بسم الله الرحمن الرحيم
* ~ الطَّـريـد ~ *
قصة جميلة ماتعة بأسلوب أخاذ بديع . . رسمت الأحداث بدقة مع ما فيها من آلام وآمال ، وأحلام لا تعرف المستحيل !! ، مع نهاية غير متوقعة . . فإلى القصة :
بعد سقوط دولة بني أمية على أيدي بني العباس ، قام بنو العباس بالقضاء على المناوئين لهم من بني أمية ، أو غيرهم ، إما عن طريق القتل ، وإما عن طريق المقاتلة ، ومن بين المطاردين كان هذا الفتى .
( اقبضوا عليه يا جنود هيا بسرعة ، قبل أن يفر منا ، إنه في ذلك الحي ) ، بدأ الجنود المدججون بالسلاح بالركض خلف عبدالرحمن الذي دخل ذلك الحي المكتظ بالناس ، وقال مخاطبا أخاه ، - وصدره يعلو ويهبط من شدة التعب - لا تخف ، إن الله سيخلصنا من هؤلاء الأشرار . قال ذلك وقد اختلطت في وجهه علامات الغضب ، والخوف . ما أصعبها من لحظات! إنه رجل شجاع و نفس أبية لا ترضى الهوان ، فكيف يخاف ؟ قال وقد كز على أسنانه من الغيظ : هيا يا أخي أسرع ، ورفع بها صوته .
المدينة هادئة إلا من صوت الجنود وهم يطلبون عبدالرحمن . قال أحدهم : ( من يقبض على عبد الرحمن له من أمير المؤمنينعشرة آلاف درهم في الحال ) ، توقف الناس لسماع هذا الصوت ، حتى قال رجل عجوز : عشرة آلاف درهم في الحال ، أظنه رجلا له شأن عند الخليفة .
أصبح عبدالرحمن في المدينة خائفا يترقب ، حتى دخل دهليزا ضيقا بالكاد يتسع لرجل واحد ، وتبعه أخوه الصغير محمد ، وانحرفا بين أزقة المدينة الضيقة يمنة ، ويسرة حتى اقتربا من دار متواضعة .
طرقا الباب بشدة : افتحوا الباب يا أهل الدار ، أصيبت العجوز بالهلع عند سماع هذا الصوت ، قال لها زوجها : دعيني أفتح الباب ، قالت : لا أرجوك إني أخاف عليك ، قال : الأعمار بيد الله ، وفتح الباب فإذا بالطارق عبدالرحمن وأخوه . قال عبد الرحمن بصوت أضناه التعب : هل تسمح لنا بالدخول يا عم ؟ فرد قائلا : نعم تفضلا على الرحب والسعة ، دخل عبدالرحمن الدار وقد بدا على جسمه التعب الشديد ، فإذا بها دار بسيطة متواضعة ، قال الرجل العجوز : استرح على هذه الأريكة وهدئ من روعك ، أحضري لنا طعاما يا امراة ، فالشمس اقتربت من المغيب .
دار حديث بين عبدالرحمن وأخيه محمد ، قال محمد : يا أخي دعنا نسلم أنفسنا للجند قبل أن يقبضوا علينا فينكلوا بنا ، فرد عليه عبدالرحمن وقد علت على وجهه علامات استغراب : إن القوم قاتلونا إن نحن سلمنا أنفسنا لهم ، اعلم هذا جيدا ، ولا يغرنك ما قطعوه من عهود ، ومواثيق ، وما قالوه من أنهم سوف يكرموننا ، وأن دماءنا عزيزة غالية ، ذلك خداع ، واسكت الآن فالعشاء قادم ، قال الرجل العجوز : تفضلا على طعامنا ، فالجود من الموجود ، وأهلا وسهلا بكما ، وأكلا حتى شبعا ، أخذ قسطا من الراحة ، ومما زاد راحة عبدالرحمن أن الرجل العجوز لم يسألهما أية أسئلة عن سبب مجيئهما ، وعن التعب البادي على وجوههما ، وعندما صليا فجر اليوم التالي أستأذنا صاحب الدار بالرحيل ، فقال لهما : انتظرا ، ثم غاب قليلا وعاد وبيده صرة ليست بالصغيرة فقال : هذا زاد من الطعام للطريق ، ودّعا الرجل العجوز ، وشكراه على حسن ضيافته ن وذهبا .
