"الموريسكيون" أو "الموريسكي" من المصطلحات المتداولة في التاريخ العربي والإسلامي، لكنه مع ذلك يظل مفهوماً مبهماً بحكم التعريفات المتعددة والمختلفة التي يرد بها بين باحث عربي وآخر.
وتأتي لفظة "الموريسكي" في الكثير من الكتابات والتصانيف دالة على المسلمين الذين كانوا يعيشون في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال حالياً) بعد فتحها على يد طارق بن زياد، إلى غاية سقوط آخر مملكة إسلامية وهي مملكة غرناطة سنة 1492م.
قاموس اللغة الإسبانية يشير بشأن كلمة موريسكي إلى أن مصدرها كلمة "مورو" ليشمل Morisco باللاتينية، وتعني سكان شمال أفريقيا، ثم تحولت إلى لفظة موريسكي معناها المسلمين الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الممالك الإسلامية، وأجبروا على اعتناق المسيحية.
ويقول الخبير في التاريخ الأندلسي مانويل باريوس أغليرا من جامعة غرناطة، إن "الوضع القانوني للموريسكي ظهر رسمياً في غرناطة وفي باقي مملكة إسبانيا عندما أصدرت السلطات يوم 12 فبراير 1502م مرسوماً يخير المسلمين بين اعتناق المسيحية أو النفي ومغادرة إسبانيا. وهكذا فالموريسكي تعني المسلم الذي اعتنق المسيحية في إسبانيا بعد هذا التاريخ".
وكان المسلمون الذين يعيشون تحت الحكم المسيحي قبل صدور المرسوم المذكور يطلق عليهم اسم المدجنون.
ونصت اتفاقية تسليم غرناطة الموقع عليها يوم 25 نوفمبر 1491م والتي طبقت يوم 2 يناير 1492م على احترام المسيحيين لممتلكات المسلمين ومعتقداتهم واستعمال الشريعة الإسلامية كمصدر للقضاء، بل شددت على السماح بالعودة للمسلمين الذين ذهبوا إلى شمال أفريقيا ولم ترقهم الحياة هناك.
غير أن رجل الدين المسيحي الكاردينال سيسنيروس مارس سياسة العنف مع المسلمين ابتداءً من سنة 1499م فحمل المسلمون في غرناطة السلاح ضده. لكن سرعان ما جرى إخماد انتفاضتهم.
وفي السنوات اللاحقة دفع هذا الطاغية إيزابيلا الكاثوليكية إلى إصدار المرسوم المذكور لمواجهة ما اعتبره "تمرد المسلمين". ويؤرخ المرسوم المذكور من جهة للظهور القانوني للموريسكي كما يكشف من جهة أخرى إخلال إيزابيلا الكاثوليكة باتفاقية التسليم والتراجع عن بنوده. ويعتبر الكاردينال الطاغية سيسنيروس الشخصية المحورية في نهاية الإسلام في الأندلس، فقد أجبر جميع المسلمين على اعتناق المسيحية، وقام بإحراق جميع الكتب باستثناء كتب الطب في ساحة باب الرمل في غرناطة والتي تعتبر جريمة في حق الإنسانية، في محاولة لوضع حد للديانة الإسلامية في هذا البلد.
ويبقى المنعطف التاريخي هو الذي أكد عليه المؤرخ ميغيل آنخيل لديرو كيسادا في كتابه (غرناطة: تاريخ دولة إسلامية 1232- 1571م).بتنصير المسلمين كان يعني نهاية المجتمع الإسلامي في غرناطة وإسبانيا والتحول إلى مجتمع موريسكي.
ومنذ عام 1502م دخل المسلمون الذين أضحوا موريسكيين من الناحية القانونية، نفقاً مظلماً سينتهي بتشتيتهم في عدد من مناطق إسبانيا إلى غاية صدور مرسوم جديد في 9 أبريل 1609م، أقر بالطرد النهائي بعدما عانى الكثير منهم من ويلات محاكم التفتيش.
اقتلاع أقلية من جذورها
أصدرت إسبانيا وبضغط من الكنيسة الكاثوليكية، طيلة القرن الـ 16الميلادي مراسيم متعددة تهدف إلى اقتلاع الموريسكيين من جذورهم التاريخية ومنع تداولهم اللغة العربية، وإجبارهم على الأكل في رمضان.
وجوبهت تلك المراسيم بانتفاضات من الموريسكيين أبرزها انتفاضة ألبوخارا "البشرات" سنة 1568م، وساهمت جميعها رفقة عوامل أخرى في إقرار الطرد النهائي لهم من شبه الجزيرة الإيبيرية سنة 1609م.
ووفق مؤرخين إسبانيين فإن عوامل ثلاثة كانت وراء طرد الموريسكيين:
- أولها حفاظهم على تماسكهم وسط المجتمع الإسباني بتشبثهم بالتقاليد الإسلامية رغم اعتناقهم ظاهرياً المسيحية.
- وثاني تلك العوامل اكتساب الكنيسة للدور السياسي وتعاظم ضغوط رجال الدين لطرد (الموريسكيين) وأبرزهم الراهب خايمي بليدا صاحب كتاب (دفاعاً عن العقيدة) الذي اعتبر فيه طرد (الموريسكيين) سبيلاً للدفاع عن النصرانية.
