أ.د فهد بن عبد الرحمن اليحيى

يكثر هذه الأيام السؤال عن وقت الفجر وهل تقويم أم القرى دقيق في تحديد وقت الفجر أم هو متقدم عليه؟
وهذا التساؤل يثار في رمضان كما يثار أحيانا في غيره أيضا لتعلقه بأمر عظيم وهو الصلاة.
⬅ ولأهمية هذه المسألة فإني أبيّن ما يلي:
1⃣ القضية الأولى: من حيث تناول هذه المسألة
هذا التناول في نظري ينبغي أن يكون له موضعان :
☝ الموضع الأول: موضع البحث العلمي والذي هو في أروقة البحث العلمي ومحاضنه وقنواته وهذا يختص بأهل العلم والباحثين.
وهو ميدان فسيح ولله الحمد ، فمن بحث هذه المسألة شرعياً وفلكياً ورصداً ومتابعة فجزاه الله خير الجزاء وهذا من البحث العلمي الذي يزيد المسائل تحقيقاً وتحريراً.
هذا المجال حينما يبقى بين أهل العلم لا إشكال فيه، ولا تنضج المسائل ولا تتحرر إلا بمثل هذه التحقيقات العلمية .
الموضع الثاني: موضع فتوى العامة والنشر بينهم ، وهذا موضع آخر ينبغي النظر إليه من خلال قاعدتين أساسيتين :
⬅ القاعدة الأولى: قاعدة الأصل والمرجع المنضبط.
⬅ القاعدة الثانية: السياسة الشرعية.
◀ فأما القاعدة الأولى: فتعني أن على طلبة العلم – حتى من بحث المسألة ورأى رأياً فيها - أن يردوا العامة إلى أصل منضبط ، وليس لدى الناس إلا تقويم أم القرى (أعني في السعودية وأمثالها من الدول التي تعتمده وهكذا يقال في غيره من التقاويم المعتمدة في بلدانها) ، وليس للناس في هذا العصر من قدرة على معرفة الأوقات من خلال مراقبة الشمس أو رصد الشفق والفجر ؛ بل لا أظن أحداً على وجه الأرض الآن يصلي جميع الصلوات في جميع الأوقات من خلال ذلك ؛ ولذا فيصبح المرجع هو التقويم المعتمد ممن لهم المسئولية العلمية أو المسئولية الولائية أو كلاهما ، ولو قيل للناس ارجعوا لغير ذلك لكان في هذا شيء من التشويش وربما شيء من الفوضى .
فعلى طلبة العلم كافة أن يقولوا للناس : إن مرجعكم هو هذا التقويم حتى يصدر بيان واضح بخلافه ، وقبل ذلك فهم لا يكلفون غيره ، وأما الاجتهادات الأخرى فهي مقدرة مشكورة ولكنها لا ينبغي أن تكون مرجعا للناس حتى تُعتمد.
⏪ وأما القاعدة الثانية: وهي السياسة الشرعية ؛ فإن مقتضاها - حتى لمن لم يقنع ببعض ما ذكرته - أن يراعي ما يترتب على زعزعة مرجعية التقويم من تشويش وفوضى واضطراب ، ولاسيما أن النقد جاء في وقت الفجر فقط فربما أدى التشكيك فيه إلى التشكيك في سائر الأوقات وانفراط سلك الانضباط.

(2)
2⃣ القضية الثانية: الاحتياط في وقت الفجر
*⃣ يتعامل بعض طلبة العلم مع هذه المسألة من باب الاحتياط فيقولون : إننا نحتاط في وقت الفجر للصلاة فلا نقيمها إلا بعد مضي ربع ساعة أو ثلث ساعة حتى نتأكد من دخول وقت الفجر لأن الصلاة عظيمة فلا بد أن تقع بعد التحقق من دخول وقتها.
⬅ وهنا ننبه إلى أمور:

⬅ 1 – أن الاحتياط في هذه المسألة يقابله إشكال آخر؛ فإن من احتاط للصلاة فأخر دخول وقت الفجر لزمه أن يؤخر الإمساك في الصوم، فإن قال : إنني أحتاط لهذا وهذا فأحتاط للإمساك فأمسك على تقويم أم القرى وأحتاط للصلاة بتأخيرها هذه المدة ربع ساعة أو ثلث ساعة.
فنقول هذا أيضا إشكال وحرج سيتبين من خلال الأمور التالية.