نظر الرجل إليهما - وفي وجهه علامات تعجب واستغراب وأسئلة يريد بها جوابا - وهز كتفيه قليلا وقال : يسر الله لكما أمركما .
انطلق عبدالرحمن مسرعا وأخوه محمد يتبعه في ظلمة الفجر ، ومشيا بين أزقة المدينة الضيقة ، وبعد مدة ليست بالقصيرة ، ومع بزوغ أول ضوء للشمس من الأفق ، وصلا إلى الأشجار الوارفة ، والبساتين المنتشرة بكثرة على ضفة نهر الفرات ، وولجا بينهما حتى اقتربا من ضفة النهر ، قال محمد الذي بدا على وجهه التذمر ، والسأم : يا أخي ما فائدة الهروب ونحن مطاردون من سلطان الدولة ؟ قال عبدالرحمن بعصبية : قلت لك نحن في نظر الدولة أعداء . هل تفهم معنى كلامي ؟ أعداء . هذه حقيقة يجب أن تعيها . وبينا هما على هذه الحال ، إذا بصوت من بعيد ينادي : إنهما هناك بين البساتين عند ضفة النهر . التفت عبدالرحمن إلى مصدر الصوت ، وقد اتسعت عيناه ، نظر إلى أقصى اليمين ، وإلى أقصى اليسار ، ليس هناك أي سبيل للهروب سوى السباحة في هذا النهر ، وعبوره إلى الضفة الأخرى ، هيا يا أخي اقفز معي ، أسرع . بدأ الأخوان في السباحة ، وعبدالرحمن يتقدم على أخيه قليلا . . حتى اقتربا من وسط النهر فإذا برئيس الجند ينادي بصوت مرتفع : لا تخافا إن أمير المؤمنين أمر بالكف عن مطاردتهما ، وتنهد قليلا وقال : هيا ارجعا فنحن أبناء عمومة ، وبيننا نسب عريق . وصل الصوت إلى أسماع الأخوين ، وقال محمد - بصوت أضناه التعب الشديد - : أتسمع ما يقولون ؟ قال عبدالرحمن - بصوت مرتفع - : اسكت ، وتابع السباحة ، فلم يبق إلا القليل .
وعاود رئيس الجند النداء : أعاهدكما ألا تُمس شعرة من جسديكما ، وألا تؤذيا ، ذلك عهد في رقبتي ألقى الله به يوم القيامة ، قال محمد : أخي يداي تؤلمانني ، ولا أستطيع مواصلة السباحة ، قال عبدالرحمن : اصبر وتحمل ، ولا تغرنك تلك العهود ، والمواثيق ، إنهم لا أيمان لهم ، قال محمد : أخي اسمح لي بالعودة ، فلم أعد أحتمل . قالها ونَفَسه يتتابع من شدة الإجهاد والألم ، قال عبدالرحمن : لا لا تعد . إنهم خونة . أتفهم ؟
لم يسمع محمد نصائح أخيه ، وعاد أدراجه إلى ضفة النهر الأولى وهو لا يلوي على شيء . لكن يديه النحيلتين لم تساعداه على السباحة ، وعبدالرحمن يواصل السباحة بقوة وعزم ، حتى عبر النهر ، ويقف ينظر إلى أخيه محمد الذي وصل إلى ضفة النهر .
أخرج الجند محمدا من النهر إلى اليابسة ، وهو في غاية الإجهاد ، حتى إن ظهره الصغير قد تحدب ، قال رئيس الجند : أهلا بابن العم وصلت إلى بر الأمان ، واقترب منه قليلا ، فمد يده مصافحا ، وتبسم ابتسامة صفراء تخفي وراءها معاني شريرة ، وما هي إلا لحظات حتى خر محمد صريعا يتلبط بدمائه ، لقد أجهز عليه رئيس الجند ، وذبحه كما تذبح الشاة . ما أبشعه من منظر ! منظر الدماء وهي تفور بغزارة من رقبة محمد الصغير الذي لم يبلغ الحلم أو كاد ، وقد شخص بصره ، وسالت دماؤه النقية حتى اختلطت بماء النهر .
