وقد يكون علاجًا، والطبيب هو مَن أوصى بذلك مثلًا، وغسل أعضاء الوضوء قد يكون قربة، وقد يكون عادة وتنظفًا، فقد نصّ ابن حزم -رحمه الله- في المحلَّى على أنَّ الذي خلط بنية الطهارة للصلاة نية التبرد أو غير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء، برهان ذلك قوله -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدينَ) (البينة:5)، فمَن مزج بالنية التي أُمر بها نيّة لم يؤمر بها فلم يخلص لله -تعالى- العبادة بدينه ذلك، وإذا لم يخلص فلم يأتِ بالوضوء الذي أمره الله -تعالى- به.
    وممَن ذهب هذا المذهب القرطبي -رحمه الله- فقال في تفسيره: "مَن تطهر تبردًا، أو صام محمّا لمعدته، ونوى مع ذلك التقرب، لم يجزه؛ لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية، وليس لله إلاّ العمل الخالص كما قال -تعالى-: (أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:3)، وقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدينَ) (البينة:5)".
    واستدلّ في موضع آخر بآية سورة هود: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) (هود:15)، على أن مَن توضأ لتبرد أو التنظف لا يقع قربة مِن جهة الصلاة، وهكذا كلّ ما كان في معناه،
    وفي انتظار الإمام المأموم في الركعة والركوع قال بعضهم: أخاف أن يكون شركًا، وهو قول محمد بن الحسن، وبالغ بعض أصحاب الشافعي فقال: "إنّه مبطل للصلاة".
    وقال النووي -رحمه الله- في المجموع: "قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأبو يوسف والمزني وداود: لا ينتظر الإمام حال ركوعه القادم كي يدرك الركعة، واحتج لهؤلاء بعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بالتخفيف، وبأن فيه تشريكًا في العبادة".
    ونقل المزني هذا القول عن الشافعي؛ لأن هذا الانتظار يشوب الإخلاص، ويذكر المزني أنه اطلع على رواية أخرى للشافعي يجيز ذلك، ومع هذا فقد رجح الأول، وفي التجارة في الحج قد ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز التجارة. وقال بعضهم، بل تجوز، والأكمل ألا يفعل.
    ونحن لسنا بصدد مناقشة هذه المسائل من الناحية الفقهية، بل ذكرنا مثل هذه الأقوال لنبيِّن فقط خطورة أمر النيات، وأنها تؤثر على العمل تأثيرًا كبيرًا.
    ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (9)

    كتبه/ زين العابدين كامل

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد استعرضنا في المقال السابق بعض الأدلة التي تشير إلى أن النيّات هي التي تميز الأعمال، وهذا يدل أيضًا على خطورة أمر النية وما تمثله من أهمية بالغة، فربما تتفق الأعمال في الصورة والمظهر، ولكن يتميز بعضٌها عن بعض بالنيات، وربما كان الفعل الواحد من أعظم الطاعات إذا نوى به صاحبه نيّة صالحة، ويكون كذلك من أعظم الذنوب إذا نوى به نية سيئة.
    إذًا فالنية هي الأصل وهي المقياس، بل وهي المحول العجيب الذي يحول العادات إلى عبادات، وتحول الأعمال العادية التي تضمحل وتزول بمجرد الانتهاء منها إلى أعمال باقية خالدة يُثاب عليها فاعلها يوم القيامة، فالطعام والشراب والنكاح؛ كل ذلك زائل و ذاهب لا محالة، فإذا قصد العبد به نيّة صالحة واحتسبه لله كان أجره وثوابه، كأن ينوي التقوي بالطعام والشراب على طاعة الله، وكأن يعفَّ نفسه عن الزنا بالنكاح، ويطلب الولد الصالح الذي يعبد الله ويجاهد في سبيله، فإنَّ هذه الأعمال تتحول إلى أعمال باقية صالحة؛ ولذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ) (متفق عليه)، فالشرط هنا أنه يحتسبها لله -تعالى-، وقد قال رجل للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إنيّ أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه حتى نزلت الآية: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110)، (رواه ابن أبي حاتم).
    فاعتبر إفساد النية إفسادًا للعمل وإشراكًا بالله، وهذا بلا شك يجعل العبد يقظًا دائمًا، يسائل نفسه كلما أقدم على عبادة من العبادات: لماذا سأفعلها؟ ويستحضر النوايا الصالحة قبل الشروع فيها؛ ولذا فليس بين العلماء نزاع في أن العبد إذا تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوى في قلبه؛ ذلك لأن النيَّة هي عمل القلب، وهي الأصل، وهي محل نظر الخالق -تعالى-، وهذا ما قاله الشافعي في الحجّ: "لو نوى بقلبه حجًّا، وجرى على لسانه: عمرة أو عكسه، انعقد ما في قلبه دون لسانه" (المجموع، وممَن نص على ذلك أيضًا ابن قدامة في المغني)؛ ولذا قال -تعالى-: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (البقرة:225)، وقال: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة:89)؛ لذا قال السيوطي -رحمه الله-: "إن مَن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصدٍ، فلا تنعقد، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره".
    ولذلك كان الجهر بالنيّة لا يجب ولا يستحب باتفاق علماء المسلمين، ولم يثبت الجهر بالنية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحدٍ مِن أصحابه، ولا عن أحدٍ ممَن يُقتدَى به مِن علماء الإسلام؛ وذلك لأن الأصل ما وقر في القلب ونواه العبد؛ ولذلك فإن الإخلاص هو الدين الذي بعث الله به الرسل جميعًا، فكان محور دعوتهم ولبّها، وهو الدين الذي طالبت به الرّسلُ الأمم التي أرسلت إليها: (وَمَا أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدِّينَ حُنفَاء) (البينة:5)، وكلّ رسول كان يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف:59)، وقد قرّر الله -تعالى- هذه الحقيقة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِلِكَ منْ رَسُولٍ إلاَّ نوحِي إلَيْهِ أنه لاَ إلهَ إلاّ أنَا فاعْبدونِ) (الأنبياء:25)، وقال: (وَلَقَدْ بَعَثنا فِي كلِّ أمَةٍ رَسُولا أن اعْبدوا الله واجْتنبوا الطاغُوتَ) (النحل:36)، والآيات حول هذا المعنى كثيرة جدًّا في القرآن العظيم.

    ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين -10

    كتبه/ زين العابدين كامل



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فقد استعرضنا عدة مسائل في المقال السابق، وذكرنا أن النية هي الأصل وهي المقياس، وهي المحول العجيب الذي يحول العادات إلى عبادات، وأن فساد النية يفسد العمل؛ ولذا فليس بين العلماء نزاع في أن العبد إذا تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوى في قلبه؛ ذلك لأنَّ النيَّة هي عمل القلب.

    ومما يجدر الإشارة إليه في أمر النية: أن مسألة الصدق والإخلاص في النيات من أشقّ الأمور وأعظمها على النفوس، وهذا أمر عام يستوي فيه العلماء مع غيرهم من الناس، حتى صرَّح كثير من العلماء والصالحين أنهم تعبوا في مجاهدة النفس في أمر النية.
    قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما عالجتُ شيئًا عليّ أشدّ من نيتي، إنّها تتقلب علي!"؛ ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يدعو بهذا الدعاء: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكان يكثر في قسمه أن يقول: (لاَ وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ) (رواه البخاري)؛ لأن القلب كثير التقلب والتحول من حال إلى حال، ولقد سُمي القلب قلبًا من كثرة تقلبه، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قلب إلاّ وَهُو َمُعَلقَ بَيْنَ أُصْبُعينِ مِنْ أَصَابِع الرّحمن، إنْ شَاءَ أَقَامَهُ وإنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، والْمِيزانُ بيَدِ الرَّحْمَن، يَرْفَعُ أقْوَامًا، وَيخَفِضُ آخرينَ إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).
    والسبب في كثرة تقلّب القلوب وتحولها من حال إلى حال: يعود إلى كثرة الواردات التي ترد على القلوب، والقلب -كما يقول سهل بن عبد الله-: "رقيق تؤثر فيه الخطرات"، ولا يسلم قلب الإنسان من الشيطان ونزغه ووسوسته وإغوائه، وقد أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يفزع إلى الله -تعالى- مستجيرًا به من نزغات الشيطان ووسوسته: (وَإِما يَنْزَغَنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاستعِذْ بِالله إنهُ سَمِيعٌ عَليِم) (الأعراف:200)، وقد أخبرنا الله -تعالى- عن هذه الوسوسة في القرآن الكريم، قال -تعالى-: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (الناس:4-5).
    وفي الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
    فالقلب يكون دومًا عرضة لمكائد الشيطان، والشيطان يعمل جاهدًا حتى يستولي عليه فيفسده، وبفساده يفسد الجسد كله، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صلَحتْ صَلَحَ الْجَسدُ كله، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَد كلهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْب) (متفق عليه)، ويقول: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ كَالْوِعَاءِ، إِذَا طَابَ أَسْفَلُهُ، طَابَ أَعْلَاهُ، وَإِذَا فَسَدَ أَسْفَلُهُ، فَسَدَ أَعْلَاهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
    ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (11)

    كتبه/ زين العابدين كامل

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فلقد استعرضنا في المقال السابق مسألة مهمة، ألا وهي: أن أمر الصدق والإخلاص في النيات من أشقّ الأمور وأعظمها على النفوس، حتى صرح كثير من العلماء والصالحين أنهم تعبوا في مجاهدة النفس في أمر النية، وذكرنا أن الشيطان إنّما يصارع ويحاول أن يملك القلب ويستولي عليه ليفسده.

