الإمام المقريزي
ناصر بن محمد الأحمد



هو تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي.
اشتهِر بلقب: "تقي الدين المقريزي".
أصل أسرته من بعلبك بلبنان الحالية، أما هو فولد بمصر وتوفي فيها.
والمقريزي: نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة.
انتقل أبوه من لبنان إلى مصر القاهرة وتولى فيها بعض الخطط الديوانية، وهناك ولد له أحمد سنة 766هـ.
نشأ تنشئة أبناء الموسرين فحفظ القرآن وسمع الحديث لا سيما على جده لأمه المحدث شمس الدين ابن الصائغ الحنفي.
فنشأ حنفياً وكان أبوه حنبلياً ولما ترعرع وجاوز العشرين، ومات أبوه تحول المقريزي إلى المذهب الشافعي.
سمع الكثير من شيوخ وقته كالآمدي والبلقيني والعراقي والهيثمي وغيرهم.
قال ابن حجر: " وسمع من شيوخنا وممن قبلهم قليلاً".انتهى.
رحل إلى دمشق وشغل بها عدة مناصب وعُرض عليه قضاء دمشق فامتنع.
كان يحب الخلوة والانقطاع للعبادة وقل أن يتردد إلى أحد إلا لضرورة.
قال ابن حجر: " كان إماماً بارعاً متقناً ضابطاً ديّناً خيّراً محباً لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به، حتى نُسب إلى الظاهر حسن الصحبة حلو المحاضرة".
حج مراراً وجاور بمكة مدة وألّف هناك كتباً.
له معرفة تامة بالتاريخ والسير وأخبار الدول، وقد أثنى على تآليفه الحافظ ابن حجر، واستطعم مقدماته وتدبيجاته لكتبه، وذكر أنه من أهل الترسل والإنشاء.
وأهم علم عني به المقريزي علم التأريخ والأخبار، ويدخل في ذلك: علمه بالنسب، والخطط والآثار والمعادن والرمل والأزياج، وغير ذلك..
وظهرت فائدة علمه بالتواريخ في توفير مادة استقرائية كبيرة عنده، مما دفعه للتأليف في فنون شتى، كعادة من تبحر في التواريخ والأخبار. قال السخاوي: " قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلد كبار"(1).
وقد ضمَّنَ بعض كتبه عبارات نفيسة واستقراءات مفيدة كانت حصيلة كد عمره ونتاج اشتغاله وتحصيله لتلك التواريخ والأخبار، وهي عبارات عابرة ورسائل قليلة في عددٍ كبير من الرسائل والمصنفات. وباستعراض بعض تصانيفه يظهر طول باع الرجل وتمكنه من التأريخ(2)، فتجد فيها:
1) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع. مطبوع.
2) والبيان والإعراب عمن في أرض مصر من قبائل الأعراب. مطبوع.
3) الإلمام فيمن تأخر بأرض الحبشة من ملوك الإسلام. مطبوع.
4) معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم. مطبوع.
5) النقود القديمة الإسلامية.
6) الأوزان والأكيال الشرعية.
7) المقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية.
8) الإيماء في حل لغز الماء.
هذا غيضٌ من فيض ما عنده.
ويوجد في آخر الجزء الأول من كتاب: "إمتاع الأسماع" (تحقيق: محمد عبد الحميد النميسي) كملحق ثبتٌ بأشهر مؤلفات المقريزي المخطوطة والمطبوعة. [انظر: الذخائر الشرقية، لكوركيس عواد(1/ 108)].
والغالب على تصانيفه التأريخ والسير، ومن أشهرها، وأجمعها:
المقفى، واتعاظ الحنفاء، والسلوك بمعرفة دول الملوك، وغيرها.
ومن العناوين الواردة له في علم الاعتقاد:
البيان المفيد في الفرق بين التوحيد والتلحيد.
وتجريد التوحيد المفيد.
