وإذا الوحوش حشرت
زياد أبو رجائي


رجح الألوسي(1) في « تفسيره » الآية : ( وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ) {التَّكوير:5} ما ذهب إليه الغزالي في أنه : « لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا و لا أهلا لكرامة بوجه » ، بل زاد على ذلك بعد ان ناصر مذهب الغزالي ونعته بحجة الإسلام : « و ليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش ، و خبر مسلم و الترمذي و إن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية و يجوز أن يكون كناية عن العدل التام . و إلى هذا القول أميل و لا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا في الجملة . و الله تعالى أعلم »
وتأسف الإمام الألباني - رحمه الله - لمثل هذا المنحى في تفسير الآية ، بخلاف ما ثبت في صحيح السنة حول الحشر ، فقال في السلسلة الصحيحة : « و من المؤسف أن ترد كل هذه الأحاديث من بعض علماء الكلام بمجرد الرأي » .
وتعجب الامام الألباني - رحمه الله - بعد أن استغرب قول الألوسي في تفسيره روح المعاني تعليقاً على هذه الآية : « و أعجب منه أن يجنح إليه العلامة الألوسي ! فقال : - بعد أن ساق الحديث عن أبي هريرة من رواية مسلم و من رواية أحمد بلفظ الترجمة عند تفسيره الآية . » ثم علق الإمام رحمه الله بقوله : « كذا قال - عفا الله عنا و عنه - » ، وأردف الالباني : « و هو منه غريب جدا » ؛ ( لأنه على خلاف ما نعرفه عنه في كتابه المذكور من سلوك الجادة في تفسير آيات الكتاب على نهج السلف) ، دون تأويل أو تعطيل ، فما الذي حمله هنا على أن يفسر الحديث على خلاف ما يدل عليه ظاهره ؟، و أن يحمله على كناية عن العدل التام ؟، أليس هذا تكذيبا للحديث المصرح بأنه يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء(2) ؟!، فيقول هو تبعا لعلماء الكلام : إنه كناية ! ... أي لا يقاد للشاة الجماء . و هذا كله يقال لو وقفنا بالنظر عند رواية مسلم المذكورة ، أما إذا انتقلنا به إلى الروايات الأخرى كحديث الترجمة و حديث أبي ذر و غيره ، فإنها قاطعة في أن القصاص المذكور هو حقيقة و ليس كناية ».
وقال النووي في « شرح مسلم » تحت هذا الحديث : « هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة و إعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين و كما يعاد الأطفال و المجانين ، و من لم تبلغه دعوة . و على هذا تظاهرت دلائل القرآن و السنة ، قال الله تعالى : [وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ] {التَّكوير:5} و إذا ورد لفظ الشرع و لم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل و لا شرع ، وجب حمله على ظاهره . قال العلماء : و ليس من شرط الحشر و الإعادة في القيامة المجازاة و العقاب و الثواب . و أما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف ، إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة ، و ( الجلحاء ) بالمد هي الجماء التي لا قرن لها .و الله أعلم » .
قال الألباني تعقيباً على قول النووي - رحمهم الله - : « و رحم الله الإمام النووي ، فقد أشار بقوله السابق : « و إذا ورد لفظ الشرع و لم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل و لا شرع وجب حمله على ظاهره » ، أشار بهذا إلى رد التأويل المذكور و بمثل هذا التأويل أنكر الفلاسفة و كثير من علماء الكلام كالمعتزلة و غيرهم رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة و علوه على عرشه و نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة و مجيئه تعالى يوم القيامة .
و غير ذلك من آيات الصفات و أحاديثها .

و بالجملة ، فالقول بحشر البهائم و الاقتصاص لبعضها من بعض هو الصواب الذي لا يجوز غيره ، فلا جرم أن ذهب إليه الجمهور كما ذكر الألوسي نفسه في مكان آخر من « تفسيره» ( 9 / 281 ) .
و به جزم الشوكاني في تفسير آية التكوير « من تفسيره » (3)
ونقل الامام الألباني في سلسلته : « و ذكر نحوه ابن الملك في " مبارق الأزهار " ( 2 / 293 ) مختصرا . و نقل عنه العلامة الشيخ علي القاريء في " المرقاة " ( 4 / 761 ) أنه قال :
« فإن قيل : الشاة غير مكلفة ، فكيف يقتص منها ؟ قلنا : إن الله تعالى فعال لما يريد و لا يسأل عما يفعل و الغرض منه إعلام العباد أن الحقوق لا تضيع بل يقتص حق المظلوم من الظالم » . قال القاريء : « و هو وجه حسن ، و توجيه مستحسن ، إلا أن التعبير عن الحكمة بـ ( الغرض ) وقع في غير موضعه . و جملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين ، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف ، فكيف بذوي العقول من الوضيع و الشريف ، و القوي و الضعيف ؟ »
(4)
وقال العلامة السعدي - رحمه الله - في تفسيره : « أي: جمعت ليوم القيامة، ليقتص الله من بعضها لبعض، ويرى العباد كمال عدله، حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها: كوني ترابا. »
وبه قال الإمام البغوي في تفسيره الآية : « يعني دواب البر »
ونقل ابن كثير عن جمع من أئمة السلف : « قال ابن عباس: يحشر كل شيء حتى الذباب. رواه ابن أبي حاتم. وكذا قال الربيع بن خُثَيم والسّديّ، وغير واحد. وكذا قال قتادة في تفسير هذه الآية: إن هذه الخلائق موافية فيقضي الله فيها ما يشاء »



1- في تفسيره " روح المعاني " ( 9 / 306 )
2- [ إن الجماء لتقص من القرناء يوم القيامة ] . ( صحيح ) . وورد بلفظ : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ؛ حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء . واسناده صحيح . وورد بلفظ أيضا : يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة . واسناده صحيح . وعن أبي ذر قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان فقال : يا أباذر ! أتدري فيما تنتطحان ؟ . قلت : لا قال : لكن ربك يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة . واسناده صحيح (السلسلة الصحيحة)
3- فتح القدير ( 5 /377 )
4- السلسلة الصحيحة ( مجلد 4 / حديث :1967)