وقفات عمرية
موقع مفكرة الإسلام


إن الإنسان عندما يضع له قدوة في حياته، يستطيع أن يرسم ملامح خطاه التي يريد أن يخطوها في حياته، وبذلك يستطيع أن يحقق أهدافه في الحياة، وكنا في المقالتين السابقتين قد ذكرنا بعضًا من القدوات من الصحابة حتى نخطو على خطاهم ونسير في طريق الله - تعالى -، وقد تعودنا أن نذكر سيرة الصحابة من مولده حتى وفاته، ولكن في هذه المرة لا نستطيع أن نذكر ذلك في مقالة واحدة، لأن سيرة هذا الصحابي تحتاج إلى العديد والعديد من المقالات حتى نوفي حق هذا الصحابي علينا.
فعندما نتحدث عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله، نتحدث عن صحابي جليل وقائد عظيم وعابد قانت، وخليفة عادل إلى غيرها من الصفات التي يتصف بها هذا الرجل الذي بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وفي السطور التالية نتناول بعضًا من مواقفه والتي تعد منهجًا تربويًا لكل شاب يريد السير على طريق الله - تعالى -.
وقتك حياتك:
إن الوقت من أهم الثروات التي لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها، فالوقت هو الحياة والشاب لا يستطيع تحقيق النجاحات على أرض الواقع إلا إذا كان مستثمرًا لوقته بشكل جيد، لأنه يعلم قيمة الوقت الذي هو سر حياته، فإن ذهبت أنفاسه في غير جد واجتهاد ذهبت أيامه ولياليه هباء منثورًا، فالشاب الذي تمر عليه الأيام وهو يقضيها متقلبًا بين نوم ومشاهدة للتلفاز، أو يجلس مع أصدقائه في قارعة الطريق ولا شيء آخر، لا يملك ما يشغله أو يملأ عليه حياته، ربما لا يشعر في البداية بخطورة الفراغ، بل أظنك تعرف كثيرًا من الشباب، الذين يظنون أنهم من المحظوظين لأنهم فارغين ولا يتحملون أية مسئوليات، إلا أنه مع مرور الزمان، وتوالي الشهور والأيام وهو يعيش هذا الروتين، فإن حياته اليومية تمر عليه دون أن يشعر بها، لأنه لم يتذوق حلاوة التعب والعمل.
عندها سوف تنقلب عليه الحياة جحيمًا، وتسمع وابلًا من التساؤلات، ومنها إلى متى سأبقى على هذه الحالة؟! وكيف أتخلص منها؟! لا أدري فتمر عليه الثواني وكأنها ساعات، وتمر عليه الليالي والأيام وكأنها سنوات مديدات، يشعر بثقلها ويتضجر منها، حينها يبدأ القلق والضجر يدبان في نفسه، فيصير إنسانًا لا يدري ماذا يفعل كالذي يعيش في ظلام دامس لا يعرف إلى أين يتجه، كالغريق وسط الأمواج يبحث عن وسيلة للنجاة، فما أحوجه إلى إدارك ذاته وهدفه، ومن ثم إدراك أهمية حياته ووقته.
أما إذا أردنا أن نتأمل في سيرة الفاروق عمر - رضي الله عنه -، فموقف واحد يكفيك لتتعرف على شدة اهتمامه بوقته فكان - رضي الله عنه - (كثيرًا ما يرى عليه آثار التعب، وقال لمعاوية بن خديج ـ وقد دخل عليه في وقت الظهيرة فظنه قائلًا ـ: (بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت بالليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية) [الزهد، الإمام أحمد، (2/172)، حياة النور، فريد مناع، ص(137)].
أفرأيت كيفية تفكير الإنسان حينما يدرك أهمية ما بين يديه من وقت؟ فلقد تعرف عمر على معنى الحياة فقطع الأوقات فيما يرضي الله في علم وعمل، وقد لقي ربه سابقًا إلى جنات ونهر بإذن ربه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فهل أدركت أنت أيها الحبيب قيمة حياتك وقيمة وقتك؟
بل كيف ترضى لنفسك أن تنتقل من فراغ إلى فراغ، والعمر يمضي والوقت يسير وأنت عنهما مسئول، وعن شبابه في أبلاه وعن عمره فيما أفناه، فبالله تأمل في أمسك، وتمسك بيومك، وأعد الزاد لمستقبلك، فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل، وهناك يفرح أقوام ملئت أوقاتهم في كل نافع ومفيد، كما أن هناك أقوام يعضون أصابع الندم، على ما فات من أعمارهم، وما ضيعوا من أوقاتهم.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد
تعلم من الألباني - رحمه الله -
وتأمل معي ما فعله الشيخ الألباني حينما غير فتحة باب مكتبه لأنه يأخذ من وقته الثمين، فقد أتى بنجار ليغير فتح باب مكتبته من جهة إلى أخرى وعندما سُئل عن ذلك قال: (في الحال الأولى أحتاج إلى خمس خطوات من الباب لأصل إلى المكتب، وإذا حسبت هذا مع عدد مرات دخولي وخروجي يكلفني ذلك في اليوم ربع ساعة، أما في الحال الثانية فرجل في الباب ورجل على المكتب، كل هذا حرصًا على بضع ثوان في كل مرة، فكيف لو ابتلي الألباني بالعيش مع أنصار "تضييع الوقت"!!، فالألباني وضع له هدف في الحياة، ولذا لم يسمح لدقائق معدودة أن تسرق منه وقتًا كان من المفترض أن ينفقه في سبيل تحقيق هدفه) [سر النجاح والفشل، عبد اللطيف الثبيتي].