العنوان الأول ذكره إسماعيل باشا البغدادي في [هدية العارفين(1/127)]، ولا يدرى هل هو كتاب مستقل في التوحيد غير التجريد أم أنه هو؟!، وهذا يحتاج إلى الإطلاع على النسخ ومقارنتها، حتى يجزم بشيء في ذلك.
أما كتاب: "التجريد" فكما هو ظاهر من عنوان الكتاب هو: "تجريد"، "والجيم والراء والدال أصلٌ واحد، وهو: بُدوُّ ظاهرِ الشيء حيث لا يستره ساتر"(3)، يقال: تجرَّدَ الرجل من ثيابه، يتجرَّد تجرداً، ويقال للواحدة من سعف النخل جريدة؛ لأنه قد جُرِدَ عنها خُوصُها، والأرض الجَرَد: الفضاء الواسع، سمي بذلك لبروزه وظهوره، وأن لا يستره شيء وقال بعض أهل العلم: سميَّ (الجراد) جراداً؛ لأنه يجرد الأرض، يأكل ما عليها.
وهذه عادة مسنونة للعلماء أنهم يجردون بعض الكتب والمطولات والمتفرقات، فينظمون ما استتر فيها من نفيس المعاني ودرر الكلام في كتاب أو مجموع واحد، يسمونه: "تجريد"، أو: "التجريد"، وعلى قدر علو الهمة في الطلب وكثرة النهم في الاستخراج والتجريد، على قدر ما تكثر المواد والمستخلصات المجرودة عندهم، فتحتاج تلك المفترقات بعد ذلك إلى حسن ترتيب وتبويب، فإذا رتبت وبوبت كانت كتاباً مستقلاً، ولهذا تكثر عناوين الكتب التي تحمل اسم: "تجريد"، فتجد مثلاً: تجريد أسماء الصحابة، وتجريد الأصول في أحاديث الرسول، وتجريد الكلام للطوسي مخرب دولة بني العباس، وتجريد العقائد شرح لتجريد الكلام، وتجريد الصناعات والأنوار للبيروني، وغير ذلك من العناوين.
ومن هنا يعلم أن عنوان الكتاب يدل على أن أصل الكلام مستل ومستفاد من كلام غيره، وإذا حصلت المقارنة بينه وبين كلام أئمة السلف خاصة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما تجد نَفَسَهما واضح فيه، وليس هذا بغريب إذا علمت منـزلة المقريزي في التاريخ ومعرفة ما كان عليه الناس، ولهذا لما ذكر المذاهب الحادثة ودخولها لمصر إلى وقته، ذكر ابتداء الفرق، ومن رد عليهم من الأشاعرة وابن كلاب وغيرهم، ثم عرج بعد ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية وذكر فضله وإمامته ومخالفة الناس له.
وهاتان وقفتان حول حياة هذا الرجل تساعد في اكتشاف بعض الغوامض والمبهمات في سيرته.
الوقفة الأولى: نسب المقريزي:
قال السخاوي في: "الضوء اللامع" عن المقريزي: "… وكان مع ذلك يكثر الاعتماد على من لا يوثق به من غير عزو إليه حتى فعل ذلك في "نسبه"، فإنَّ مستنده في كونه من العبيديين كونه دخل مع والده جامع الحاكم، فقال له: يا ولدي، هذا جامع جدك. لا سيما وما قاله ابن رافع في نسبه عبد القادر جده أنصارياً، يخدش في هذا، وإنْ توقف صاحب الترجمة فيه، لكنه مع ذلك يتجاوز في تصانيفه في سياق نسبه عبد الصمد بن تميم، وإنْ أظهر زيادة على ذلك، فلمن يثق به، ثمَّ رأيت ما يدل على أنه اعتمد في هذه النسبة العرياني المشهور بالكذب، فالله أعلم …" أ.هـ. [من الضوء (2/23)].
وقد ساق محمد مرتضى الزبيدي (توفي سنة 1205) نسب المقريزي في "المشجر الكشاف" إلى "تميم" بن معد ببقية النسب المظلم المكذوب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقال - رحمه الله - عن نسب المقريزي: " ومنهم من أنكر هذا النسب، والله أعلم" أ.هـ. [نقلاً من زيادات الزبيدي على المشجر الكشاف: نسخة المدينة، مجموعة الصافي، ق 96].