كم كانت له من أحلام ، وكم كانت له من ألعاب في طفولته القريبة ، هناك بين تلك البساتين كان يلعب مع أقرانه ، ويلهو بتربة هذا النهر ، وعلى ضفته الذي ذبح عليها الآن . كل هذا يحدث وعبدالرحمن ينظر إلى أخيه وهو يذبح أمامه ببساطة ، ولا يستطيع ، ولا يستطيع أن يحرك ساكنا ، اغرورقت عينا عبدالرحمن بالدموع ألا يجد ما ينقذ أخاه ، وقبض على يديه بشدة حتى نتأت عروقهما ، وفغر فاه من هول المنظر . أخوه المغدور هذا كم دارت بينهما أحدايث جميلة ، كم مرة جلسا في ظلمة الليل ينظران إلى بهاء نور القمر ، كم ناما بجانب بعضهما البعض ، كم أكلا معًا تذكر عبدالرحمن عندما كان محمد صغيرا ، كم حمله بين يديه ، وداعبه ، لكن عبدالرحمن مع ذلك كله يؤمن بقضاء الله وقدره في عباده ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
أدار عبدالحمن ظهره للجند ، وأسرع بخطاه وتوارى بين البساتين المنتشرة بكثرة حتى انقطع الطلب عنه .
تابع سيره مهموما مغموما على ما فُعل بأخيه الصغير ، إلا أن هناك رغبة جامحة ، وتطلعا للمستقبل ، وأفكارا كثيرة تتزاحم في عقله . مرت عليه أيام عديدة ، قطع خلالها بلاد الشام سيرا على الأقدام ، ومنها إلى سيناء ، ثم إلى مصر ، ثم إلى بلاد شمال إفرقيا ، حتى وصل مبلغه وهي بلاد المغرب العربي .
هناك جلس على قارعة الطريق وحيدا طريدا من بني قومه ، وأهله ، وبدأ يفكر في مصيره ، وما آل إليه أمره . لقد فرّ من قومه أعزل لا يملك أي شيء من حطام الدنيا حتى وصل إلى هذه البلاد ، وبينما هو على هذي الحال ، وإذ بيد ثقيلة تربت على كتفه ، وإذا هو رجل طويل القامة ، مفتول العضلات ، عريض المنكبين .
انتصب عبدالرحمن قائما ، وبدا يمسح يديه مما علق بها من تراب الطريق ، وقال بصوت ملؤه الغضب : من أنت ؟ وماذا تريد ؟ فقال الرجل بصوت أجش : هون عليك ، ولا تخف .
تابع الرجل كلامه : هل أنت طريد بني بني االعباس عبدالرحمن ، قال عبدالرحمن - وقد علت على وجهه علامات استغراب عدة - : نعم أنا هو ولكن .. قال الرجل مقاطعا : لا تتعجب فقد علمنا بهروبك من بني العباس ، ونحن ننتظرك لنقدم لك المساعدة من اجل الإبحار إلى بلاد الأندلس ، ولكن أخبرني خبر هروبك .
فقص عليه عبدالرحمن القصص بعد أن عرّفه الرجل بنفسه ، قال الرجل : الحمدلله على سلامتك ، موعدنا الغد عند البحر صباحا .
وفي الغد توجه عبدالرحمن إلى البحر .
وهناك عند الشاطئ وقف بقامته الممشوقة ونظر إلى البحر نظرة ملؤها التفاؤل ، والأمل الكبير ، وقد جال بفكره الحلم الذي طالما راوده وأرق مضجعه ، وهو إقامة دولة بني أمية على ارض الأندلس ، نظر عبد الرحمن إلى البحر وقد برقت عيناه بالأمل .
قد استطاع عبد الرحمن فيما بعد ، بعد طول مشقة ، وصبر ، ومثابرة ، وبعد قتال للمناوئين لحكم بني أمية ، أن يحقق الحلم الذي راوده طويلا ، وأرقه كثيرا وهو إقامة دولة بني أمية على أرض الأندلس .
استقر بقرطبة ، واستطاع بجدارة أن يكون هو الحاكم لتلك البلاد . وتذكر الروايات أنه بنى القصر ، والمسجد الجامع بقرطبة بمبلغ ثمانين الف دينار .
هذا هو طريد بني العباس الذي لُقّب فيما بعد بـ عبدالرحمن الداخل .
-------
منقول : من مجلة الأسرة عدد جمادى الأول من عام 1418هـ للكاتب / عبدالعزيز محمد هادي العنزي .