تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: هل خلق الله الأشياء وقدَّر فيها خواصها وطبائعها أم إنه تعالى يخلقها عند الحدث ؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي هل خلق الله الأشياء وقدَّر فيها خواصها وطبائعها أم إنه تعالى يخلقها عند الحدث ؟

    السؤال
    أخبرنا أستاذ المعهد الشرعي : أن الله لم يخلق في الأجسام خواصها ، فمثلاً : المغناطيس لا يحتوي جاذبية ، والنار لا تحتوي صفة الإحراق ، لكن الله سبحانه وتعالى عندما يقع الحدث يخلق الصفة إن أراد ، فمثلاً عند تقريب مغناطيسين لمسافة معينة يخلق الله فعل الجذب ، وعند اقتراب يدك من النار يخلق الله فعل الإحراق ، ودليل ذلك : أن إبراهيم عليه السلام دخل النار ولم يخف لأنه على يقين بأن الله لن يخلق فعل الإحراق ، وأيضاً كما حدث مع الصحابة في الحرب مع الفرس عندما اجتازوا النهر ولم يخلق الله فعل الغرق أو حتى فعل البلل بالماء فاجتازوا النهر دون أن يبتل أي شيء منهم ، وقال : لذلك على المسلم أن لا يخاف من الأشياء أي مثلا لا نخاف من الأدوات الحادة ؛ لأن الله قادر على أن لا يخلق فعل الذبح . وأنا غير مقتنع بهذا الكلام ، لأنني متذكر أن الله خلق الأجسام وخلق فيها خواصها وجعل للكون سنناً يسير عليها ، لكني لم أجد له دليلاً شرعيّاً ، ولم أجد كلاماً يرد عليه ، فلو توضحون لي الأمر مع الدليل ، وجزاكم الله خيراً .
    نص الجواب
    الحمد لله
    أولاً:
    ما نقلتَه - أخي السائل – عن ذاك الأستاذ هو ما يقول به الأشاعرة موافقة للجبرية ! وهذه المسألة يسمونها " السببية " وخلاصتها : نفي تأثير الأسباب بمسبَّباتها ، فلا ارتباط لسبب بمسبَّب ، وإنما العلاقة بينهما علاقة اقتران ، فالنار – عندهم – لا تحرق بطبعها ولا هي علة الإحراق ، وإنما يخلق الله تعالى فيها الإحراق عند التقائها بشيء قابل للاحتراق ، فالذي يحرق هو الله ، والنار ليس لها أي تأثير ، والسكين – عندهم - لا تقطع بطبعها ولا هي علة القطع ، إنما يخلق الله تعالى فيها القطع عند مرورها على الشيء القابل للقطع ، فالذي يقطع هو الله ، والسكين ليس لها أي تأثير ، وهكذا يقولون إن الإنسان لا يشبع بالأكل بل عند الأكل ! ولا يروى بالشرب بل عند الشرب ! وقد جعلوا ذلك من التوحيد ، وحكموا على المخالف بالبدعة والضلالة والكفر .
    قال أحمد بن محمد العدوي الأشعري المشهور بـ " الدردير " :
    تَخَالُفٌ للغيْرِ وحدانيةْ *** في الذَّاتِ أو صِفَاتِهِ العليَّةْ
    والفِعلِ فالتأثيرُ ليسَ إلا ** للواحِدِ القَهَّار جلَّ وعَلا
    ومن يَّقُل بالطَّبعِ أو بالعلَّةْ *** فذاكَ كُفرٌ عند أهلِ المِلَّةْ
    ومَن يَقُل بِالقُوَّةِ المُودَعَةِ *** فَذَاكَ بِدْعِيٌّ فلا تَلتَفِتِ
    وقال في شرحه :
    يعني أنَّهُ تعَالى مُتَّصفٌ بوحدانيَّةِ الأفعالِ ، فليس ثمَّ مَن له فعلٌ من الأفعال سِوَاهُ تعالَى ، إذ كُلُّ ما سِوَاهُ عاجزٌ لا تأثيرَ له في شيءٍ من الأشياء ... .
    إلى أن قال :
    فلا تأثيرَ للنار في الإحراقِ ، ولا للطَّعامِ في الشَّبَعِ ولا للماء في الرّيِّ ، ولا في إنباتِ الزَّرعِ ، ولا للكواكبِ في إنضَاجِ الفواكِه وغيرِهَا ، ولا للأفلاكِ في شيءٍ من الأشياء ، ولا للسِّكِّين في القطعِ ، ولا لشيءٍ في دفع حَرٍّ أو بردٍ أو جلبِهِمَا وغيرِ ذلك ، لا بالطَّبعِ ولا بالعلَّةِ ولا بقُوَّةٍ أودَعَهَا اللهُ فِيها ، بل التأثيرُ في ذلك كُلُّهُ لله تعالى وحدَهُ بمحضِ اختيارِهِ عند وُجُودِ هذه الأشيَاءِ .
    انتهى باختصار من" الخريدة البهية وشرحها " ( ص 59 - 63 ).
    ثانيا :
    قد ردَّ أئمة السنَّة على مثل هذا القول المتهافت ، وبيَّنوا أن الله تعالى خلق الأشياء وخلق تأثيرها فيها ، فليس ثمة خالق مع الله ، والتأثيرات ليست خارجة عن إرادة الله تعالى ، والأسباب ليست فاعلة بذاتها ، بل هي فاعلة بأمر الله وقدرته .
    قال ابن القيم - رحمه الله - :
    "وأما الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب ، وإنما قالت طائفة من الناس وهم القدرية : إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ولا واقعة بمشيئة ، وهؤلاء هم الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على ذمِّهم وتبديعهم وتضليلهم وبيَّن أئمة السنة أنهم أشباه المجوس وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي ، فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ، ولُبس على الفريقين الحق بالباطل ... .
    إلى أن قال :
    ولا تكن ممن غلظ حجابه وكثف طبعه فيقول : لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير وأنها أرباب من دون الله ، فإن وجدتَ أحداً يزعم ذلك ويظن أنها أرباب وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد ، أو إنها عون لله يحتاج في فعله إليها ، أو إنها شركاء له : فشأنَك به ؛ فمزِّق أديمَه ، وتقرَّب إلى الله بعداوته ما استطعت ، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله ، والإلغاء لما اعتبره ، والإهدار لما حققه ، والحط والوضع لما نصبه ، والمحو لما كتبه والعزل لما ولاه ؟! فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية ؛ فسبحان الله ، من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها ؟! .