العابد القانت:
وقد كان من أهم الأبواب التي يشغل بها عمر - رضي الله عنه - وقته، باب العبادة، فكان العابد القانت فقد كان في وجهه خطان أسودان من شدة البكاء، يقول الحسن: (تزوج عثمان بن أبي العاص امرأة من نساء عمر بن الخطاب، فقال: والله، ما نكحتها رغبة في مال ولا ولد، ولكني أحببت أن تخبرني عن ليل عمر فسألتها، فقال: كيف كان صلاة عمر بالليل؟ قالت: كان يصلي صلاة العشاء، ثم يأمرنا أن نضع عند رأسه تورًا فيه ماء فيتعار [أي يتقلب] من الليل فيضع يده في الماء فيمسح وجهه ويديه، ثم يذكر الله - عز وجل - حتى يغفي ثم يتعار حتى تأتي الساعة التي يقوم فيها) [الزهد، الإمام أحمد، (2/148)].
فعجبًا والله، إنه يخفق برأسه فقط دون أن يذهب ويركن إلى فراشه، ويبرهن على هذا ابن كثير رحمه فيقول: (كان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر) [البداية والنهاية، ابن كثير، (7/152)].
فهل يا ترى لك ورد من العبادة؟ من صلاة قيام أو قراءة قرآن أو ذكر لله تبارك وتعالى، وأنا أسألك عن ذلك لا أقصد وردًا كورد عمر مثلًا من قيام الليل، بل أسأل عن ركعتين خفيفتين في جوف الليل أو صفحة من القرآن كل يوم لا تنقطع عن قراءتها، فما أحوجنا يا شباب إلى ملء أوقاتنا بالطاعة، وري شجرة المراهقة بالعبادة، والجزاء من جنس العمل لا ريب ولا يظلم ربك أحدًا (فمؤدي الفرائض كاملة محب لله ومؤديها وبعدها النوافل محبوب نم الله؛ يدل على ذلك الحديث الذي يرويه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزة - سبحانه وتعالى - وفيه...وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه [رواه البخاري]) [الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى، (38)].
رفيق الدرب:
الصديق والصاحب، هو من زاد الطريق، فإما أن يعينك على الخير، وإما يحضك على الشر حتى ولو لم يقصد بذلك، فكما قيل: أن الطباع تسرق، وحسبنا هنا أن نقف عند قول عمر وهو يتحدث عن الصديق فيقول: (عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين من القوم ولا أمين إلا من خشي الله، فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى) [إحياء علوم الدين، الغزالي، (2/19)].
وإذا نظرنا إلى أصحاب عمر سنجد أنهم كانوا من الذي يخشون الله - تعالى -وأمناء، فهذا أبو بكر الصديق وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، إلى غيرهم من الصحابة، وقد أمر الله - تعالى -بمصاحبة الصالحين فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
فقد (أمر - تعالى -نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.
(وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك.
(تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) غفل عن الله، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
(وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) أي: صار تبعا لهواه، حيث ما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال - تعالى -: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الآية. (وَكَانَ أَمْرُهُ) أي: مصالح دينه ودنياه (فُرُطًا) أي: ضائعة معطلة.
فهذا قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به، ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إمامًا) [تفسير السعدي، (1/475)].
فما أهم الرفقة في حياة الشاب؟ إننا نؤكد على أن المراهق تتعطش نفسه لرفقاء وأقران يشعر بفهمهم له وتواصلهم معه، مما يساعده على الاستقرار النفسي في تلك المرحلة، ولكن أي رفقة التي يلجأ إلى الشاب، أهي الرفقة التي تعينه على إعمار حياته بالطاعة والنجاح؟
إننا نجد من الشباب من لا يحسنون اختيار أصدقائهم، فنراهم يتساهلون في اختيار أصدقائهم فلا يهمه أحدهم صفة هذا الصديق طالما أنه يتمتع بخفة دم وبعلاقات واسعة، فلا يهتم الشاب بصفات هذا الشاب هل هو صالح أم سيئ؟ بخيل أو كريم؟ شجاع أو جبان؟
على خطى الفاروق:
هذا الذي ذكرناه، هو قلة قليلة جدًا من مواقف عمر بن الخطاب الخالدة، وكما تعودنا معًا أننا لا ننهي كلامنا دون نخطو خطوة عملية نطبقها في حياتنا اليومية، وهذه الخطوة هي:
1. حدد أهدافك وقم بتحديد الوقت المطلوب لها.
2. حافظ على صلاة الوتر يوميًا، كأقل ورد تأتي به من قيام الليل.
3. حدد صفات صديقك الذي تبغي أن تصادقه، وقم باختياره، ولا ترضى بصديق السوء لك رفيقًا.
ــــــــــ
المصادر:
· الزهد، الإمام أحمد.
· حياة النور، فريد مناع.
· سر النجاح والفشل، عبد اللطيف الثبيتي.
· البداية والنهاية، ابن كثير.
· الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى.
· إحياء علوم الدين، الغزالي.
· تفسير السعدي