وقال الشوكاني في: "البدر الطالع" عن كتاب: الخطط والآثار للمقريزي: " وهو من أحسن الكتب وأنفعها، وفيه عجائب ومواعظ، وكان فيه ينشر محاسن العبيدية، ويفخم شأنهم، ويشيد بذكر مناقبهم وكنت قبل أن أعرف انتسابه إليهم أعجب من ذلك، كونه على غير مذهبهم، فلما وقفت على نسبه علمتُ أنه استروح إلى ذكر مناقب سلفه". أ.هـ. (1/80).
وواضح من كلام السخاوي أن بيته لم يكن معروفاً بالنسب الحسيني، إذ كان يعرف بـ: "الأنصاري"، ثم غيَّرَ ذلك بعد مدة، والتزم لقب "الحسيني" كما حكاه السخاوي في: "الضوء" كما تقدم.
كلمة حول نسب العبيدية الباطنية:
وانتسابه للحسين بن علي من جهة العبيدية القرامطة كما هو واضح من عمود نسبه، وقد توارد بعض أهل السنة على نفي وجود عقب إسماعيل بن جعفر، واستدلوا بكلام أبي حامد الغزالي في كتابه: "فضائح الباطنية" وابن الأثير وغيرهما، وقد وافقهما على هذا القول بعض المعاصرين(4)، وسبب هذا القول هو انتحال العبيديين لنسب إسماعيل بن جعفر، فقالوا بإبطال النسب من الأصل ليسلم الفرع، وكل ذلك لأجل نفي نسب العبيدية، وهذا القول مباين للحق وللمعروف عند ثقات النسابين كالزبيري في "نسب قريش" وغيره من الأكابر، ونسب العبيدية باطل، ولكن ليس معنى ذلك إبطال وجود عقب إسماعيل بن جعفر الصادق.
وفي نسب بني عبيد الباطنية يقول شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "… فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان، فأقل ما في شهادته، أنه شاهد بلا علم، قافٍ ما ليس به علم، وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ومعاداة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليل على بطلان نسبهم الفاطمي، فإن من يكون من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معادته لدينه كمعاداة هؤلاء؛ فلم يعرف في بني هاشم، ولا ولد أبي طالب، ولا بني أمية: من كان خليفة، وهو معاد لدين الإسلام، فضلاً عن أن يكون معادياً كمعاداة هؤلاء، بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم، فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداة؟ ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطناً وظاهراً معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق لا يعرف ما بعث به رسوله، وهذا مما يدل على كفرهم، وكذبهم في نسبهم... "أ.هـ (5).
وليس المراد من النقل السابق أن من كان من آل البيت فإنه لا يقع في البدعة أو الأخطاء التي تخالف الكتاب والسنة، ولكن المراد أن من صحت نسبته ويُنادى بالخلافة، وحصل له من التمكين الشيء الكثير، لا يمكن أن يصدر منه مثل تلك الحرب المعلنة الصريحة على دين الإسلام، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: "… وقد تولى الخلافة غيرهم (يعني: بني عبيد) طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظلم ما فيه، فلم يقدح الناس في نسب أحد من أولئك، كما قدحوا في نسب هؤلاء، ولا نسبوهم إلى الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء، وقد قام من ولد علي طوائف: من ولد الحسن، وولد الحسين، كمحمد بن عبد الله بن حسن وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمثالهما، ولم يطعن أحد لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الداعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلبوا في الأندلس مدة، وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد في نسبهم، ولا في إسلامهم، وحبس طائفة كموسى بن جعفر، ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم ولا في دينهم.
وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس، لا يقدر العدو أن يطفئه وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفى وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه، وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوال العلماء... " أ.هـ(6).