- أما العامل الثالث فيكمن في النزاعات التي كانت قائمة بين إسبانيا ودول مثل فرنسا وتركيا والمغرب، حيث كانت تخشى من تحول الموريسكيين إلى طابور خامس.
وأخيراً، اتخذ الملك فيليبي الثالث في 9 أبريل 1609م قرار طرد الموريسكيين، وبقي سراً حتى تطبيقه يوم 22 سبتمبر من السنة نفسها.
وجمع - ولأول مرة - رودريغو دي سايا في كتابه (الموريسكيون وعنصرية الدولة) جميع المراسلات السرية للكنيسة وللسلطات الإسبانية وقتها بشأن كيفية اتخاذ قرار الطرد وتفعيله.
وتتضارب المعطيات العربية والإسبانية بشأن عدد الموريسكيين المطرودين، فالكتابات العربية وخاصة المغربية تتحدث عن أكثر من مليون منفي.
في المقابل تشير الوثائق الإسبانية إلى ما مجموعه 272 ألفاً حسب التوزيع التالي:
117 ألفا و 464 موريسكياً من منطقة فالنسيا، وستون ألفا و 818 من أراغون، و 44 ألفاً و625 من كاستيا وإكستيمادورا، وقرابة ثلاثين ألفاً من غرب الأندلس، و13ألفاً و552 من مورسيا، وثلاثة آلاف و716 من إقليم كاتالونيا، وألفان و 26 من غرناطة.
وترجع النسبة المنخفضة للموريسكيين المطرودين من غرناطة إلى كون موريسكييها قد نُفوا منها ومن ضواحيها تدريجيا طيلة القرن الـ 16الميلادي، خاصة بعد ثورة 1568م.
ويؤكد المؤرخ لويس بنيتي دي لوغو - في مقاله بمجلة (إيستورياس) (العدد 301) أن ثلث الموريسكيين ماتوا أثناء عملية النفي ومنهم من عاد سراً إلى إسبانيا.
واستغرقت عملية الطرد الفترة بين 1609م و1614م، وبينما كان ترحيل الموريسكيين المقيمين بفالنسيا وكاتالونيا عملية سهلة بحكم أن الطرد تم عبر البحر، فإن طرد موريسكيي إكستريمادورا وكاستيا تطلب جهوداً تتجلى في اعتقال من يعيشون متفرقين في الضيعات الزراعية ونقلهم إلى الموانئ.
وذكر المؤرخ الإسباني مكيل دي أبلاسا فيرير في كتابه (الموريسكيون قبل وبعد الطرد) أن التهجير تم باتجاه الشام وتركيا وليبيا، وأساساً نحو دول المغرب العربي، وبالأخص نحو المغرب بسبب القرب الجغرافي. ويقول المؤرخ المغربي عزوز حكيم - للجزيرة نت - "إن المغرب استقبل أكبر عدد من الموريسكيين المهجرين قسراً، فهو البلد العربي والإسلامي الذي توجد به أكبر نسبة من العائلات الموريسكيية".
واستنتجت المؤرخة الأرجنتينية ماريا إلفيرا سارغاسو - في بحث لها - وصول الموريسكيين إلى الأرجنتين عبر دراستها لبعض تجمعات السكان المنعزلين، كانوا يمارسون طقوساً مسيحية أشبه بما كان يمارسه الموريسكيون في إسبانيا، يؤمنون بالمسيح ولا يشربون الخمر ولا يأكلون الخنزير ويصومون بعض الأسابيع ولا يحتفلون بأعياد السنة الميلادية.
إذلال وتنصير وطرد
يعتبر مرسوم تنصير المسلمين في إسبانيا الصادر يوم 12 فبراير 1502م منعطفاً حاسماً في تاريخ هذا البلد، إذ شكل نهاية آخر مجتمع إسلامي في إسبانيا، وبداية مرحلة سياسية قاسية من التهميش والتخوين والإذلال للموريسكيين استمرت أكثر من قرن. وانتهت بالطرد النهائي لهم سنة 1609م.
وقد ترتب عن مرسوم 1502م ظهور الوضع القانوني للموريسكيين، أي المسلمين الذين أُكرهوا على اعتناق النصرانية لتفادي الطرد من إسبانيا.
ويقول الباحث الإسباني في الحضارة العربية رودولفو خيل غريماو "إن مرسوم 1502م قد أنهى إسبانيا الثقافات الثلاث: الإسلامية والمسيحية واليهودية التي سادت إبان الحكم الإسلامي، وحل محلها التهميش المطلق للموريسكيين".
وكان مرسوم 1502م لا يروم تنصير المسلمين فحسب بل كان يصبو إلى اقتلاعهم من جذورهم، وتغيير لغتهم من العربية إلى القشتالية، وإرغامهم على التخلي عن العادات والتقاليد والأسماء العربية وغيرها.
ويستنتج الباحث خيل غريماو النتيجة ذاتها بتأكيده على أن الهدف من ذلك كله "هو إجبار الموريسكيين على نسيان ثمانية قرون من تاريخهم في شبه الجزيرة الإيبيرية".