    ثم هناك جهة أخرى تؤثر على القلب، وهي النفس، فالنَّفس أمارة بالسّوء، تدعو إلى الطغيان وتأمر بالشرّ كما قال -تعالى-: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف:53)، وقال نبي الله يعقوب -عليه السلام- لأبنائه عندما زعموا أن الذئب قد أكل يوسف -عليه السلام-: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) (يوسف:18)، وقال -تعالى- في حقّ ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل: (فَطَوّعَتْ لَهُ نفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فقتله) (المائدة:30)، ومركب النفس الأمارة بالسوء الهوى والشهوات، فالمسلم لا ينجو إلاّ بمجاهدة الهوى ومصارعته.
    وقد قال الله -تبارك وتعالى- على لسان امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف:53)، والنفس البشرية لو أن الإنسان أطاعها لأوردته الموارد والمهالك؛ لأنها تميل إلى الدعة والخمول، ولا تريد أن تستقيم على طاعة لا سيما ما شق عليها من الطاعات؛، لذا يجب على الإنسان أن يجاهدها وأن يعلم أنه في حرب مع النفس والشيطان والهوى والدنيا، ومِن ثَمَّ يحتاج المسلم إلى قوة تحميه من مكائد الشيطان وميول النفس، فهو يحتاج إلى صحبة الصالحين، وحضور مجالس العلم، والإكثار من قراءة القرآن، والذكر والاستغفار، ولزوم صلاة الجماعة، وكثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك من أنواع العبادات التي تحمي القلب من الزيغ.
    فالسر يكمن في المجاهدة، وقد قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا) (العنكبوت:69)، وعن فَضَالَة بْن عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).
    قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ، وَأَصْلًا لَهُ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا، لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَيُحَارِبهَا فِي اللَّهِ: لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ، وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ: وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ، مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَاهِدْهُ، وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ، حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ؟!" (انتهى).
    هذا وقد وصف الله -تعالى- النفس في القرآن بثلاث صفات: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة بالسوء؛ فالنفس المطمئنة: هي التي رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، وهي النفس التي سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وطاعته وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه -سبحانه وتعالى-، وأنست بقربه، وهي التي يقال لها عند الوفاة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:27-30).
    وسُميت مطمئنة؛ لأنها اطمأنت إلى محبة الله -تعالى- وطاعته، وعبوديته وشرعه، واطمأنت إلى الرضا به ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا وسولًا، فاستسلمت لله -تعالى- وانقادت له.
    وأما النفس اللوامة: فهي التي تلوم صاحبها دومًا، فهي تلومه في حال الطاع، ألا يكون قد أداها على الوجه الأكمل، وكذلك تلومه في حال المعصية على التفريط والوقوع في الزلل، والنفس اللوامة نفس مؤمنة؛ ولذلك أقسم الله بها قائلًا: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:1-2)، قال الحسن: "إن المؤمن -والله- ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قُدمًا لا يعاتب نفسه!".
    وأما النفس الأمارة بالسوء: فهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الأهواء والباطل والضلالات والبدع، وهي الأصل كما قال -تعالى-: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف:53).
    ولذا كان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) (رواه مسلم).
    ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (12)

