المسجد منبر الهدى والعلم


إنّ من أولى مهمات المسجد بعد أداء الشعائر التعبدية مهمة نشر العلم الشرعي بين الناس وتعليمهم أمور دينهم، فمنذ أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده وأسَّسه على التقوى وهو يقوم فيه بتعليم أصحابه، إذ كان هو مدرستهم ومعهدهم وجامعتهم التي تلقوا فيها العلم، وتخرجوا منها متزودين مع العلم بالتقوى.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي مهمة التعليم من خلال الخطب والمواعظ وحلق العلم الجماعية، إضافة إلى مجالس التعليم الفردية، وكان من منهجه صلى الله عليه وسلم حثُّ المسلمين على التماس العلم في بيوت الله، وبيان فضلها وأهميتها، وترغيبهم في الجلوس فيها، وذم المعرضين عنها.
وإليك الإيضاح العملي والمنهجي من سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه))(1)، تأمل هذا التصوير البليغ وحسن التأثير الجميل من خلال الربط بالواقع الملموس، مما يزيد في قوة الإقناع والتأثير، فبعد هذا الحديث لا شك أنّ الصحابة تعلقت قلوبهم بأن يكونوا في كنف الله، وسيحرص كل منهم أن يكون ممن يؤيه الله بالإقبال على حلق العلم والتواضع في الجلوس فيها.
وإليك في الترغيب بعظيم الأجر على طلب العلم في المسجد حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم)) فقلنا يا رسول الله نحب ذلك. قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل))(2)، فهنا أراد صلى الله عليه وسلم: ((ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات فذكره هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو بثوابها من الدرجات العلى))(3).
- والمسجد معهد يؤمه طالب العلم، ويقصده المستفتي في أمور دينه، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رجلا قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل أهل نجد من قرن...))(4).
- من المسجد يسطع نور الهدى، ومنه ينشق الفجر الصادق للحياة السعيدة التي تهتدي بنور الله، وتتقيد بضوابط شرع الله: فعن ابن عباس رضي الله عنه ((أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال من القوم أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وربما قال المقير وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم))(5).
- المسجد محطة وقود للتزود بالعلم، وهو مركز توزيع وإشعاع لنشر العلم؛ إذ كان وما يزال المجتهدون يقصدونه للتزود منه بالعلم والعمل، فهاهم الصحابة يقسمون حياتهم نصفين، نصف يتفرغون فيه لطلب الرزق بالضرب في فجاج الأرض ومناكبها، ونصف يقضونه في المسجد ليأخذوا العلم وينهلوا من أنوار الوحي، فعن عمر رضي الله عنه قال: (كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النّزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك)(6).
- المسجد ميدان المنافسة العلمية، والمناظرة الفكرية، التي تشتغل فيها العقول والأفكار، وتكون فيه المسابقة إلى الخير والعلم، فعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم حدثوني ما هي؟)) قال فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة))(7).
- من المسجد يرتفع صوت الحق، فهو ساحة التثقيف والتعليم، وميدان التربية الروحية والإيمانية، يجد فيه السائل جواب سؤاله، ويخرج منه المسلم بتهذيب فِعاله، وإليك شاهد ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: ((أين أراه السائل عن الساعة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله قال: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) قال: كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))(8)، فتأمل هذا التصرف التعليمي الحكيم بالإعراض في أول الأمر للتنبيه على عدم الإحسان بمقاطعة الحديث، ولشد الانتباه ولفت النظر، ثم الحكمة المتناهية في ترك الجواب عما لا جواب له مما هو غيب إلى الجواب الذي يتضمّن ما هو أنفع وأجدى وأقرب إلى لزوم العمل.

_________________
(1) صحيح البخاري ج1/ص36، صحيح مسلم ج4/ص 1731.
(2) صحيح مسلم ج1/ص552.
(3) عون المعبود (4/231).
(4) صحيح البخاري (1/61).
(5) صحيح البخاري (1/29).
(6) صحيح البخاري (1/46).
(7) صحيح البخاري (1/34).
(8) صحيح البخاري (1/33)؛ صحيح مسلم (2/704-705).