ومارست إسبانيا سياسة تهميش ممنهجة للإدماج المفروض على الموريسكيين، وتفيد الوثائق التاريخية الإسبانية بأن سياسة التهميش تجلت في سن - على نحو تدريجي - قوانين تسلب الموريسكيين تاريخهم.
ومن تلك القوانين منع الحمّامات العمومية التي اشتهر بها العرب، وفرض ضريبة عالية لكل من أراد أن يلبس على الطريقة العربية. وكانت الكنيسة ترسل امرأة لحضور عملية الولادة لدى الموريسكيات حتى لا يتم قراءة الشهادة في أذن الوليد، والإبقاء على أبواب المنازل مفتوحة يوم الجمعة، وفي تواريخ الأعياد الإسلامية حتى يراقبون في الوقت ذاته الموريسكيين عند حلول شهر رمضان، ودعوتهم للأكل وشرب الخمر علانية حتى يظهروا عدم صيامهم.
وجرى إنشاء مدارس في بعض المدن مثل غرناطة وألمرية وواديكس خاصة بأبناء الموريسكيين لتعليمهم اللغة الإسبانية، وتعاليم الدين النصراني.
كان المرسوم الملكي الطاغوتي ينص على منع التحدث باللغة العربية في الأماكن العامة كالأسواق وغيرها، ومنع لبس الزي العربي، وجميع عقود الأراضي التي كتبت باللغة العربية تعتبر لاغية، لا زواج إلا في الكنيسة، يجب تعميد أطفال الموريسكيين في الكنيسة.
ومن جهة أخرى فرض طواغيت السلطة رقابة مشددة على السلاح، إذ منع الموريسكيون من حمل السلاح إلا بترخيص من حاكم المدينة أو البلدة كما منع الحديث باللغة العربية.
وأمام كثرة القوانين المتشددة، تحول الموريسكيون - أصحاب حضارة قصر الحمراء وجامع قرطبة والخيرالدا في إشبيلية، وأصحاب الفكر الإبداعي الإنساني الراقي- إلى مجرد عاملين في الحقول وممتهنين مهناً مرفوضة، فلم تكن حالتهم أحسن من العبيد.

وسعى الموريسكيون في إقناع الملوك الإسبانيين بالتخفيف من القيود، فكانوا يحصلون على تنازلات بعد تأدية ضرائب مرتفعة لا يُلبث أن يتم التراجع عنها بسبب اعتلاء ملك جديد العرش.
وأمام الحيف والضغط المتزايد، ثار الموريسكيون مجدداً في منطقة ألبوخارا بإقليم غرناطة وهي من أشهر الثورات وامتدت سنتين من 1568م إلى 1571م وتزعمها فيرناندو القرطبي الذي استعاد اسمه العربي وهو بني أمية من سلالة خلفاء قرطبة في الماضي لكن الملك فيليبي الثاني قضى عليها بالحديد والنار.
ودرج المؤرخون الإسبانيون على استعمال مصطلح "التمرد" لوصف ثورة ألبوخارا، لكن المؤرخ وباحث علم الاجتماع خوليو كارو باروخا، استعمل لفظة ثورة وأكد أن "الموريسكيين ثاروا في ألبوخارا وفي عدد من المناطق واختاروا القائد بني أمية ملكاً عليهم، وأعادوا أغلب مظاهر الحياة الإسلامية من مساجد وتقاليد. لقد كانت محاولة لإعادة مملكة غرناطة".
بعد ثورة غرناطة استمرار المسلمين في التشبث بدينهم رغم ادعائهم اعتناق المسيحية، والخطر الذي كان يتهدد إسبانيا من المغرب وتركيا، والتخوف من تعاون الموريسكيين معهم، جعل حكام إسبانيا يعتقدون في خطر الموريسكيين، فكان القرار الآثم الذي أصدره فيليبي الثالث يوم 9 أبريل 1609م بنفي الموريسكيين، لتبدأ رحلة العذاب التي قلما شهد التاريخ مثيلاً لها.
وماذا بعد
ها قد مر التاريخ عليهم، وها قد مرت حكايتهم مرور المعذبين، هي أسوأ إبادة عرفها التاريخ الإنساني.. وهي فجيعة قوم وقعوا ضحية ضياع أمة، وزوال دولة..ما كان ذلك يقع لو بقي نور من الإسلام يشع في قلوب المسلمين صافياً كما بدأ..
إن حالهم ينطبق عليه قول الشاعر عبد الرحمن العشماوي، وبه أختم:
يأتي الظـلام وتنجلــي أطـرافه **** عنــا وما للنــوم فيه مـذاقُ
سهر يؤرقني ففي قلبي الأسى **** يغلي وفي أهدابي الحــراقُ
سيــــان عنــدي ليلنا ونهارنا **** فالموج في بحريهما صفاقُ
قتـــل وتشــريد وهتك محــارم **** فينا وكأس الحادثات دهاقُ
أنا قصة صاغ الأنين حـروفها **** ولها من الألم الدفين سياقُ