    كتبه/ زين العابدين كامل

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فلقد طفنا في المقال السابق حول أحوال النفس ومدى تأثيرها على القلب، ونسلِّط الضوء في هذا المقال بمشيئة الله -تعالى- على مسألة مهمة، وهي مدى احتياج النفس البشرية إلى الله -تعالى-، حيث إن الإنسان لن يشعر بالأمان والسعادة والراحة إلا بعبوديته لله -تعالى-، بل لا سبيل إلى تحرر النفس الإنسانية إلا بتوجهها وإقبالها على الله، فإن مفهوم العبودية لله -تعالى- في شريعة الإسلام يعني الحرّية في أرقى صورها وأكمل مراتبها وأفضل أحوالها، حيث إنها تعني التحرر من سلطان المخلوقات، وينحصر التعبد والخضوع والانقياد لله وحده لا شريك له.
    فالإنسان مفطور على أن يتوجه إلى الله -تعالى- وحده بالعبادة والاستعانة، والتوكل، ونحو ذلك، فمتى حُرم الإنسان من هذا التوجه ومِن هذه العبادة؛ فإنه يعيش في شقاءٍ وكدرٍ؛ لأن النفوس بفطرتها تطلب معبودها وخالقها وفاطرها، بل إن التوجه لغير الله -تعالى- في أمر العبودية مخالف للفطرة الإنسانية السوية التي فُطرت على الخضوع للخالق -عز وجل-.
    والتوجّه إلى غير الله -تعالى- فيه ظلم للنفوس وإفساد لها، قال -تعالى-: (وقَدْ خَاب مَنْ دَساها) (الشمس:10)، وقال: (إن الشِّرْكَ لَظلْمٌ عَظيمٌ) (لقمان:13)، وفي المقابل: ترى أن زكاة النفس وإصلاحها يكون بتوجهها لربها، قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكَاهَا) (الشمس:9).
    وأود أن أشير إلى أن الفطرة قد لا تعرف المعبود الحقّ المستحق للعبادة، لكنها تدفع الإنسان إلى التوجه إليه، وقد أرسل الله رسله كي يهدوا الّناس إلى معبودهم الحق، ومقتضى طبع الإنسان أن يصل إلى المعبود الحق، الذي لا غنى له عنه ولا سكون له إلا به، ولا حياة مطمئنة إلا بالركون إليه، قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم:30)، فإذا وصل الإنسان إلى معبوده الحق، فحينها يشعر بالراحة والطمأنينة؛ أما أن يعيش الإنسان وسط متغيرات معوجة، ومعبودات باطلة، فيشرّق ويغرب، فمرة يعبد صنمًا ويؤلهه، ومرة يعبد شمسًا أو قمرًا أو بقرة، فإنه يعيش وسط صراعات نفسية مدمرة، وقد يصل الأمر بالإنسان إلى الانتحار كما نرى في بلاد الغرب، مع أنهم يدعون أنهم يطلبون بذلك الحرية، ويسعون إليها، ويزعمون أنَّ الثورة الفرنسية أعلنت مبدأ الحرية واعتمدته، وأن هيئة الأمم المتحدة أقرته كذلك، وليس الأمر -كما يزعمون-!
    فإنَّ ما فعله هؤلاء، أنَّهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة، إلى عبودية نظام آخر، وقانون آخر، وطائفة أخرى، وأصبح هؤلاء عبيدًا وهم يزعمون أنهم أصبحوا أحرارًا، فلقد ضل هؤلاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ لأن الحرية المزعومة التي تعطشوا لها هي في الحقيقة عبارة عن أوهام وسراب وخداع، فالشيوعية تمنع من ممارسة الحرية التي تمناها هؤلاء، بل وتتحكم في الممتلكات وتُحرم على الناس إبداء آرائهم وأفكارهم، بل هناك ملايين من البشر يسكنون المعتقلات والسجون من جراء تلك الحرية المزعومة، فهم بذلك قد فروا من عبودية الله الواحد القهار إلى عبودية ظالمة باطلة!
    ولقد صدق سفير الإسلام ربعي -رضي الله عنه- عندما واجه قائد الفرس قائلًا: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
    وعلى هذا نقول: إن الخروج مِن الظلمات ليس له سبيل سوى الإسلام، وتحقيق العبودية الكاملة للخالق -جل في علاه-، وكلّ مَن لم يرضَ بالإسلام دينًا، وبحكمه حكمًا، وبرسوله نبيًّا؛ فإنه غارق في قاذورات الجاهلية وظلماتها، كما قال -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).

    ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين


    مقاصد المكلفين (13)

    كتبه/ زين العابدين كامل



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين، وأمر النية والإخلاص، وقد ذكرنا في المقال السابق مدى احتياج النفس البشرية إلى الله -تعالى-، حيث إن الإنسان لن يشعر بالأمان والسعادة والراحة إلا بعبوديته لله -تعالى-، ومَن سعى إلى الحرية وبحث عنها بعيدًا عن عبودية الله فقد ضل سواء السبيل.

    ونسلِّط الضوء في هذا المقال على مسألة مهمة؛ ألا وهي: حكم الإِخلاص في العبادات؛ هل هو شرط لصحة العمل وقبوله أم هو شرط للثواب لا للصحة؟

    قال صدّيق حسن خان: "ولا خلاف في أن الإِخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وممّن نصَّ على ذلك: العزّ بن عبد السلام، قال: إخلاص العبادة شرط، وقد عدّه القرطبي: واجبًا، وابن تيمية: فرضًا، وقد حكم السيوطي ببطلان عبادة مَن نوى بذبحه الأضحية أن تكون لله ولغيره.

    وقال الحطّاب: "فالمخلص في عبادته هو الذي يخلصها مِن شوائب الشرك والرياء؛ وذلك لا يتأتى له إلاّ بأن يكون الباعث له على عملها قصد التقرب إلى الله -تعالى-، وابتغاء ما عنده، فأما إذا كان الباعث عليها غير ذلك من أغراض الدنيا فلا تكون عادة، بل مصيبة موبقة لصاحبها".

    وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الذين يدفعون زكاة أموالهم إلى السلطان خشية أن تٌضرب أعناقهم، أو تنقص حرماتهم، أو تؤخذ أموالهم، وعن الذين يقومون يصلّون خوفًا على دمائهم وأغراضهم، فقال: "عندنا وعند أكثر العلماء، أن هذه العبادة فاسدة؛ لا يسقط الفرض بهذه النية".