    والله ما أجهل كثيراً من أهل الكلام والتصوف حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا بإلغائها ومحوها وإهدارها بالكلية ، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ، ولا في النار حرارة ولا إحراق ، ولا في الدواء قوة مُذْهِبة للداء ، ولا في الخبز قوة مشبعة ، ولا في الماء قوة مروية ، ولا في العين قوة باصرة ، ولا في الأنف قوة شامَّة ، ولا في السم قوة قاتلة ، ولا في الحديد قوة قاطعة ، وأن الله لم يفعل شيئاً بشيء ، ولا فعل شيئاً لأجل شيء ! فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله ويبالغون في تقريره ، فلعمْر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء وأشمتوا بهم الأعداء ، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية ، وقالوا : نحن أنصار الله ورسوله ، الموكَلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل ، ولعمْر الله لقد كسروا الدِّين ، وسلطوا عليه المبطلين ، وقد قيل : " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك" .
    فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها ، وفارقها حيث أمرت بمفارقتها ، كما فارقها الخليل .. حيث عَرض له جبريل أقوى الأسباب فقال : " ألك حاجة ؟ " فقال : " أما إليك فلا "
    انتهى من" مدارج السالكين " ( 3 / 402 – 409 ) .
    ثالثاً:
    الذي دعا الأشاعرة للقول بهذا القول المبتدع والذي يخالف الشرع والفطرة والعقل : أمران ، إثبات المعجزات ، وإثبات قدرة الله الشاملة .
    وقيل عند الكلام على اعتقاد أبي حامد الغزالي - :
    "تأكيده لإنكار السببيَّة ، وهي مسألة مشهورة في المذهب الأشعري ، وقد قال بها الأشاعرة وأكدوها لأمرين :
    الأول : إثبات المعجزات ، التي هي في الحقيقة خوارق للعادات المعهودة ، فحتى تربط هذه المعجزات بالله وقدرته ، بحيث يقلب العصا حيّة ويشق القمر وغيرها من الأمور الخارقة ، لا بدَّ من ربط هذا بإنكار التلازم الذي يدعيه الفلاسفة وغيرهم بين السبب والمسبب .
    والثاني : إثبات قدرة الله الشاملة ، وإبطال التولد الذي قال به المعتزلة ، فالفاعل والخالق لكل شيء هو الله تعالى ، وهذا بناء على مذهبهم في القدر الذي يميل إلى الجبر" انتهى من" موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ( 2 / 627 ) .
    ثالثاً:
    قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - :
    "ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنَّة لزاد على عشرة آلاف موضع ، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ، ويكفي شهادة الحس والعقل والفِطَر ، ولهذا قال مَن قال مِن أهل العلم : تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم ، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملائكته وعباده ، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد ، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله وتنزيهه عن كل كمال ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ، ... .
    ثم مِن أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد : إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب ، فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ، ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به ، وأنت لا تجد كتاباً من الكتب أعظم إثباتاً للأسباب من القرآن .
    ويا لله العجب ؛ إذا كان الله خالق السبب والمسبَّب ، وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا ، والأسباب والمسبَّبات طوع مشيئته ، وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم ، وإغراق الماء على كليمه وقومه ، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها ، وإن شاء خلَّى بينها وبين اقتضائها لآثارها ، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا ، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد ؟! وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه ؟! ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق ، والماء لا يُغرق ، والخبز لا يُشبع ، والسيف لا يَقطع ، ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ، ولا هو سبب لهذا الأثر ، وليس فيه قوة ، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا : قالت هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ! ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد ، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به كما تراه عِيانا في كتبهم ينفِّرون به الناس عن الإيمان"
    انتهى من" شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل " ( ص 189 )
    وبما ذكرنا يتبين لك – أخي السائل – ضعف هذا القول ، وبطلان ما بنوه عليه ؛ فعسى أن يكون ذلك المدرس قد قرأه في بعض الكتب ، ولم يدر حقيقته ولوازمه .
    وما ذكره من إلقاء إبراهيم عليه السلام يرد عليه ؛ حيث إن الأصل أن النار فيها الإحراق ولذا أعدَّها قومه له عليه السلام ولم يعدوا له ماء ليحرقوه به ! وقد بيَّن الله تعالى أنه عطَّل تلك الصفة في تلك النار فخاطبها بأن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ، وهذا ليس لكل نار بل لتلك المخاطَبة ، ولا يملك أحد أن ينزع تلك الصفة منها إلا الله تعالى .
    ومثله يقال في صفة الإغراق لماء البحر لمن شاء الله تعالى أن يعطلها في حقه ، فهو تعالى مالك الأسباب ومسبباتها ، وتلك الحوادث تدل على وجود حاصية الإحراق في النار والإغراق في الماء ، لكن الله تعالى هو الذي نزعها منهما في الحالتين ، وهذا يدل على وجود تلك الصفات في تلك الأشياء .
    فأهل السنَّة هم أسعد الناس بالأدلة وهم أوفر الناس عقولاً وأقومهم فطرة ، لذا لم ينكروا نصوص الشرع ، ولم يأتوا بما يَضحك منه العقلاء ، ولم يقولوا بما يخالف الفطرة ، بل وقفوا مع الأسباب الموقف الشرعي الموافق لكل ذلك ، ولذا فمن أراد أن يزيد في الإحراق أجَّج ناره وزاد من لهيبها ، ومن أراد دقة القطع رقَّق حد السكين ، ومن أراد قوة القطع صلَّب الحديد في السيف ، وكل ذلك أخذاً بما جعله الله تعالى من خاصيات في تلك الأشياء التي خلقها على كيفية معينة ، ومن يقول بأن الزجاج الرقيق انكسر مع رمي الحجر العظيم لا بسببه : فقد خالف الشرع وناقض العقل والفطرة .
    وإليك ملخصاً نافعاً في موقف الفرق من الأسباب والقوى والطبائع في الأشياء :
    قال ابن القيم – رحمه الله - :
    "والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام :
    1. منهم مَن بالغ في نفيها وإنكارها ، فأضحك العقلاء على عقله ، وزعم أنه بذلك ينصر الشرع فجنى على العقل والشرع وسلط خصمه عليه .
    2. ومنهم مَن ربط العالم العلوي والسفلي بها ، بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار ومدبر لها يصرفها كيف أراد فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها ويتصرف فيها كما يشاء ويختار .
    وهذان طرفان جائران عن الصواب .
    3. ومنهم مَن أثبتها خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً ، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من كونها تحت تدبيره ومشيئته وهي طوع المشيئة والإرادة ومحل جريان حكمه عليها فيقوي سبحانه بعضها ببعض ، ويبطل إن شاء بعضها ببعض ، ويسلب بعضها قوته وسببيته ويعريها منها ويمنعه من موجبها ، مع بقائها عليه ؛ ليعلم خلقُه أنه الفعَّال لما يريد ، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته ، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت مع كونه سبباً .
