رمضـان جامعـة التقوى والقرآن


أيمن الشعبان


هذه وقفةٌ مهمةٌ ومحطةٌ لا غِنى لصائم عنها، هي جوابٌ عن سؤالٍ ينبغي طرحُه وتأمُّلُه في كل لحظةٍ من لحظات الصيام، بل على مدار هذا الشهر وفي الأيام جميعها، ألا وهو لماذا نصوم؟ فمن آثار الصيام ونتائجه وأجلِّ معانيه وأنفعِها وأعظمِها تحقيقُ التقوى، كما بيَّن -سبحانه- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هَذَا تَعْلِيلٌ لِكِتَابَةِ الصِّيَامِ بِبَيَانِ فَائِدَتِهِ الْكُبْرَى، وَحِكْمَتِهِ الْعُلْيَا، وَهُوَ أَنَّهُ يُعِدُّ نَفْسَ الصَّائِمِ لِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى- بِتَرْكِ شَهَوَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ ، الْمُبَاحَةِ، الْمَيْسُورَةِ، امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ عِنْدَهُ؛ فَتَتَرَبَّى بِذَلِكَ إِرَادَتُهُ عَلَى مَلَكَةِ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالصَّبْرِ عَنْهَا؛ فَيَكُونُ اجْتِنَابُهَا أَيْسَرَ عَلَيْهِ، وَتَقْوَى عَلَى النُّهُوضِ بِالطَّاعَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَالِاصْطِبَارِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الثَّبَاتُ عَلَيْهَا أَهْوَنَ عَلَيْهِ.

التقوى أن تجعلَ بينك وبين عذاب الله وقايةً وحاجزاً وحجاباً، يمنعُك من الوقوع في الخطايا والمحرمات، ويُنجّيك من النار، وقال طلق بن حبيب -رحمه الله- عن التقوى: أن تعملَ بطاعة الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخاف عقابَ الله.

التقوى في رمضان

ولأهمية التقوى في رمضان، وأنَّها من أعظم ثماره، ختم الله -سبحانه- أولَ آيةٍ من آيات الصيام بقوله: {لعلكم تتقون}، وختم آخرَ آيةٍ أيضا بالتقوى بقوله سبحانه-: {لعلهم يتقون}؛ فالصيام وسيلةٌ ناجعةٌ وطريقٌ قصيرٌ وسببٌ مهمٌّ ومقدمةٌ عظيمةٌ لتحقيقِ التقوى، التي تزيلُ الخوفَ والحزنَ، وتجلب الأمانَ والأنسَ في الآخرة، والتقوى دافعٌ للعبد لعمل الخير واجتناب الشر، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النِّهَارِ وَلا بِقَيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ؛ فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ؛ فلو اجتهد المسلم في تحصيل فائدةٍ واحدةٍ هي تحقيق التقوى في شهر رمضان وبذل جهداً كبيراً لذلك لكفاه فضلاً وشرفاً وثمرة؛ لأنه من لم يتق الله في رمضان، ويتعاهد قلبَه، ويوطِّن نفسَه؛ فمتى يفعل؟

أبرز علامات التقوى

ومن أبرز علامات التقوى تحرِّي الحلال واجتنابُ الحرام، والحرصُ على مرضاةِ الله والتسليمِ لأوامره في كل صغيرةٍ وكبيرة، والإخلاصُ والورعُ والزهد، والابتعادُ عن مواطن الشبهات، والصبرُ على البلاء، والرضا بالقضاء، وشكرُ النعماء.

أهمِّ أَمَارات التقوى

ومن أهمِّ أَمَارات التقوى لاسيّما في هذا الشهر الفضيل الحرصُ على الطاعات، والمسارعةُ في الخيرات، قال -سبحانه- في وصف المؤمنين والصالحين {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.

علامات ضعف التقوى

كما أنَّ من علامات ضعف التقوى الخوضَ مع الخائضين، ومجالسةَ الغافلين، وطلبَ فضول الدنيا، وضياعَ الأوقات فيما لا طائل تحته، والاشتغالَ فيما لا يعنيك.

خصائص شهر رمضان

إن الله -سبحانه وتعالى- اختص هذا الشهر بخصائص عديدة، وميزه عن غيره من الشهور بمزايا فريدة، منها إنزال القرآن، بل والكتب السماوية السابقة نزلت في رمضان كما ثبت في الحديث الصحيح، وعندما أراد الله -سبحانه- في كتابه بيان أعظم ميزة لهذا الشهر قرنه بإنزال القرآن؛ فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} الشهر العظيم الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة. تفسير السعدي.

فقه السلف

فَقِهَ السلف -رضوان الله عليهم- أهمية القرآن لاسيما في شهر رمضان؛ فكانوا يقبلون عليه بكليتهم، ويهتمون به تلاوة ودراسة وتدبرا، وإليكم بعض النماذج النيرة والصور المشرقة:

كان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة!! وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يُدرِّسُ القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان أقبل على تلاوة القرآن.

الصيام والقرآن

وقد قرن النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الصيام والقرآن لتلازمهما وترابطهما فقال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان».

قال ابن مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله؛ إذ الناس نائمون، وبنهاره؛ إذ الناس مفطرون، وبحزنه؛ إذ الناس يفرحون، وببكائه؛ إذ الناس يضحكون، وبصمته؛ إذ الناس يخوضون.

قيل لرجل: مَالِي لا أَرَاكَ تَنَامُ؟ قَالَ: إِنَّ عَجَائِبَ الْقُرْآنِ أَطَرْنَ نَوْمِي، مَا أَخْرُجُ مِنْ أُعْجُوبَةٍ إِلا وَقَعْتُ فِي غَيْرِهَا.

للقرآن أهمية بالغة، تَعظُم في رمضان؛ فهل من مشمر ومستثمر تلك الفضائل؟!

نقطةَ انطلاق

من هنا فليكن هذا الشهر نقطةَ انطلاق لتصحيح علاقتنا مع كتاب ربنا، وليكن لنا فيه برنامج متنوع، يتضمن التلاوة والحفظ والمدارسة والتدبر مع معرفة المعاني، بحسب المتاح والمتيسر، بذلك سيكون لدينا برنامج قرآني شامل، سنشعر بثمرته وقيمته لو تم تطبيقه في هذا الشهر المبارك شهر القرآن، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(ص: 29)، قال بعضهم: لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد!

كم نحن بحاجة لإعادة النظر في علاقتنا مع القرآن؛ من حيث التلاوة ومعرفة المعاني والتفكر والتدبر والتأمل، ثم الانتفاع والتطبيق والعمل!

قال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآن في خلق ولا عمل.