    وقد خالف هذا القول بعض فقهاء الأحناف، قال الحموي: "إذا صلى رياءً وسمعة تصحّ صلاته في الحكم، يعني لوجود شرائطها وأركانها، ولم يستحقّ الثواب لفقد الإخلاص"، قال في موضع آخر: "النية الخالصة ظاهرة في حصول الثواب لا الصحة؛ لأنَّ الثواب يٌبنى على وجود العزيمة وهو الإخلاص، وأما الصحة فلا تتوقف على الإِخلاص، بل على أصل النية؛ فإنّه لو صلّى رياءً صحّت صلاته، وكان غير مثاب عليها".

    وقال ابن عابدين: "الإخلاص شرط للثواب لا للصحة، فإنّه لو قيل لشخص: صلِّ الظهر ولك دينار، فصلّى بهذه النية، ينبغي أن يجزيه، وأنه لا رياء في الفرائض في حقّ سقوط الواجب، فهذا يقتضي صحة الشروع مع عدم الإخلاص" (انظر مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، د. عمر الأشقر).

    وبعد هذا العرض نقول: إن الإخلاص شرط للصحة والقبول معًا، فيشترط لقبول العمل شرطان، أن يكون خالصًا لله -تعالى- لا يقصد به إلا وجهه: أن يكون العمل في ظاهره موافقًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعبر العلماء عن هذين الشرطين بقولهم: الإخلاص والمتابعة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الله تَعالَى لاَ يَقْبَل مِنَ العَمَلِ إِلّا ما كَانَ له خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْههُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:15-16).

    ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (14)



    زين العابدين كامل







    فما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألة مهمة وهي: حكم الإِخلاص في العبادات، هل الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله؟ أم هو شرط للثواب لا للصحة؟ ونطوف في هذا المقال بمشيئة الله -تعالى- حول أمر الرياء والعجب والسمعة، ومدى خطورتهم على العبد، والرياء هو: أن يقوم العبد بالعبادة التي يتقرب بها لله، ولا يريد بها وجه الله -عز وجل-، بل يريد عرضًا دنيويًا.



    ومن صور ذلك أن يعمل العمل الصالح، ويطلب به الدنيا، ويصرح بذلك ولا يخفيه، كمن يطلب العلم الديني لقصد الرئاسة والوظيفة، أو يحج لتحصيل مال موعود به وهكذا، أو أن يخفي ذلك في قلبه، فهو يقوم بالعمل ولكنه يبتغي به عرضًا من أعراض الدنيا، وقد عرف العلماء الرياء بتعريفات كثيرة، يقول الحارث المحاسبي في تعريف الرياء: «الرياء إرادة العبدِ العبادَ بطاعة الله» ويقول الغزَّالي: «الرياء التشبه بذوي الأعمال الفاضلة طلبا للسمعة والمفاخرة»، ويقول العز بن عبد السلام: «الرياء إظهار عمل العبادة، لينال مُظهرها عرضًا دنيويًا، إما بجلب نفع دنيوي أو تعظيم أو إجلال» وقال القرطبي: «حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس» وقال ابن حجر: «هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس، فيحمدوا صاحبها» وعرفه أبو بكر بن العربي بقوله: «هو أن يري الناس أنّه يعمل عملًا على صفة، وهو يضمر في قلبه صفة أخرى».

    وهناك أيضًا (السمعة) فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به» (أخرجه البخاري) والفرق بين الرياء والسمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسّة السمع، قال الحافظ ابن حجر: «المراد بالسمعة نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر» فالتسميع على هذا لا يكون إلا في الأمور التي تُسمع, كقراءة القرآن وذكر الله -تعالى- ونحو ذلك، إلاّ أن العز بن عبد السلام يرى أن المراد بالتسميع هو أن يحدّث المرء غيره بما يفعله من الطاعات التي لم يطلع عليها المتحدث، أمّا الرّياء فهي الطاعة التي يظهرها الفاعل كي يراها الناس، وقد يجمع العبد بين هذين الأمرين القبيحين: الرياء والتسميع، يقول العز بن عبد السلام في ذلك: «لو راءى بعبادات، ثمَّ سمَّع موهما لإخلاصهما، فإنه يأثم بالتسميع والرياء جميعا»، والنوع الثالث هو (العُجب) يقول ابن تيمية: «وكثيرًا ما يُقرن الناس بين الرياء والعجب، ثم يفرّق بينهما قائلا: «فالرياء من باب الِإشراك بالخلق، والعجب من باب الِإشراك بالنفس», والعجب بالطاعات إنما يكون نتيجة استعظام الطاعة، وكأنه يمنُّ على الله -تعالى- بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها قال -تعالى-: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}, والمُعجب المغرور بنفسه وبعبادته وطاعته لا يحقّق {وَإِيَّاكَ نسْتعَيِنُ}، كما أن المرائي لا يحقق {إِيّاكَ نَعْبدُ}