ولما جرت القصة الشهيرة بين ابن طباطبا النسابة النقيب مع المعز العبيدي، سأله ابن طباطبا عن نسبه، فقال الخليفة العبيدي: غداً أخرجه لك، ثم أصبح، وقد ألقى عرمة (كومة) من الذهب ثم جذب نصف سيفه من غمده، فقال: هذا نسبي، وأمرهم بنهب الذهب، وقال: هذا حسبي(7).
قال ابن خلكان وغيره: أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر، حتى أن العزيز في أول ولايته صعد المنبر جمعة، فوجد هناك رقعة فيها (8):
إذا سمعنا نسباً منكراً *** نبكي على المنبر والجامع
إن كنت فيما تدعي صادقاً *** فاذكر أباً بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته *** فانسب لنا نفسك كالطائع
أوْ لا دَعِ الأنسابَ مستورة *** وادخل بنا في النسب الواسع
فإن أنساب بني هاشم *** يقصر عنها طمع الطامع
الوقفة الثانية: اعتقاد المقريزي:
الكتاب الذي جرده المقريزي دليلٌ على علم نافع اطلع عليه - رحمه الله تعالى-، ولولا أنه يعتقد ما فيه لما قال عنه: "تجريد التوحيد المفيد"، فعنوان الكتاب يدل على رؤية الشيخ لهذا النوع من كتابه، وقد قال الشوكاني في سياق الثناء على المقريزي أنه على غير مذهب العبيدية، وهذا ظاهر وواضح، وكان من الألغاز عند الشوكاني التي تحتاج إلى جواب تعظيمه للعبيدية الباطنية، فلما اطلع على انتسابه إليهم علم أنه استروح إلى ذكر مناقب سلفه"، كما تقدم.
وأيضاً: فتمذهب الرجل بمذهب أبي حنيفة وانتقاله شافعياً، ورميه بالظاهرية، دليلٌ واضح على أن الرجل ليس خبيثاً أو باطنياً، بل فيه رائحة خفية بأن الرجل يدور بين الماتريدية والأشاعرة، وقد نقل في بعض رسائله المطبوعة قوله: "وقال أصحابنا الأشعرية"(9)، وهذا يشير إلى انتسابه في الجملة إلى الأشاعرة. وكتابه هذا يدل على خلاف ذلك في الجملة أيضاً، فيظهر أن انتسابه إليهم وتحليته لنفسه بأنه في عدادهم لموافقته لهم في تلك المسألة وهي مسألة "الموافاة الشهيرة في باب الإيمان".
ومما يؤخذ على المقريزي نقله لأي كلام إذا خدم موضوعه ورأيه، ففي رسالته عن "معرفة ما يجب لآل البيت على من عداهم" نقل كلاماً لابن عربي الصوفي الشهير، وكان ذلك في سياق إثبات فضل وحق آل البيت، وقد أتى فيه بطوام ومعضلات من كفريات وبدع ابن عربي، وقد كان ذلك الكلام تكأة لكثير ممن جاءوا بعد ابن عربي من الصوفية والطرقية، وتضمنه كتاب "النصيحة" لزروق المالكي المتوفى في سنة 899 هـ ، وهو كلام فيه طوام، والعجيب أن المقريزي أيد كلام ابن عربي واستشهد له، ونقل أيضاً في تلك الرسالة كثيراً من الرؤى الفاسدة واستروح لها ونقلها عن كذابين أو مجاهيل، ومن ذلك نقله لرؤى قيلت في "تيمور لنك"، وأنه نجى من العذاب بسبب حبه لآل البيت، ونحو ذلك من الخرافات.
وقد نقل الحافظ السخاوي في "الضوء"(7/70) أن المقريزي ممن ينقل غالب تاريخه عن رجل يكذبه الحافظ ابن حجر، ثم يصفه المقريزي بـ: "الحافظ".
