أساليب بلاغية في سورة البقرة
« وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »(البروج:8)
(1)فن توكيد المدح بما يشبه الذم : وهو أن يستثني من صفة ذم منفية صفة مدح أو أن يثبت لشيء صفة مدح ويؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى، ومن الأول بيت النابغة في مديح الغسانيين:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قرع الكتائب
وقول ابن الرقيات وقد اقتبس لفظ القرآن ورمق سماء بلاغته:
ما نقموا من أمية إلا ... أنهم يحملون إن غضبوا
ومنه قول ابن نباتة المصري:
ولا عيب فيه غير أني قصدته ... فأنستني الأيام أهلا وموطنا
وقول المعرّي:
تعدّ ذنوبي عند قوم كثيرة ... ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل
وأما الثاني فقليل في الشعر ومنه قول بعضهم:
ما فيك من الجمال سوى ... أنك من أقبح القبيحات.
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّاوَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواإِنَّا مَعَكُمْإِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (البقرة:14)
(2) المفارقة بين الجمل: فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وهي جملة آمنا وخاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية وهي جملة إنا معكم وذلك لأن الجملة الاسمية أثبت من الجملة الفعلية فإيمانهم قصير المدى لا يعدو تحريك اللسان، أو مدة التقائهم بالمؤمنين وركونهم الى شياطينهم دائم الاستمرار والتجدد وهو أعلق بنفوسهم، وأكثر ارتباطا بما رسخ فيها.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِياسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (البقرة:17)
(3) التشبيه التمثيلي: في قوله: «مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم» وحقيقة التشبيه التمثيلي أن يكون وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدّد أي أن حال المنافقين في نفاقهم وإظهارهم خلاف ما يسترونه من كفر كحال الذي استوقد نارا ليستضيء بها ثم انطفأت فلم يعد يبصر شيئا، وهكذا يبدو لك أن التشبيه التمثيلي يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين، ويريك للمعاني المتمثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة وينطق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأعجم ويريك الحياة في الجماد، ويجعل الشيء قريبا بعيدا، ومن أمثلته في الشعر قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فقد شبّه ثوران النقع المنعقد فوق الرؤوس والسيوف المتلاحمة فيه أثناء الحرب بالليل الأسود البهيم تتهاوى فيه الكواكب، وتتساقط الشهب وقول أبي تمام يصف الربيع:
يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصوّر
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر
شبه النهار المشمس في الروض البهي المكلل بالأزاهير بالليل المقمر الساجي.
(4) المخالفة بين الضميرين: فقد وحد الضمير في استوقد وحوله نظرا الى جانب اللفظ لأن المنافقين كلهم على قول واحد وفعل واحد، وأما رعاية جانب المعنى في (بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ)؛ فلكون المقام تقبيح أحوالهم وبيان ذاتهم وضلالهم فاثبات الحكم لكل فرد منهم واقع.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة:24)
(5) أسلوب الحذف : في قوله «فاتقوا النار» أيضا وإيجاز الحذف يكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف لأن من اتقى النار عصم نفسه عن جميع الموبقات التي يطول تعدادها، وترك المكابرة والمعاندة.
كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:25)
(6) التشبيه البليغ: في قوله: هذا الذي رزقنا من قبل وسمي بليغا لأن أداة التشبيه فيه محذوفة فتساوى طرفا التشبيه في المرتبة ومن أمثلته قول أبي العلاء يصف ليلة:
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان.
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (البقرة:27)
(7) أسلوب الطباق :المقابلة وهي تعدّد الطباق في الكلام، فقد طابق بين يقطعون ويوصل.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة:30)
(8) أسلوب الاستفهام:في الاستفهام الوارد في قوله: أتجعل، خروج لمعناه الأصلي عن موضوعه فهو للتعجب كما اخترنا في الإعراب وقيل: هي للاسترشاد أي أتجعل فيها من يفسد كمن كان فيها من قبل، وقيل استفهموا عن أحوال أنفسهم أي أتجعل فيها مفسدا ونحن مقيمون على طاعتك لا نفتر عنها طرفة عين.