    وهذا باب عظيم نافع في التوحيد وإثبات الحكم ، يوجب للعبد إذا تبصر فيه الصعود من الأسباب إلى مسبِّبها ، والتعلق به دونها ، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه ، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارّاً ، وضارَّها نافعاً ، ودواءها داءً ، وداءها دواء ، فالإلتفات إليها بالكلية : شرك مناف للتوحيد ، وإنكار أن تكون أسباباً بالكلية : قدح في الشرع والحكمة ، والإعراض عنها مع العلم بكونها أسباباً : نقصان في العقل ، وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض وشهود الجمع في تفرقها والقيام بها : هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة ، والله أعلم" انتهى من" مدارج السالكين " ( 1 / 243 ، 244 ) .
    والله أعلم
    المصدر: الإسلام سؤال وجواب

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هل خلق الله الأشياء وقدَّر فيها خواصها وطبائعها أم إنه تعالى يخلقها عند الحدث ؟

    يقول ابن القيم: (أنه -سبحانه- ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء… والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[المائدة: 105] وقوله: بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف: 39 ] وذكر آيات كثيرة إلى أن قال: وكل موضع مرتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببًا له كقوله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ [ المائدة:38 ].. وذكر آيات كثيرة إلى أن قال: وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء وهو أكبر من أن يستوعب… وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلاً لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب… ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي شهادة الحس والعقل والفطرة)
    وفي بيان واضح للذين منعوا من إجراء (باء) السببية في بابها وقالوا: (فقد تبين أن الوجود عند الشيء، لا يدل على أنه موجود به) فمنعوا أن يكون ماء السماء سببًا في إنبات العشب كما بين القرآن في قوله تعالى: وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [ البقرة:164] وقوله سبحانه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ [ التوبة:14] ومثل هذا في القرآن كثير، ومنعوا إجراء اللغة بإطلاق باء السببية ولهذا قال ابن تيمية: (تكلم قومٌ من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم) ويذكر ابن تيمية أيضًا ما يلزم القائلين بإنكار الأسباب والطبائع من شنائع أنهم يسوون بين المختلفات ويخالفون القرآن يقول: (..وكذلك أيضًا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابًا وقوى وطبائع ويقولون إن الله يفعل عندها لا بها فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز.. وأما أئمة السنة وجمهورهم فيقولون ما دل عليه الشرع والعقل، قال تعالى: (فسقناه إلى بلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) سورة الأعراف: 57، وقال: (فأحيا به الأرض بعد موتها) البقرة: 164، النحل: 65، الجاثية: 5) وقال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه) المائدة: 16، وقال: (يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا) البقرة: 26… إلى أن قال: ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب، وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع التي جعلها الله في الحيوان..) وهذا الإلغاء للسببية هو إلغاء للقوانين العلمية بل تعطيل لذاتية الأشياء بعد أن كان تعطيلاً لتوحيد الرب وهذه الجناية العظيمة تكبر وتتضخم حينما تنسب إلى القرآن والقرآن لا يقرها بل يقر خلافها. وهناك فرق كبير بين قولنا فعلت به وفعلت عنده كما يقول ابن تومرت (الأصل يثبت به الحكم والأمارة يثبت عندها الحكم، وبين يثبت به ويثبت عنده ما بين السماء والأرض)، ولهذا فإن القرآن الكريم عبر عن الباء في محلها وبـ (عند) في محلها. فكيف يجوز أن نلغي (الباء) عن عملها في محلها ونستبدل (عند) وهي ليست مثلها ولا تعمل عملها، وجرب بوضع (عند) في محل (الباء) في الآيات السابقة وانظر كيف سيكون الحال… فلا شك أن بين (الباء) و(عند) ما بين السماء والأرض، وهكذا تُطوع اللغة لتتمشى مع الآراء وكان الأولى أن تصحح الآراء وتصقل بالرجوع إلى أصل اللغة.
    يقول السفاريني: (..وأما مذهب السلف الصالح المثبتون للقدر من جميع الطوائف فإنهم يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وإن له قدرة واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله تعالى ينبت النبات بالماء، وأن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب، ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا لفظًا ومعنى، ولكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب) فالسلف يثبتون فاعلية لقدرة الإنسان، وأثرًا للأسباب الطبيعية ولكن يشترطون عدم استقلالية الفاعلية والأثر وهذا هو ظاهر القرآن الذي أثبت للإنسان فعلاً، وللماء أثرًا وهكذا… والجميع في النهاية يكون بخلق الله، فالخلق يتم في بعض صوره بوسائط هي قوى أودعها الله في مخلوقاته، فهو يخلق الأسباب ببعضها. يقول ابن تيمية: (والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدورًا، حصل بدون السبب وإلا لم يحصل جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدورًا بدون السبب .. ودلل على ذلك بالأدلة) ومعنى ذلك أنه لا غنى للأسباب عن المسببات ولا المسببات في غنى عن الأسباب، لكن الأسباب ليست علة تامة تستقل بإحداث المسببات ومعلوم انه ليس فى المخلوقات شيء وحده علة تامة وسببًا تامًا للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا لمشيئة الله خاصة). وهذا هو الذي جاء به القرآن في نسبة الفعل والإحداث، فهو لم يغلُ في نسبته إلى الطبيعة بإنكار صنع الإله الحق كما أنه لم يقض على ما يشاهده الناس بعيونهم ويجربونه بأنفسهم بإلغاء أثر القوى الكامنة في الطبيعة فأثبت الجميع وقال للإنسان: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) الإنسان: 30، أي لا يتحقق لك صنع وعمل باستقلال حتى أشاء أنا (وهو الذي قدر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ).