    ومتى شُغل العبد بتحقيق {إِياكَ نَعْبُد وَإيّاكَ نَسَتعيِنُ}، خرج عن الرياء والعجب، وفي الحديث: «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (رواه البيهقي في شعب الإيمان) والعُجب آفة تُحبط العمل، يقول النووي -رحمه الله تعالى-: «اعلم أنَّ الإخلاص قد يعرض له آفة العُجب، فمن أُعجب بعمله حبط عمله، وكذلك من استكبر حبط عمله» ونسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يقولون فيعملون ويعملون فيخلصون.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (15)



    زين العابدين كامل


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد،
    فما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألة مهمة وهي: الفرق بين الرياء والعجب والسمعة ، وفي هذا المقال نسلط الضوء على أمر في غاية الأهمية ألا وهو : أسباب الرياء، فما هي الأسباب الداعية إلى الرياء، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه يخاف علينا الشرك الخفي أكثر مما يخاف علينا المسيح الدجال، وما ذلك إلاّ لأنّ الداعي إلى الرياء قويٌّ، إذ النفوس مجبولة على حبِّ الرئاسة والمنزلة في قلوب الخلق إلاّ من سلَّمه الله وعافاه، وقد أحسن الشاعر حيث يقول:
    يَهْوَى الثَّنَاءَ مُبَرِّزٌ وَمُقَصِّرٌ ... حُبُّ الثَّنَاءِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ ، فالأمور التي تدعو إلى الرّياء مغروسة في أعماق النفس الِإنسانية، فعن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا ، وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً ) ( رواه ابن ماجة في سننه وفي إسناده ضعف ولكن معناه صحيح ) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ:" خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ قُلْنَا بَلَى فَقَالَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ " ( رواه ابن ماجة وحسنه الألباني) ولذلك فإن الداعي إلى الرياء هو حب الدنيا والتعلق بها ، وقد قال الله فيها: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحياةَ الدنْيَا} ، وقال تعالى: {بلْ تُحِبُّونَ الْعَاجلَةَ وتَذَرُونَ اْلآخِرَةِ} وقد حصر الحارث المحاسبي حب الظهور والعمل من أجل الناس بسبب ثلاثة أمور: "حبّ المحمدة وخوف المذمة في الدنيا، والطمع لما في أيدي الناس" وقد شرح لنا الحارث المحاسبي حديث أبي موسى الأشعري، وبين دلالته على أن الرياء إنما يبعث عليه الأمور الثلاثة التي ذكرها، فالأعرابي السائل للرّسول صلى الله عليه وسلم، يقول: "يا رسول الله، الرجل يقاتل حمية وَيُقَاتِلُ رِيَاءً؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»؛ ( متفق عليه ) وفي لفظ للحديث: "ويقاتل ليُري مكانة، أيُّ ذلك في سبيل الله"، قال: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ" وهكذا يظهر من خلال الحديث، أن الرجل يقاتل أحيانًا خوفًا من الذم ، أو حمية وعصبية لقومه، أو ليظهر شجاعته ويحصل على الثناء، وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن القتال في سبيل الله إنما هو ما كان لله وحده لا شريك له .
    هذا وقد استثنى الإمام مالك -رحمه الله - وتابعه ابن العربي من هذه الأفعال التي هي رياء، تلك العبادات التي يظهرها العبد، كي تثبت عدالته، وتصحّ إمامته، وليُقْتدى به، قال القرطبي رحمه الله: "قال ابن العربي: إنَّ من صلى صلاة لِيُرِها الناس، ويرونه، فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور، لقبول الشهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج، وإنما الرياء في المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نيّة لا تجزىء وعليه الإعادة ، ويقول الدكتور عمر الأشقر رحمه الله معلقًا على كلام الإمام مالك وابن العربي " وينبغي أن يُحمل كلام مالك وابن العربي في مثل هذه الحال على ما إذا كان القصد إلى هذه الأمور تابعا للِإخلاص، أما إذا كان قصد هذه الأمور متبوعا فهو رياء، لا يخالف فيه مالك ولا غيره، ومع ذلك فقد ذهب كثير من العلماء إلى أنَّ هذا القصد ينافي الإخلاص ويذهبه، وأنّه من الرِّياء، منهم الحارث المحاسبي والقرطبي وغيرهما ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
    ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وأن يجعلنا ممن يقولون فيعملون ويعملون فيخلصون، ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين

    مقاصد المكلفين (16)