⬅ 2 – أن الاحتياط إنما هو في حق الشخص في ذاته، والورع إنما هو في حق الشخص في خاصته ، فهذا قد يسع طالب العلم أن يعمل به؛ أما الفتوى والبيان للناس فإن الفتوى بالاحتياط إذا أورثت شكاً والتباساً وعدم انضباط ؛ فإن الواجب الرد إلى الأصل المنضبط ، ولا تكون الفتوى بالاحتياط لأمر دائم؛ إنما الفتوى في الاحتياط إما في خاصة الإنسان لنفسه ، أو يبين المفتي للمستفتي الحكم الشرعي ثم يبين له الاحتياط إن شاء أخذ به وإن شاء لم يأخذ.
أما أن يكون الاحتياط حكماً عاماً دائماً فهذا غير معهود في الشريعة الإسلامية ، ولاسيما إذا انضاف إلى ذلك بعض المحذورات كما سيأتي .

⬅ 3 – أن أهل العلم قد بينوا أن الاحتياط بل والورع لا يكون مع اتضاح الحكم الشرعي ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "ولهذا يحتاج المتديّن المتورّع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلاّ فقد يُفسد تورّعُه الفاسد أكثر مما يصلحه " مجموع الفتاوى: 20/141 .
✳ وقال ابن القيم رحمه الله: "وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها ، فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك " إغاثة اللهفان 1/162.
وفي مسألتنا لدينا أصل لا ينبغي العدول عنه ، وهو واضح بين ، وهو هذا التقويم الذي ليس لدى الناس أوثق منه، وحينما أقول :"ليس لدى الناس" فينبغي لطالب العلم أن يعلم أن هذا هو المتقرر لدى الناس ، بمعنى أنك لا يمكن أن تضع للناس أصلا أوثق منه حتى وإن كنت في نفسك ترى غيره أوثق ؛ بل وحتى إن كنت باحثا وخرجت بنتيجة بحثك أن ما لديك هو أوثق فيبقى هذا في ذاتك أنت، ولا يمكن أن تقرر هذا للناس لأن مثل هذا الأمر العام لا ينبغي أن يرد الناس فيه إلى أصل آخر ، فإن ذلك يحدث شيئا من الفوضى.
ولعل هذا يشبه من رأى الهلال وحده وردت شهادته فإنه لا يفتي الناس باتباع نفسه بل إنه لا يعامل نفسه وفق ذلك في أصح قولي العلماء.
ولهذا فيبقى هذا الأصل للناس الذي تعلق الأحكام به وهذا ما يبينه الأمر الرابع.

⬅ 4 – إن الأحكام في الشريعة الغرّاء كثيراً ما تعلق بغلبة الظن ؛ بل وأحياناً علق الشارعُ الحكمَ بأمر معتبر ؛ بمعنى أنه اعتبر ذلك أصلا تتعلق به الأحكام مراعاة للانضباط، ولذلك فإن دخول الشهر قد يحدث بمجرد اعتباره قد دخل ؛ وإن كان في حقيقة الأمر لم يدخل أو العكس، وهذا ظاهر في قول النبي صلى الله عليه وسلم :"فإن أغمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
ومعنى ذلك أننا متعبدون باعتبار شعبان ثلاثين وأننا لا نصوم يوم الثلاثين ، وإنما نصوم بعده بيوم ؛ حتى وإن كان في حقيقة الأمر هو تسعة وعشرون أي أن الهلال قد هل ولكننا لم نره بسبب بعض العوارض كالغيم والقتر.
وهكذا نجد الشارع في صور كثيرة يعلق الحكم بما جعله لنا علامة معتبرة ، ولا نكلف بأكثر من ذلك ، كما في المرأة المستحاضة (تعتبر حائضاً ستة أيام أو سبعة وتعتبر بقية الشهر طاهراً ) والنفساء (تعتبر عند الجمهور طاهراً بمجرد بلوغها أربعين يوماً ) وغير ذلك .. ، وهكذا فإنما يسعنا نحن كعامة الناس في مثل المواقيت أن نتمسك بأصل معتبر وهو في حقنا هذا التقويم ، ولا يستطيع عامة الناس في هذا العصر أن يقفوا على المواقيت بأنفسهم؛ سواء الفجر أو غير الفجر.

(3)
*⃣ فإذا اجتهد ولي الأمر من خلال وسائل الاجتهاد المعتبرة - في أي بلد من بلاد المسلمين بل وحتى في المراكز الإسلامية التي تتبعها أقليات إسلامية في شتى أنحاء المعمورة - فإذا اجتهد من له الأمر في ذلك وعيّن مرجعاً في التوقيت فإنه لا يسع الناس إلا اتباع ذلك ، وأما تكلف أكثر من هذا فهو تكلف مصادم لقواعد الشريعة كما ذكرنا .
فهذا الواجب في حق عامة الناس (وهم كل من ليس له دراية بالمواقيت وكيفية قياسها ) ، وأما أهل العلم والباحثون فقد بينا سابقا أن المجال مشرع أمامهم للبحث والمراجعة ضمن الوسائل والقنوات العلمية المعروفة من أجل أن يصحح الخطأ إن كان هناك خطأ ؛ فإن اجتهد ولي الأمر أو من ينيبه من أهل العلم ورأوا بأن هذا النقد غير صحيح ؛ فيبقى الأصل كما هو ولا يضره النقد ؛ لأن القاعدة الفقهية تقول بأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، ولهذا فمادام الأمر اجتهادياً فإن ما حسمه ولي الأمر يرفع الخلاف حتى لا يحدث للناس شيء من الفوضى.