أما الاستفهام الصريح فلا يقع من الله تعالى في القرآن لأن المستفهم متعلّم ما ليس عنده والله عالم بالأشياء قبل كونها.
وقال آخرون هي للايجاب، والواقع أن كل لفظ استفهام ورد في كتاب الله تعالى لا يخلو من أحد الوجوه الستة الآتية:
1- التوبيخ، 2- التعجب، 3- التسوية، 4- الإيجاب، 5- الأمر، 6- التقرير.
مثال: التوبيخ نحو: «أذهبتم طيباتكم» والتقرير: «أأنت قلت للناس» ؟ والتسوية نحو: «سواء عليهم أأنذرتهم» والإيجاب نحو: «أتجعل فيها من يفسد فيها» ، والأمر نحو: «أأسلمتم»
فعلى هذا يعرف ما جاء في كتاب الله فاعرف مواضعه وتدبر.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة:33)
(9) أسلوب الطباق: بين السموات والأرض وبين تبدون وتكتمون. هذا وإن الطباق من الألفاظ التي خالفت مضمونها ولذلك سماه بعضهم التضاد والتكافؤ وهو الجمع بين معنيين متضادين.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (البقرة:44)
(10) تصدير الكلام بالضمير: في قوله: وأنتم تتلون الكتاب فقد صدّر الكلام بالضمير زيادة في المبالغة وتسجيلا للتبكيت والتوبيخ عليهم بعد أن عبّر عن تركهم فعلهم البر بالنسيان زيادة في مبالغة الترك أي فكأن البرّ لا يخالج نفوسهم ولا يدور لهم في خلد لأن نسيان الشيء يترتب عليه تركه أو استعمال السبب في المسبب.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (البقرة:71)
(11) أسلوب الإطناب: فن التكرير وهو داخل في باب الاطناب كأنهم يكررون السؤال استكناها لحقيقة البقرة وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم» .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (البقرة:74)
(12) التشبيه المرسل: فقد شبه قلوبهم في نبوّها عن الحق، وتجافيها مع أحكامه بالحجارة القاسية ثم ترقى في التشبيه، فجعل الحجارة أكثر لينا من قلوبهم.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة:79)
(13) أسلوب الاطناب: بذكر أيديهم فقد ذكرها والكتابة لا تكون إلا بها لتصوير الحالة في النفس كما وقعت، وتجسيبها أمام السامع حتى يكاد يكون مشاهدا لها ولتسجيل الأمر عليهم كما تقول لمن ينكر معرفته ما كتب ووقع: أنت كتبته بيمينك.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (البقرة:93)
(14) التشبيه البليغ: أي جعلت قلوبهم لتمكّن حب العجل منها كأنها تشرب ومثله قول زهير:
فصحوت عنها بعد حبّ داخل والحبّ يشربه فؤادك دائما
وانما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل الى باطنها والطعام لا يتغلغل فيها.
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
(15) أسلوب الاطراد: في قوله تعالى: (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الآية، فنّ من فنون البلاغة يسمى الاطراد وهو أن يطرد للمتكلم أسماء الآباء المخاطب مرتبة على حكم ترتيبها في الميلاد فقد تجاوز جدهم الأدنى الى جدهم الأعلى لكونه المبتدأ بالملة المتبعة وفيه أيضا فنّ المساواة لأن ألفاظ هذا المعنى لا فضل فيها عنه ولا تقصير وفيه أيضا حسن البيان لأن فيها بيانا عن الدين بأحسن بيان لا يتوقف أحد في فهمه وفيها أيضا فن الاحتراس لأنه لو وقف عند آبائك لاختلت صحة المعنى لأن مطلق الآباء يتناول من الأب الأدنى الى آدم وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملته فاحترس بذكر البدل عما يرد على المبدل منه لو كان وقع الاختصار عليه فتأمل واعجب.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (البقرة:143)
يتبع