وأياً ما كان فكتابه هذا فيه دليلٌ على فضل الرجل وحسن اعتقاده في الجملة، فقد جرد ما ينتفع به، وهذا هو المهم من الدرس وشرح الكتاب أنه تضمن علماً نافعاً، وليس المراد فك الألغاز التي تلف حياة الرجل في مذهبه ونسبه واعتقاده، أو تقديمه على أنه ممن يؤتم به في باب الاعتقاد، فهذه سبيلٌ أخرى، وجادة معروفة لمن عرف مذهب السلف ولكن، وُجِدَ أن هذا الكتاب نافع ومفيد في الاعتقاد، وجمع زبد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فسواء عُرِف المؤلف أم لا يعرف، لا يقدح ذلك في قيمة الكتاب وأهميته، والحكمة ضالة المؤمن، وقد قال - تعالى - في أهل الكتاب: (لَيْسُواْ سَوَاء) [سورة آل عمران:113]، و قال - تعالى -: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا) [سورة آل عمران:75]، وقد قيل في الشيطان: ((صدقك وهو كذوب)) والله - تعالى -أعلم.
خاتمة حول حياة المقريزي:
من مصائد الشيطان لمن ينبل ويكون له حظ من العناية بالعلم ومعرفة ما عليه الناس من الاعتقادات أنه يلهيه بمنازل آله وأسلافه ويهول له من كثير مناقبهم، وشريف درجاتهم، وعلو كعبهم في العلم والعمل، و قلَّ أن ينجو من هذا إنسان.
وإنك لتعجب من رجال كانوا ملأ السمع والبصر، ثم أصابهم ما أصاب غيرهم من الانشغال بمنازل الآباء والأسلاف فانصرفت هممهم إلى تمجيد حياة الآباء والبحث عن خصائصهم وأخبارهم والاعتناء بشاراتهم وقصورهم وعاداتهم وما يتبع ذلك من أمور، وهذا يكون إما لمجرد الانبهار بما كان عليه الأسلاف، أو يكون لملمح دنيوي، فيريد من الاعتناء بأحوالهم تحقيق علو أو جاه أو رئاسة في الأرض، … وهذا معنى يطول الحديث حوله، وقلَّ أن ينجو منه أحد إلا من وفق وعصم.
والمقريزي - رحمه الله - من قومه وإن قال لست منهم، وقد استروح في عدد من كتبه إلى تعظيمهم، والدفاع عنهم، والتهويل من شأنهم، وهم زنادقة في الدين، كذابون في النسب، لا خلاق لهم عند الله، ولو أنه نالته عناية إلهية وتوفيق رباني لكان علمه بالتاريخ وعنايته بالسير شاحذاً له إلى ترقي سلم المجد، ولنفع الله به كثيراً ولكن ((كلٌ ميسرٌ لما خلق له)).
ومثل المقريزي كثير من المعتنين بمسائل العلم خاصة مواد الاستقراء والحضارة، ولكن نفعهم في الأمة قليل؛ لأن اشتغالهم بالعلم لم يكن من جهة صافية شرعية، ولهذا يغلب على علوم هؤلاء أنها غير نافعة، وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ((علم لا ينفع))، ولهذا من علامة الأئمة الربانيين وسمت السلف المرضيين اشتغالهم بالعلم النافع، ولهذا كان لكلامهم وقع في القلوب، يأخذ بمجامع النفوس، وتغني قليل عباراتهم عن كثير من تطويل وحواشي المتأخرين، وما ذلك إلا لأن علمهم كان مرتبطاً بالأصلين: الكتاب والسنة.
ومن هنا تظهر أهمية هذا الكتاب، فهو على صغره واختصاره إلا أنه احتوى على جملة صالحة من العلم النافع من كلام السلف، وخاصة تحريرات شيخ الإسلام ابن تيمية وما بثه في أتباعه وتلامذته من نصرة مذهب الحق والرد على الملاحدة وأتباعهم من أهل البدع.
فالكتاب في أصله لا يعدو إلا أن يكون كلاماً متفرقاً لشيخ الإسلام جمعه وجرده المقريزي من كتب شيخ الإسلام، وقد أضاف عليه بعض اللمسات التي تظهر فضل الرجل ومنـزلته في التاريخ والمعرفة.
والله - تعالى - أعلم.
ـــــــــــــــ ـــــــ
1- الأعلام (1 / 178). ومعجم المطبوعات (1779).