    زين العابدين كامل


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد،
    فما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألة مهمة ألا وهي: الأسباب الداعية إلى الرياء، ويدور حديثنا في هذا المقال حول مسألتين هامتين، وهما : ما هي الأمور التي يراءى بها ثم ما حكم العمل المراءى به ، فأما المسألة الأولى فنقول: قد يرائي العبد بنحالة جسده وضعفه، وذلك ليوهم الناس أنه كثير العبادة والحزن والخوف، وقد يرائي العبد بضعف الصوت وذبول الشفتين وإظهار التعب والجهد ، وذلك ليعرف الناس أنه كثير الصيام، وقد يرائي العبد بتشعيث رأسه ولبس الثياب البالية، ليظهر أمام الناس أنه من العبّاد والنساك والزهاد، وقد يحرص على إبراز أثر السجود في جبهته، وقد يكون رياؤه بالنطق بالحكمة والموعظة وإقامة الحجة عند المجادلة والمناقشة، وقد يرائي عند إلقاء الدروس والمحاضرات والمواعظ حيث يظهر الفهم والعلم، وقد يكون بإظهار الذكر لله -عز وجل- باللسان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتحسين الصوت بالقراءة، وقد يكون بإظهار التأسف على ما يفوت من الخير والطاعة وقد يكون بإطالة الصلاة ، كأن يطيل في الركوع والاعتدال منه أو السجود ونحو ذلك ، وقد يرائي بالحج والعمرة والنفقة على الفقراء والمساكين، وقد يرائي بصحبة العلماء والصالحين بأن يحرص على أن يسير مع العلماء وأهل الصلاح ويكثر من مجالستهم.
    والغرض المقصود أن الرياء من الممكن أن يقع في كل الأعمال والطاعات، ولذا فأمره خطير ولابد من مجاهدة النفس في أمر الإخلاص.
    وأما عن المسألة الثانية وهي: حكم العمل المراءى به، فالواجب على كل مسلم أن يُخلص عمله لله عز وجل، وألا يبتغي بعمله إلا وجهه تعالى ،وقد بينا ذلك في مقالات سابقة،
    والعمل الذي يخالطه رياء ينقسم إلى نوعين، فالنوع الأول أن يكون الرياء في أصل العمل،أي لا يقصد فيها العابد الثواب والجزاء من الله ، إنما قصده كله أن ينال منزلة ومحمدة وثناءً عند الناس، فهذا النوع محبط للعمل بالكلية، وقد سمّى ابن رجب هذا النوع من الرياء بالرياء المحض، يقول ابن رجب في هذا: "العمل على هذا النحو لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحقُّ المقت من الله والعقوبة"
    والنوع الثاني أن يكون قصد الرياء مصحوبا بقصد الثواب، أو أنه بدأ العمل خالصًا لله ثم طرأ عليه الرياء، وهذا النوع اختلفت فيه آراء العلماء، والذي رجحه الحافظ ابن رجب، أن العمل لا يحبطُ في هذه الصورة،
    قال رحمه الله: واعلم أن العمل لغير الله أقسام، فتارة يكون رياءً محضًا بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال الله عز وجل: (‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ ) {النساء142} وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز. وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه‏،‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره فإن كان خاطرًا ودفعه فلا يضره بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته ،في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.
    وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية.
    وقال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين: وشوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يُطَّلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر، ومفسداً للعمل بل فيه تفصيل.
    وهكذا فإن الرياء هو أحد أمراض القلوب التي تحبط الأعمال أو تنقص أجرها، ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,489

    افتراضي رد: مقاصد المكلفين


    مقاصد المكلفين (17)



    زين العابدين كامل



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فما زلنا نطوف حول مقاصد المُكلفين، وأمر النية والإخلاص، وقد سلَّطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألتين مهمتين، وهما: ما الأمور التي يُراءَى بها، ثم ما حكم العمل المراءى به، وفي هذا المقال نتعرض لمسألة مهمة وهي في غاية الخطورة، ألا وهي: ترك العمل خشية الرياء، وهذه المسألة قد عانى منها كثير من الناس، من السلف والخلف.

    فإن الله -تعالى- قد أمرنا بعبادته مخلصين له الدين، وفي النفس نوازع تدعونا إلى الميل عن صراط الله المستقيم، ومن هذا الميل عن الإخلاص، وهنا انقسم الناس من أجل مجاهدة الرياء، وقد اتجهوا اتجاهات مختلفة؛ فريق منهم أراد مجاهدة الرياء حتى يقتلعه من جذوره، فلا يبقى في نفسه ميل البتة إلى الرياء، بل ولا خاطر يدعو إليه، وهؤلاء طلبوا عظيمًا وراموا مستحيلًا "فالناس لم يؤمروا أن يُخرجوا وساوس إبليس أن تعترض في صدورهم، ولم يؤمروا بأن يغيروا خلقهم وطباعهم، حتى تصير لا تنازع إلى معنى من زينة الدنيا من رياء ولا غيره، حتى تكون طبائعهم الحمد فيها مكروه، والذم فيها محبوب" (الرعاية لحقوق الله، للحارث المحاسبي)؛ لم يؤمر العباد بذلك أبدًا، فهذا أمر غير مقدور، والله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، والجهود التي تبذل في غير مكانها جهود ضائعة، لا تعود على صاحبها بفائدة.