    وقال العلامة محمد بن علي بن سلوم: (ومذهب سلف الأمة وأئمتها من جمهور أهل السنة يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل… ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا..) وينقل لنا السفاريني أدلة من القرآن يشرح ما فيها من المعاني (فالحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار كما قال الله تعالى: (هذا من عمل الشيطان) وقال (وما أنسانيه إلا الشيطان) مع قوله: (كل من عند الله) وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون… وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم: في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث… والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة إن الله تعالى خلق قدرة الإنسان وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له) وقوله إن محققي السنة يقولون بما يقول به السلف فهذا حق ولهذا جاء في كتب الأشاعرة المحققة قول العلامة الشيخ إبراهيم المذاري: (..ما يدل على أن الأشعري إنما نفى الاستقلال لا أصل التأثير بإذن الله تعالى.. ما هو المعتمد في معتقده الموافق للكتاب والسنة وأن إمام الحرمين فيما ذكره في النظامية موافق للأشعري في التحقيق المعتمد عنده في (الإبانة).. وقال أيضًا: فإن هذا الكلام من الشيخ الأشعري صريح في وقوع الفعل بقدرة محدثة والوقوع فرع التأثير غاية الأمر أنه لم يطلق على العبد أنه خالق أدبًا فهو كما قال إمام الحرمين واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق لأعماله فإن فيه الخروج عما درج عليه السلف) وقد قال الجويني تصريحًا لا تلميحًا بأثر قدرة العبد فقال: (ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون..) فهل هذا الحكم من الجويني يلزم كل من أنكر أثر الأسباب وقد نقل السفاريني عن محققي أهل السنة الاتفاق في هذه المسألة فقال: (..وإنما ذكرت لك أقاويل هؤلاء-أي المحققون من علماء الأشاعرة- مع أن عمدة المعتقد عندنا الغير المنتقد في عقدنا مذهب السلف المقرر على الوجه المرضي المحرر لتعلم أن محققي الأشاعرة لهم موافقة على حقيقة مذهب السلف والإغضاء عما ينمقه الخلف) والذي يرجع إلى التحقيق في هذه المسألة يجد أن لمحققي الأشاعرة قولين أو فهمين، فالجويني له رأي في (الإرشاد) متقدم يقول فيه بعدم تأثير قدرة الإنسان وخالفه في آخر كُتبه وقال بأن لها تأثيرًا ونصه: (..قدرة العبد مخلوقة لله تبارك وتعالى باتفاق العالمين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا ولكنه مضاف إلى الله تبارك وتعالى تقديرًا وخلقًا) وما ذهب إليه الإمام الجويني لم يرق للشهرستاني فادعى أنه ليس مذهبًا للإسلاميين بل جاء به من عند الفلاسفة (وهذا الرأي إنما أخذه من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام..إلى أن قال: ومن العجب أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة) .
    والحق أن ما ذهب إليه الجويني ليس بدعًا من القول ولا جيء به من مصدر بعيد، بل هو ما قال به السلف والمحققون من أهل السنة وهو ظاهر القرآن ومعناه.
    وبهذا يتبين خطأ البغدادي حينما زعم أن الإجماع قام على أن الأجسام لا تختلف بالطبائع وخطأ حكمه الذي رتبه على ذلك وهو الضلال. بل العكس هو الصحيح أن السلف ومحققي أهل السنة كأبي الحسن الأشعري والإمام الجويني اتفقوا على ما نص عليه ظاهر القرآن وإن اختلف النقل عنهم أحيانًا كما بيناه
    ، وهناك تعليق على كلام الغزالي في نص له يُسلم بوجود قوى كامنة في الأشياء (وتحليل الغزالي هذا أقرب إلى الانسجام مع التعليلات العلمية لظواهر الأشياء وتكويناتها..وختم ه بقوله: إلا أنه أبعد عن مسلك الجمهور وما اتفق عليه) [الاسباب عند الاشااعرة - موسوعة الفرق]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هل خلق الله الأشياء وقدَّر فيها خواصها وطبائعها أم إنه تعالى يخلقها عند الحدث ؟

    قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك فى شرح رسالة (أُصُولٌ عَظيمةٌ مِن قَواعدِ الإسلامِ) لابن السّعدي ---- القارئ: قال رحمهُ الله: وأعظمُ منه بطلانًا وأشدَّ فسادًا مذهبُ الطبائعيين في الأسبابِ الذين يرونَ الأسبابَ جاريةً على مُقتضى الطبيعةِ ونظامِ الكون، وأنها لا تعلُّقَ لها بقضاءِ الله وقدَرهِ وأنَّ الله لا يقدرُ على تغييرها ولا منعِها ولا إعانَتِها، وأهلُ هذا المذهبِ معروفونَ بالخروجِ عن دياناتِ الرُّسلِ كلِّهم.
    - الشيخ:
    هذا يُقابل مذهبَ الجبريةِ، الجبرية يغلُون في إثباتِ القدر ويغلُون في إثبات فِعْلِ الربِّ سبحانه، يقولون: "لا فاعل إلا الله، وأنه لا مشيئةَ ولا إرادة لغير الله"، فيغلونَ في هذا وهم يُقابلون القدريةَ ومن فروعِ مذهبهم نفيُ الأسبابِ كما تقدَّمَ، يُنكرون تأثيرَ الأسباب.
    الشيخ يذكرُ ما يُقابلهم في أمرِ الأسبابِ، في شأنِ الأسباب، ويقولُ: أعظمُ من ذلك وأقبحُ من مذهب الجبرية مذهبُ الطبَعِيينَ القائلينَ بأنَّ هذا الوجودَ يتفاعلُ بطبعه، لا بتأثيرِ مشيئةِ خارجٍ عنه.
    فهُمْ في حقيقةِ أمرهم، لا يُؤمنون بخالقٍ لهذا الوجودِ، ولا مُدبِّرٍ، إذًا فهذهِ الأشياءُ هكذا وُجدت، هكذا وُجدت، فتأثيرُ الأشياء بعضَها ببعضٍ تأثيرٌ طَبَعِيٌّ.
    ليس ناشئًا عن تدبيرِ شيء خارجٍ عن هذه الأشياء، ليس لها مُدبِّرٌ. فليست مخلوقةً لخالقٍ لهذا الوجود بأسْرهِ.
    هؤلاء هم الطَّبعيُّون وهم شرُّ الملاحدة، أكفرُ الكفرِ هو جحدُ وجودِ الربِّ سبحانه وتعالى، لأنهُ لا يبقى مع هذا الاعتقاد، لا يبقى معه شيءٌ من الإيمان، الإيمان بالكتب أو بالرسلِ أو باليومِ الآخرِ.
    فهؤلاء الطبعيون ماذا يقولونَ عن العالم؟ يقولون: وُجِدَ هكذا العالم، إما أن يقولوا أنه قديمٌ هكذا بحالِهِ، أو يقولونَ: أنَّهُ وُجِدَ لا بخالقٍ، قد يقولون بما يُسمُّونهُ: "الصُّدفةُ".
    وهم لا يقبلونَ أن يصدُرَ الفعل من غير فاعلٍ، فلو عُرِضَ على أحدهم شيءٌ من هذه المصنوعاتِ القديمةِ والحديثة، التي يقدِرُ عليها الآدميون، وقيلَ أنه هكذا وُجِدَ هذا البناء، أو وُجدت هذه الآلة بلا، يعني ليس لها صانعٌ وأنها هكذا وُجِدَتْ، لمَا رضُوا بذلك، وهذا من شرِّ التناقض أن يُنكروا وجود شيءٍ من هذه التي يفعلها العبادُ من غير مُدبِّرٍ، من غير مُؤثرٍ، ثم ينفونَ ذلك عن الوجود بأسرهِ علويهِ وسُفليهِ.
    فهؤلاء شرٌّ من الجبرية، الجبرية يؤمنون بوجود الله، يقولون أنه هو خالقُ هذا الوجودِ، وخالقُ الأشياء، وهو الذي يجعلُ الأسباب مُؤثِّرةً في مُسبَّباتها، بل لا تأثيرَ لها، لا تأثيرَ لها، فهو سبحانه وتعالى التأثيرُ كلُّهُ لمشيئتِهِ.