⬅ 5 – أن من قال بالاحتياط ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أنه لا يتحدث عن حالة خاصة، بمعنى أنه حتى وإن قال لبعض الأئمة في المساجد أخروا قليلا في إقامة الصلاة حتى تتأكدوا من دخول الوقت ؛ فإن هذا وإن كان أيضا لا يستقيم مع ما بيناه سابقا إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد فإننا إن قلنا لا بد من الاحتياط بتأخير الوقت عن التقويم فإننا أمام إشكالات منها:

⁉ أن الوقت الذي قلنا للناس احتاطوا به كم هو؟
⁉ عشر دقائق؟ ربع ساعة؟ ثلث ساعة؟ نصف ساعة؟
⁉ فهذا الوقت ما دليله؟ وما معياره ومستنده ؟
*⃣ وقد اختلف الذين نقدوا التقويم وأنه متقدم عن الفجر؛ اختلفوا في الوقت الذي تقدم به فمنهم من قال: خمس دقائق، ومنهم من قال: عشر دقائق، ومنهم من قال: ربع ساعة، ومنهم من قال: عشرون دقيقة.
واتباع واحد منهم ليس بأولى من الآخر ؛ ولذا فالرجوع إلى الأصل هو المتعين.

✳ الإشكال الثاني والكبير أيضا هو: أننا لو قلنا تأخروا فالأمر كما ذكرنا لا يقتصر على صورة معينة بل ثَمّ صور مهمة يحتاج الناس إليها كالمرأة في بيتها التي تنتظر أذان الفجر لتصلي وقد تكون مرهقة، ولا يختص هذا بالمرأة بل غيرها قد يكون كذلك ولكن المرأة أيضا قد تختص بأحكام دورتها الشهرية فلو بدأت قبل ذلك أو بعد ذلك فلا بد من وقت تعلق الأحكام به ، والمعاملة بالاحتياط هنا يؤثر على مبدأ الانضباط.

*⃣ وكذلك هناك أناس ينتظرون أذان الفجر ليصلوا كما في المطارات ونحوها؛ فيحتاج أحدهم أن يصلي على أول الوقت، وهكذا في الحرمين الشريفين يقتضي التنظيم في بعض الأوقات أو بعض الأحوال أن تكون إقامة الصلاة بعد أداء سنة الفجر مباشرة أي بعد مضي خمس أو عشر دقائق فقط من الأذان وهذا يحدث أحيانا في أوقات الحج أو بعض المواسم أو لأسباب أخرى.

*⃣ وهكذا قد يحتاج الإنسان لأداء الصلاة بعد الأذان مباشرة في أحوالٍ كثيرة فالقول بالاحتياط واعتباره حكماً عاماً يشكل على مثل هذه الصور إشكالا بيناً، ويورث حرجاً كبيراً ، وقد اشترط الفقهاء في الاحتياط ألا يوقع العمل به في حرج ؛ وألا يؤدي إلى محذور كالوسواس ؛ ولاشك أن الاحتياط هنا ظاهر الحرج ( ولاسيما أنه شامل لتقديم الإمساك وتأخير الصلاة) .

✳ أخيراً فإني وإن كنت تحدثت عن المبدأ العام في هذه المسألة دون تفاصيلها إلا أنني أنبه إلى كتاب (إيضاح القول الحق في مقدار انحطاط الشمس وقت طلوع الفجر وغروب الشفق) لمحمد بن عبد الوهاب المراكشي ؛ حيث كنت أظن الحديث عن الدرجات الفلكية وربط وقت الفجر بها معاصر ، وقد تبين خلاف ذلك فقد نقل فيه عن طائفة من المتقدمين (منهم البتاني (317 هـ) وأبو الحسن الصوفي (376 هـ) والبيروني (440 هـ) وآخرين كثير) أن الفجر يطلع حين تكون الشمس على انخفاض 18 درجة تحت الأفق ؛ أو 19 درجة (على خلاف بينهم ) ؛ بل قد تبين لي أن جمهور المتقدمين والمعاصرين على أن الفجر على درجة 18 أو بين درجة 18ودرجة 19 وهذا هو الموافق للتقويم ، وأن من يرونه متقدما إنما يريدونه على درجة 15 أو 16 (كل درجة مقدارها حوالي خمس أو أربع دقائق) .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

أ.د فهد بن عبد الرحمن اليحيى
أستاذ الفقه
في
جامعة القصيم