    ولا شك أن بعض الأمور التي دعانا الله إليها مكروهة للنفوس كما قال -تعالى-: (كُتِبَ عَليْكُم الْقِتَال وهُوَ كُرْهٌ لكمْ) (البقرة:216)، وبعض الأمور التي نُهينا عنها محبوبة للنفوس كما قال -تعالى-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) (فاطر:6)، فحب المعاصي من الرياء والشهوات لا إثم فيه، وكراهية فعل بعض المأمورات لا إثم فيه، وقد أوضح ابن عبد السلام هذه المسألة فقال: "وليس حب الرياء ولا غيره من جميع المعاصي معصية، فإن أطلق عليه اسم الرياء كان ذلك مجازًا من تسمية السبب باسم المسبب، وكل شيء حرمه الله -تعالى- فلا يأثم مشتهيه بشهوته، وإنّما بعزمه عليه وإرادته، ثم بملابسته".

    ومن هنا جاءت هذه المسألة: هل حب المعصية مع تركها لله لا يجوز؟ أم يُعد نفاقًا؟

    والجواب: إن محبة المعصية -مع عدم فعلها- إن كانت هذه المحبة لا تستقر في القلب، بمعنى أن صاحبها ينازعها ويجاهد نفسه في تركها، وفي تحقيق محبة الله، فهو على خير وجهاد، لا على إثم ونفاق.

    قال ابن القيم -رحمه الله- في الفوائد: "وَقد كتبُوا إِلَى عمر بن الْخطاب يسألونه عَن هَذِه المسالة أَيّهمَا أفضل: رجل لم تخطر لَهُ الشَّهَوَات وَلم تمر بِبَالِهِ، أَو رجل نازعته إِلَيْهَا نَفسه فَتَركهَا لله؟ فَكتب عمر: أَن الَّذِي تشْتَهي نَفسه الْمعاصِي وَيَتْرُكهَا لله -عز وَجل- مِن الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مغفرة وَأجر عَظِيم"، إلى أن قال: "صَاحب خواطر الشَّهَوَات والمعاصي كلما مرت بِهِ فَرغب عَنْهَا إِلَى ضدها ازْدَادَ محبَّة لضدها ورغبة فِيهِ، وطلبًا لَهُ وحرصا عَلَيْهِ، فَمَا ابتلى الله سُبْحَانَهُ عَبده الْمُؤمن بمحبة الشَّهَوَات والمعاصي وميل نَفسه إِلَيْهَا إِلَّا ليسوقه بهَا إِلَى محبَّة مَا هُوَ أفضل مِنْهَا وَخير لَهُ وأنفع وأدوم، وليجاهد نَفسه على تَركهَا لَهُ -سُبْحَانَهُ-، فتورثه تِلْكَ المجاهدة الْوُصُول إِلَى المحبوب الْأَعْلَى، فَكلما نازعته نَفسه إِلَى تِلْكَ الشَّهَوَات واشتدت إِرَادَته لَهَا وشوقه إِلَيْهَا، صرف ذَلِك الشوق والإرادة والمحبة إِلَى النَّوْع العالي الدَّائِم، فَكَانَ طلبه لَهُ أَشد وحرصه عَلَيْهِ أتم".

    وأما إذا استقرت محبة المعصية في قلب العبد، وتلذذت نفسه بذكرها، ولم يجاهد نفسه في دفعها، فهو عاص، ومحبته غير جائزة، والغرض المقصود: أن مجرد الميل والحب لا يحاسَب عليه الإنسان.

    وأما الفريق الثاني -وهم مَن نقصدهم بحديثنا-: فعمل عكس ما عمله هؤلاء، فعندما يُدعى إلى فعل خير أو تدعوه النفس إلى عمل خير، يعرض في نفسه عارض الرياء، فيخشى مِن هذا الخاطر أن يكون، فيُعرض عن العمل خوفًا من الرياء، وهذا قد هرب من شرٍّ ووقع فيما هو أشدَّ منه أو مثله، وقد تنبه العلماء الأعلام إلى هذا المزلق الخطر فحذروا منه.

    قال القاضي عياض -رحمه الله-: "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك"؛ قال النووي -رحمه الله- معلّقًا على كلام القاضي: "ومعنى كلامه -رحمه الله تعالى-: أن مَن عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مُراء؛ لأنَّه ترك العمل لأجل الناس، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب، إلاّ أن تكون فريضة أو زكاة واجبة فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل" (للمزيد: راجع مقاصد الكلفين للدكتور عمر الأشقر).


    ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •