أمَّا قَبلُ ؟!
سمعنا جميعا بـ ( أما بعدُ ) وأنها فصلُ الخطاب ، وأن أول من قالها - على الأرجح - هو نبي الله داودُ عليه السلام ، لكنني أقول لكم الآن :
( أمَّا قبلُ ) ؟! فلم عكستُ الأمر ؟!!
وهل بذلك أصبحتُ مغرداً خارج السِّرب ؟!
أحبابي : إن ما أعنيه باختصار أنني اليوم أصبحت في الأربعين من عمري ، بل قد انقضى أربعون عاما من عمري ، مرت وكأنها حُلم في الكرى ، وظلٌّ زال سريعاً ، وأصبحت ماضياَ يحمل للعيون طيوفَ ذكريات تُداعب الخيال بين الفينة والأخرى ...لذلك أقول :
نعم ما قبل الأربعين هي مرحلة مضت ، ولكنها ساعدت المرء على النضج الفكري ، وما وصل إليها إلا بعد خيبات ونكَبات ، وعِبَرٍ وعَبرات ، ودروس وعظات ، وتجرّع فيها من علقم الدهر ومرارة الأيام ما لا يُستساغ ، كما أنها رسمت أحيانا على الشفاه البسماتِ ، وأمطرت في النفس وابلاً من الهموم الحسرات ، والمرء العاقل ينبغي أن يكون قد تعلم فيها الكثير الكثير ....
وأما ما بعد الأربعين ، فهي مرحلة جديدة في حياة الإنسان ، - إن كتب الله له عمراً مديدا- هي مرحلة ينبغي أن يكون فيها قد ازداد نضجاً فكرياً ، وتفهُّماً للحياة ، وأصبح أكثر تأنيّاَ ، وأقلَّ حماساً فيما لا ينبغي فيه الحماس ، وأكثر حساباتٍ للمستقبل ، وأرقى حكمة ، وأشدَّ سداداً ، وعرف بحق أن السعيد من اتعظ بنفسه قبل أن يتعظ من غيره ، أو لنقل :
اتعظ بنفسه بعد الأربعين بما حصل معه قبل الأربعين ، فأصبح نوعاً ما يعرف عدوَّه من صديقه ، ولا يغرُّه مدح مُحبٍّ ، ولا ينغصُ عيشَه قدحُ حاسد ، ولا يُفَتِّرُ عزيمتَه ذمُّ حقود ، يمضي في دربه بكل ثقة ، مستشيرا صفوة أصحابه وخلانه في الأمور التي تهمه ، ثم يُقدم متكلا على مولاه...
لقد أصبح يصون لسانه أكثر ، ويحفظ جوارحه حفظاً أشدَّ ، ويراقب حركاتِه وسكناته ، فها هو قدوة لغيره ، وخاصة لابن او لبنت....
وباختصار : ما بعد الأربعين هي مرحلة عمرية يقبل فيها المرء على ربه ، داعياً إياه كما في كتابه :
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين... يارب استجب واجعل خير عمري آخره ، وخير أيامي يوم ألقاك ، وتوفني وأنت راض عني ، وألحقني بالصالحين .

مصطفى قاسم عباس