2- يوجد في آخر الجزء الأول من كتاب"إمتاع الأسماع" (تحقيق: محمد عبد الحميد النميسي) كملحق ثبتٌ بأشهر مؤلفات المقريزي المخطوطة والمطبوعة. (وانظر: الذخائر الشرقية 1 / 108).
3- معجم مقاييس اللغة (1 / 452).
4- من ذلك ما نقله السلوم في رسالة الماجستير عن الباطنية، فقد قال بانقطاع عقب إسماعيل بن جعفر متتابعاً في ذلك للغزالي وغيره.
5- مجموع الفتاوى (35 / 131- 132). وانظر: الفتاوى (4 /477 - 478) أيضاً في هذا المعنى.
6- مجموع الفتاوى (35 / 130). نسب بني عبيد الباطنية خاض فيه المتقدمون والمتأخرون، وليس المراد ههنا تفصيل القول فيهم، وذكر الرسائل المفردة فيهم، وإنما نذكرُ في هذا بعض الخلاصات: انقسم أهل التاريخ والنسب إلى قسمين:
الأول: يرى أن نسب العبيديين باطل لا يصح بوجهٍ من الوجوه، ثمَّ اختلفوا في مرجع نسبهم يعود إلى من؟ فمن قائل أنه يعود إلى اليهودية، ومن قائل أنه يعود إلى الثنوية الديصانية، وغير ذلك من الأقوال. و هذا الذي عليه المحققون وعلماء الأمة الأثبات من المتقدمين والمتأخرين، وأدلة قولهم كثيرة جداً. و قد نقلت شهادات الأمة في عهد خلافة بني العباس بإبطال نسبهم، في سنة 402، و444، وكتبت بذلك المحاضر، ووقع على ذلك القضاة والوزراء والأشراف وطوائف العلماء، ومن جملة الموقعين الشريف الرضي والمرتضي. وقد أبطل نسبهم الشريف العابد - وهو من عقب إسماعيل بن جعفر الصادق - وردَّ على مذاهبهم الكفرية وفضح طريقتهم في المكر والخداع والتدرج بالبسطاء وانتسابهم زوراً لآبائه، وهذا القول هو القول الصحيح في نسب العبيدية الباطنية.
وهناك قولٌ آخر في نسبهم يرى أصحابه: أن نسب بني عبيد ثابت في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق الحسيني. وأصحاب هذا القول طوائف شتى، فمنهم أقوام مغموص في دينهم من الرافضة والباطنية، وممن صحح نسبهم الرفاعي الصوفي الغالي في كتابه: (بحر الأنساب) حيث صحح نسبهم، وألصق بهم طوائف البهرة والآغاخانية الذين غزو مصر بأموالهم ونشر بدع أسلافهم. وممن يقول بهذا القول العلامة ابن خلدون وعلل صحة قوله بأن القوم لا يُمَكَّنُ لهم وهم أدعياء. وقد عدَّ بعض أهل العلم هذا القول من ابن خلدون محاولة منه للغض من أولاد علي -رضي الله عنه-، وأن هذا من علامة انحرافه ونصبه (انظر نقل هذا عن الحافظ ابن حجر: في الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ). وممن صحح نسبهم في البيت الحسيني تقي الدين المقريزي، والمقريزي من عقب العبيديين، والرجل من قومه كما مرَّ ذكره. ومن المعاصرين القائلين بصحة نسب بني عبيد: الأديب العقاد في كتابه "فاطمة الزهراء والفاطميون"، ود. إبراهيم شعوط في: "أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ" حتى أنه قال: "فهذا التشكيك في نسب الفاطميين نوع من العداوة الخبيثة للإسلام والمسلمين، حتى يغضوا من قيمة الفاطميين الذين تركوا في مصر كنوزاً ثمينة من العلم والفن لا تزال باقية إلى الآن" أهـ؟!!
7- سير النبلاء (15/ 141 -151).
8- سير النبلاء (15/ 167-173).
9- رسائل المقريزي