    أما هؤلاء فعلى النقيضِ، فمذهبُ هؤلاء الطبعيينَ مُضادٌّ لمذهب الجبريةِ كما قابلَ الشيخ بينهما، إذًا هي مُقابلةٌ بين الجبرية وهؤلاء في جانبِ الأسباب، في مسألةِ الأسباب.
    ويُقابلُ الجبريةَ القدريةَ نفاةُ القدرِ من المسلمين، الذين يقولون: إنَّ اللهَ تعالى هو خالقُ كلِّ شيء، لكن يُخرجون عن قدرةِ الله وعن فِعلهِ سبحانه وتعالى، يُخرجون عن ذلك أفعالَ العباد، ويقولون: أنَّ العبادَ هم الخالقونَ لأفعالهم.
    فالجبريةُ يُقابلهم في شأنِ الأسبابِ الطبعيُّون، ويُقابلهم في جانب القدرِ القدريةُ النُّفاةُ، فالجبريَّةُ يغلونَ في إثبات القدر، وفي فعل الربِّ. والقدرية يُقصِّرونَ في ذلك، فينفونَ القدرَ، لكنَّ القدريةَ يُشبهون الطَّبعيين في مسألةِ أفعالِ العباد، يقولون: أنَّ العبدَ هو الذي يخلقُ فعله، ويفعلُه بمحْضِ قدرته ومشيئتِه، دون أن يكونَ لمشيئةِ الله تأثيرًا في أفعال العباد، فهم يُشبهونَ الطبعيينَ لكن لا في كلِّ شيء، أما الطبعيُّون يعمُّون في الحكمِ، يعمُّون كلَّ الوجودِ، أما القدرية فهم يُشبهونهم في شأنِ أفعالِ العبادِ بل وربما قالوا مثلَ ذلك في أفعالِ الحيوان.
    - القارئ: وأهلُ هذا المذهبِ معروفونَ بالخروجِ عن دياناتِ الرُّسلِ كلِّهِم، لأنَّ هذا القولَ الخبيثَ مبنيٌّ على نفي الإيمانِ بالله، ونفي ربوبيتهِ والرَّبُّ..
    - الشيخ:
    النفيُ موجودٌ.
    - القارئ: والربُّ في الحقيقةِ عندَ هؤلاِء هي الطبيعةُ فهي التي تتفاعلُ وتتطوَّرُ وتُحدِثُ الأشياءَ كلَّها، فهؤلاءِ المُلحدون لا يُثبِتونَ لله أفعالًا ولا يُثبتونَ أنه يُثيبُ الطائعين بالنَّعمِ والكراماتِ في الدنيا والآخرةِ، ولا يُعاقبُ العاصي بالنِّقمِ في الدنيا والآخرةِ، وينفونَ مُعجزةَ الأنبياءِ الخارقة للعادة كلها، وكراماتِ الأولياء، ويقولون: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [الجاثية:14]، وهذا المذهبُ الذي هو أبطلُ المذاهبِ الذي تُنزَّهُ عنه اليهودُ والنصارى وكثيرٌ من المُشركين فضلًا عن الدِّينِ الإسلامي قد اغترَّ فيه بعضُ الكُتَّابِ العصريين، وأرادوا من سفاهتهم وجراءتِهمْ العظيمة، أنْ ينسبوهُ إلى دينِ الإسلامِ، ودينُ الإسلامِ وسائرُ الأديانِ بريئةٌ من هذا القولِ الخبيثِ، فهوَ في شِقٍّ، وأديانُ الرُّسلِ في شِقٍّ آخرَ.
    - الشيخ:
    ما أدري، دعوى نسبته الى الإسلامِ لا يستقيمُ، لا يمكنُ لأحدٍ أن ينسبَ جحْدَ وجودَ الرَّبِّ وتدبيرَهُ، لا يمكن لأحدٍ، لا يقولُ به إلا من يعتقدُه، لا يمكن، لكن يمكن أن يقولَ به بعض المُنتسبين إلى الإسلام، نعم. أمَّا أنْ ينسِبَه للإسلامِ فلا يظهرُ له وجْهُهُ، لكن يمكن أن يتكلَّمَ به بعض المُنتسبِينَ للإسلام، يعني مثل المُنافقين الذين يُغالِطونَ ويُموِّهونَ وينشرون الشُّبهات التي يُعارِضونَ بها الإيمانُ باللهِ والإيمانُ برسله والإيمان باليوم الآخر أما أنْ ينسبوهُ للإسلام لا، لا يُتصوَّر، لا يمكن.
    - طالب: أحسنَ الله إليك يا شيخ، ألا يمكنُ أنه يُشيرُ إلى من يرى أن الأسبابَ تُؤثرُ بذاتها يا شيخ؟
    - الشيخ: نعم،
    - القارئ: الرُّسلُ والشَّرائعُ تُثبِتُ ربوبيَّةَ اللهَ وأفعالَه وقضاءَهُ وقدَرَهُ وانقيادَ العالمِ العلوي والسُّفلي، لإرادَةِ اللهُ وقدرته، وهؤلاءَ يُنكرونَ ذلكَ والرُّسلُ والشرائعُ تُثبتُ أنَّ الأسبابَ والمُسبَّباتِ محلُّ حكمةٍ الله، وأنَّ اللهَ قد جعلَها على نظامٍ حكيمٍ دالٍّ على كمالِ حكمةِ اللهِ، وانتظامِ أمرِ الدُّنيا والآخرة، وأنهُ لا يمكنُ أحدٌ أن يُغيرَ سُنَنَ اللهِ ولا يُحوِّلَهَا، ومع هذا فإنَّها تابعةٌ لمشيئةِ اللهِ وإرادتهِ، لا يستقلُّ سببٌ منها إلا بإعانتِه، وقد يمنعُ بعضَ الأسبابِ ويُغيرُ بعضَ الأسبابِ ليُرِيَ عبادهُ أنَّهُ هو المُتصرِّفُ المُطلقُ.
    - الشيخ:
    لا إلهَ إلا الله، لا إلهَ إلا الله، لا إلهَ إلا الله.
    يعني من المؤمنين بوجودِ الله وربوبيتهِ من يدَّعي في بعض الأشياء أنها مُؤثِّرةٌ بطبعِها كما يعتقدُ بعضُ الجهلة، وبعضُ أهلِ الجاهليةِ يعتقدونَ أنَّ بعض الأسبابِ تُؤثِّرُ بطبعها، يظنونَ ذلك مع إيمانهم بالله وبربوبيته وخلْقهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [لقمان:25]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]
    ومع ذلكَ يمكنُ أن ينسبوا بعضَ الأشياءِ للطبيعةِ، طبيعةِ الشيءِ، مثلَ ما فعلَ المُعتزلة في أفعالِ العبادِ، مثل ما فعلَ القدريةُ في أفعالِ العبادِ معَ إيمانهم بالله، وإيمانهم بخلقِ هذا الوجودِ، لكنهم لشبهاتٍ قامتْ في نفوسهم، أخرجُوا أفعالَ العباد عن قدرةِ الله ومشيئتِه. أما الصنفُ الذين ذكرهم الشيخ الطبعيُّونَ فهؤلاء لا يُقِرُّونَ بخالقٍ لهذا الوجودِ، بل الطبيعة هي كل شيء، هي المُؤثِّرةُ فيه، فكأنهم يقولون: "أنَّ هذهِ الأشياءَ خلقتْ نفسها".
    - القارئ: وقد يمنعُ بعضَ الأسبابِ، ويُغيرُ بعض الأسبابِ، ليُرِيَ عبادَهُ أنه هو المُتصرِّفُ المُطلقُ. فقد أوقعَ الله الأخَذَاتِ الخارقةِ بالمُكذِّبينَ بالرُّسلِ، وأكرمَ أنبياءَهُ وأولياءَهُ بالنجاةِ في الدنيا والآخرة، فأهلكَ قومَ نوحٍ بالطوفانِ، ونجَّى نوحًا ومن معهُ من المؤمنين، وجعلَ النار بردًا وسلامًا على ابراهيمَ، .......
    وأعطى مُوسى من الآياتِ كاليدِ والعصَا، وفلْقِ البحرِ ما فيهِ أكبرُ عِبرةً بأنه المُتصرِّفُ المُطلقُ، وجعلَ عيسى يُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذنهِ وأعطى محمدًا صلى الله عليه وسلمَ من الكراماتِ والخوارقِ الكونيةِ ما لم يُعطِ أحدًا من الرسل فانشقَّ له القمرُ، وسلَّمَ عليه الشجرُ والحجرُ، ونبعَ الماءُ من بينِ أصابعِه، واستَقَى الخلقُ الكثيرُ من الماءِ القليلِ، وأشبعَ الخلقَ العظيمَ من الطعامِ اليسيرِ، وأبرأَ اللهُ بدعواتِهِ أمراضًا كثيرةً، وأنزل الله الغيثَ بدعوته في قضايًا كثيرة............
    - الشيخ:
    كلُّ هذهِ الشواهدِ الشيخُ يُوردُها ... الأنبياء، على أنه سبحانه هو المُتصرِّفُ في الأسبابِ، فهو الذي خلقَ النارَ وجعلَ فيها طبيعةَ الإحراقِ، جعلها مُحرِقةً لما تتصلُ فيه مما هو قابلٌ للإحراقِ، وهو الذي سلبَ تأثيرها في ابراهيم كوني بردًا شوف بردًا، النارُ التي تُتلِفُ ما اتصلَ بها من الأبدانِ كونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]
    العصا، هذه العصَا التي هي عصَا من شجرة، عصا موسَى عصَا، ما جاءَ أنها نزلتْ عليه من السَّماءِ، بل هي عصَا عادية، وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى*قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [طه:17-21]
    وصارتْ هذه العصا في يدِ موسى يتصرَّفُ بها، إذا ألقاها يريدُ مثلًا أن تصيرَ ثعبانًا صارت ثعبانًا، ثعبانٌ مُبينٌ يلتهمُ، فالتهمتْ كيدَ السَّحرة من عِصيهم وحِبالهم فإذا هي: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117]
    وإذا لم يُرِدْ ذلك تعودُ عصا كما خُلِقَتْ، فتنقلبُ تلقائيًا، ويدُه يدُ إنسانٍ بشرٍ عادية يُدخلها في جيبِهِ ثم يُخرجها بيضاءَ، قيلَ أنها لها شعاعٌ، بيضاءَ من غيرِ سُوءٍ ليست عن عِلَّةٍ وعن مرضٍ لا، آيتان: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32]، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:22-24]
    مقصودُ الشيخِ أنَّ اللهَ تعالى هو المُتصرِّفُ في الأسباب يمنع تأثيرَها ويُغيرها ويُغيرُ ذواتَها إلى طبيعةٍ أخرى، ويقول "شيخ الإسلام" بما معناه في مواضعَ أنَ الأسبابَ يعني تتوقف كل سببٍ كل ما تعتبرهُ سببًا يتوقفُ تأثيرُه على سببٍ آخر أو أسبابٍ مُعينَّةٍ، وإلى صرفِ الموانع، وليس ذلكَ إلا لله تعالى، هو الذي يُحدِثُ من الأسباب ما يُعينُ على السَّببِ، ويصرف الموانع التي تمنَعُهُ، وليس في الوجود سببٌ واحدٌ مُؤثِّرٌ بمُجرَّدِه عن أسبابٍ أخرى تُعينه، وليسَ له مانعٌ يمنعُه، ليس في الوجودِ سببٌ واحدٌ ينتجُ عنه شيءٌ، إذن فالنتائجُ التي تحصلُ بالأسباب هي نتائجُ أسبابٍ ليست سببًا واحدًا مُؤثرًا. ويضربُ لهذا مثالًا بالنار، يقولُ: النارُ ليست مُؤثِّرةً في الإحراقِ وحدَها، بل لا بدَّ من شيءٍ قابلٍ، جسم قابل، النارُ لا تُؤثِّرُ في كل ما تتصلُ به، لا بدَّ أن يكون تأثيرها الإحراق في شيءٍ أو في جسمٍ قابلٍ.
    النباتُ الذي يُخرجه الله من الأرضِ، هل هو بمُجرَّدِ المطر، المطرُ جزءٌ من عِلَّةِ وجودِ المطر، ثم جميعُ الأسبابِ مُفتقرةٌ إلى مشيئةِ اللهِ.
    - القارئ: قال: وعصمهُ الله من الناسِ ونصرَهُ في مواطنَ كثيرةٍ نصرًا خارقًا للعادةِ، ونصرَ الله أمتَهُ في مواطنَ كثيرةً، وأكرمَ اللهُ الرُّسلَ والأولياءَ في أمورٍ خارقةٍ للعادةِ، وهذه الأمورُ كلُّها ممَّا يُنكرُها أهلُ هذا المذهبِ الخبيثِ..
    - الشيخ
    : مِمَّا؟
    - القارئ: ممَّا يُنكرها أهلُ هذا المذهبِ الخبيثِ..
    - الشيخ:
    وهذهِ الأمورُ.
    - القارئ: وهذهِ الأمورُ كلها مما يُنكرها أهلُ هذا المذهبِ الخبيثِ..
    - الشيخ:
    يعني مذهبَ الطبعيين نعم، القولُ بالطبيعةِ.
    - القارئ: فعُلم أنه مُنافي للإيمانِ بالرُّسلِ من كلِّ وجهٍ، وأنَّ من زعمَ أنه يبقى مع صاحبِه من الإيمانِ شيءٌ فهو مغرورٌ مُكابِرٌ.
    وأما بطلانه عقلًا وفطرةً فالعلماءُ كلهم مُطبقونَ على انقيادِ العالمِ العلوي والسُّفلي إلى إرادةِ الله وقدرتهِ، ولم يُنكرْ ذلكَ أحدٌ إلا من جحدَ اللهَ ولم يُثبتْ وجودَهُ، وهؤلاء قد عُلِمَ أنَّ عقولهمْ قد مَرَجَتْ وأنكرُوا الأمورَ المحسوسةَ التي لا يزالُ الله يُريها عبادَه في جميعِ الأوقاتِ.
    ومن فروعِ هذا المذهبِ الإنكارُ بأنَّ الله يُنقذُ المُضطرِّينَ، ويُجيبُ دعواتِ الدَّاعينَ، ويُغيثُ اللهفات، ويكشفُ الكُربات، وإنَّما هي عندهم الأسبابُ تتفاعلُ وتتغالبُ فجحدوا ما عُلِمَ بالضرورةَ من.
    - الشيخ:
    ما عندَهمْ الله، أصلًا ما عندهم الله يُجيب الدعوات، ولا يكشف الضَّرورات.
    - القارئ: قال: فجحدوا ما عُلِمَ بالضرورةِ من شرائعِ الأنبياءِ وما أقرَّتْ به الخليقةُ واعترفُوا به وفُطِرُوا عليه، وبذلك حكُمُوا لأنفسهم بمُفارقةِ العقلِ والدِّينِ.
    ومن فروعِ ذلك إنكارُ قصَّةِ آدمَ وإهباطِهِ إلى الأرضِ، وخلْقِ اللهِ إيَّاهُ وإيحائِه إليهم، وجميعِ ما تحتوي قصَّتُه مع زوجِه ومع إبليسَ، وإنكارِ أنه أولُ الإنسانٍ، وزعموا أنَّ الإنسان في أول أمرهِ مكثَ مدةً طويلةً لا يتكلمُ، ولا يُعبِّرُ عمَّا في ضميرهِ، ثم انتقلَ من ذلك الطَّور البهيمي إلى طورِ الإشاراتِ، دون التكلُّمِ باللُّغاتِ، ثم مكثَ ما شاءتِ الطبيعةُ لا ما شاءَ اللهُ، فتطوَّرَ وصارَ يتكلم، فجحدُوا ما جاءتْ به الرُّسلُ، ونزلتْ به الكتبَ، واتَّبعوا ما تخرَّصَهُ المُعطِّلونَ المُلحدُون.
    - الشيخ:
    كأنَّ الشيخَ يُشيرُ إلى شيءٍ من مذاهبِ المُلحدين، التي كأنَّها يعني يطرحُها بعضُ الكتاب ويذكرونَها، وربما في بعض الدراساتِ، في بعض المُؤلَّفاتِ المدرسيةِ، قضيةُ تطورِ الإنسانِ، لكن الشيخَ لم يُشِرْ إلى مذهب "دارون" في أصلِ الإنسانِ وتطوُّرِه، لكن مذهبَ التطور هذا شائعٌ وكثيرٌ عند الملاحدةِ من المُنتسبينَ للإسلامِ، أنَّ الإنسان يعني خَلْقُهُ لم يكنْ بالصورة التي جاءت في القرآن، ربما يذكرونَ أنه مضى عليه كذا من آلافِ او ملايينِ السنين، وكأنَّ هذه المعلومات وصلَتْ للشيخ فأرادَ أن يُشير إليها، ولم يُشرْ إلى مصادرها وإلى الكتب التي تُعرَضُ فيها هذه الأفكارِ الإلحاديةِ. وشيء من هذا يُوجد في بعضِ الكتبِ الدراسية التي تُدرَسُ يذكرونَ أشياءٌ، تطورُ الانسان، العصرُ الفلاني، والعصرُ الحجريُّ، أطوارٌ لهذا الوجودِ، وأطوارٌ لخلقِ الإنسان.
    أما الذي علمَهُ المسلمون وأتباعُ الرسل فهو أن هذا الإنسانَ آدمَ عليه السلام خلقَه الله وصوَّرهُ من طينٍ ثم نفخَ فيه من روحِه، وأسجدَ له ملائكَته، وجرَى القدرُ فأهبطَهُ إلى الأرضِ، ونشأت البشرية على هذه الأرضِ، وكان آدمُ نبيًا مُكلمًا، وهو وذرِّيتهُ يدينون بدين الإسلام، على التوحيد عشرةَ قرونٍ كما جاء عن ابن عباسٍ ثم حدثَ الشِّركُ في بني آدم.
    - القارئ: قال: فجحدُوا ما جاءتْ به الرُّسلُ، ونزلتْ به الكتبَ، واتَّبعوا ما تخرَّصَهُ المُعطِّلونَ المُلحدُون، الذين بنَوا نظرياتهم على تخرُّصاتٍ لا تنبني على العلومِ المعقولةِ، ولا العُلومِ المحسوسةِ.
    ومن فروعِ هذا المذهبِ الخبيثِ، أنَّ هذا العالمَ لم يزلْ ولا يزالُ وأنَّ الله لا يُغيرُهُ، ولا ينقلُ العبادَ من هذهِ الدارِ إلى دارِ الجزاءِ، فأنكروا مقصودَ ما جاءتْ به الكتبُ السَّماوية والرُّسل الكرام، وما دلَّتْ عليه الأدلةُ العقليةُ الصريحة، التي لا تقبلُ ريبًا ولا إشكالًا، فإنَّ الطبيعةَ خلقٌ من خلقِ الله، فهو الذي خلقَ وطَبَعَها وسخَّرها..
    - الشيخ:
    أصلًا ما في شيء طبيعة، طبيعة يعني لها كيانٌ ولها شيء ولها وجودٌ مستقلٌّ، كلُّ شيءٍ له طبيعةٌ، كلُ شيءٍ له طبيعتُه التي طُبِعَ عليها، فالنارُ لها طبيعةٌ، والماءُ له طبيعةٌ، وخالقُ طبيعةِ كلِّ شيء هو "الله سبحانه وتعالى".
    فليسَ هناك شيءٌ مُؤثِّرٌ في كلِّ هذا الوجود اسمُه الطبيعةُ، همُ الذين يدَّعونَ ذلكَ، فيقولون الطبيعةُ أيُّ طبيعة؟ كلُّ شيءٍ بطبيعتِه التي خُلِقَ عليها. وليس شيءٌ هو المُوجِدُ لنفسهِ، يعني الشيءُ يُوجِدُ نفسه، المعدومُ، لا يُوجِدُ نفسَه، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] فمِنَ المُمتنعِ بالعقلِ أن يُوجِدَ المعدومُ نفسَه فضلًا عن أن يُوجِدَ غيرَه.
    المعدوم لا يُوجد نفسَهُ، فكلُّ موجود ومُؤثِّرٍ فاللهُ تعالى هو الذي خلقَه، وجعلَ به هذا التأثيرِ، وإذا قلنا: "النارُ تُحرِقُ بطبعِها" أي: بالخِلقةِ التي طبعها الله عليها جعلَها مُحرقةً. بطبعِها يعني ليست بطبيعتها الذاتية التي هي من نفسِها، لا بل هي طبيعةٌ طُبِعتْ عليها، الله طبعَ النارَ على كذا، طبعَ الأسبابَ على ما طُبعَتْ عليه، فلكلِّ شيءٍ طبيعتُهُ التي خلقَهُ اللهُ عليها.
    - القارئ: قالَ: فهوَ الذي خلقَها وطبَعَها ودبَّرَها وسخَّرَها، فتبًَّا لمن جعلَها ربَّهُ وإلهَه، وهو يُشاهد من آياتِ الله في الآفاقِ، وفي الأنفسِ أكبرَ الأدلَّةِ والبراهينِ على رُبوبيتِه ربِّ العالمين، وأنَّ جميعَ الموجوداتِ مُنقادَةٌ لإرادتِه، مُصرَّفةٌ بقدرتهِ.
    فبهذا التفصيل يتضحُ أنَّ هذا القولَ الأخير ليسَ مذهبًا إلى أحدٍ من المُعترفينَ بالأديانِ، وإنما هو مأخوذٌ عن زنادقةِ الفلاسفةِ القائلينَ بقِدَمِ العالمِ، وأنَّ الله لا يقدرُ على شيءٍ ولا يعلمُ شيئًا من الجُزئياتِ، ومذهبُ هؤلاء معروفٌ أنهم لا يُصدِّقونَ برسالةِ أحدٍ من الرسل، ولا يُقرُّونَ بشيءٍ من الكتبِ.
    وأما المذهبُ الذي حكيناهُ عن الجبريةِ فمع بُطلانهِ فأهلهُ أحسنُ بكثيرٍ من أولئكَ، فإنَّهم ينتسبونَ إلى الدِّين ويُعظِّمونَ الرُّسل، ولكن غلَوا في القضاءِ والقدرِ، فسلبُوا العبدَ قدرتَه ضلالًا منهم وجهلًا، مع إيمانهم باللهِ وملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ واليومِ الآخر والقدرِ خيره وشرِّه لكنهم سلَّطوا أعداءَ الرُّسلِ على المسلمين، حيث نسبُوا مذهبهمْ للدِّينِ والدِّينُ بريءٌ منه، فحملَ عليهم الفلاسفةُ، وسفَّهُوا رأيَهم في هذا، وظنُّوا أنهم بذلك انتصرُوا على الدِّينِ، ولكنَّ الدين الحقيقي يُخطِّئُ هؤلاءِ ويُضلِّلُهم ويحثُّ العباد على القيامِ بالأسبابِ النافعةِ بالدين والدنيا، ويحضُّهم على الاجتهادِ فيها وعلى الاستعانةِ بالله وبحولهِ وقوَّتهِ، وكذلك الدِّين الحقيقيُّ والعقلُ الصحيحُ يُخبِرُ أنَّ ضلالَ هؤلاء الفلاسفة المُعطِّلينَ في الأسبابِ أفظعُ من ضلالِ الجبريَّةِ حيثُ جعلوا الأسبابَ مُستقلَّةً مُنقطعةً عن قضاءِ الله وقدَرِهِ، وأنكروا الأصولَ السابقةَ العظيمةَ لهذا الأصلِ القبيحِ.
    - الشيخ:
    اللهُ المُستعان، لا إلهَ إلا الله.
    مذاهبُ الناس منها مذاهبُ هي داخل دائرة الأمة الإسلامية، مذهب الجبرية مثل ما قالَ الشيخ يُؤمنون بوجود الله، ويؤمنونَ بل يغلُون في إثباتِ تأثيرِ مشيئةِ الله سبحانه وتعالى في الوجودِ، ولكنَّهم أفضى بهم هذا الغلوُّ إلى نفي تأثيرِ الأسبابِ، وتأثيرِ قدرةِ العبدِ ومشيئتِه في أفعالِهِ، هذا مذهبٌ داخلَ دائرةِ الأمةِ الإسلامية والفِرَقِ المنتسبةِ إلى الإسلامِ.
    أما الطبعيُّونَ فهؤلاءِ خارجونَ عن دائرةِ الإسلامِ، ليسوا من المسلمين في شيءٍ، وإن كان منهم كما تقدم، وإن كان منهم من ينتسبُ للإسلامِ، ينتسبُ للإسلامِ انتسابَ الهويَّةِ والبلدِ والقبيلةِ وما أشبهَ ذلك، انتسابُهُ للإسلام هو انتسابُ المُنافقين، تمامًا.

    - طالب: بعضُ اليهودِ والنصارى يقولون: البترولُ أصلُه حيواناتٌ قديمةٌ مُتعفنةٌ، والله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:22]
    - الشيخ: أمرُه سهلٌ يا شيخ عبد الله، أمرُهُ سهلٌ. البترول ليقولوا فيه ما شاءوا ولكن..
    - طالب: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:22]، كلُّ شيءٍ؛ البترولُ، الأمطارُ..
    - الشيخ:
    حتى على قولِهم لو صحَّ ما يقولونَ فإنه بتقديرِ الله، فهو يخلقُ الأشياءَ من الأشياءِ، يخلق أشياءً من أشياءٍ، والمعادنُ يذكرُ العلماءُ أنها تنشأُ بقدرةِ اللهِ بأسبابٍ يُقدرها.
    - الشيخ: الحق. هو اللهُ سبحانه وتعالى على كلِّ شيءٍ قديرٍ.[شرح رسالة (أُصُولٌ عَظيمةٌ مِن قَواعدِ الإسلامِ)-للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هل خلق الله الأشياء وقدَّر فيها خواصها وطبائعها أم إنه تعالى يخلقها عند الحدث ؟

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : لكن طائفة من أهل الكلام - المثبتين للقدر - ظنوا أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق؛ فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله: قالوا فهي فعله. فقيل لهم مع ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا؛ فمنهم من قال: هي كسبه لا فعله ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق. ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين. ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد فعل صفاته. والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة؛ من الفرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق؛ فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله: كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله وليس ذلك نفس خلقه وفعله بل هي مخلوقة ومفعولة وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله ولا يتصف بها فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته؛ وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها وله عليها قدرة وهو فاعلها باختياره ومشيئته وذلك كله مخلوق لله فهي فعل العبد ومفعولة للرب.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •