النتاج التربوي للمربي الأول صلى الله عليه وسلم



الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله.
أما بعد:
إنّ جوانب النجاح والتميز في أي منهج تربوي نستطيع أن نتعرفها من خلال مراجعة أهداف هذا المنهج أو أساليبه أو محتواه، ونستطيع أن ندرك تميز المربي من خلال مراجعة ممارسته التربوية؛ لكن يبقى أنّ أهم الدلائل على نجاح المنهج التربوي وتميز المربي يكمن في مخرجاته وآثاره التربوية، فالناس كثيراً ما يستشهدون على حسن تعليم فلان من الناس بما تركه على طلابه، وحين يرون أبناءا متميزين يدركون أنّ وراءهم أمّاً أو أباً أحسنوا تربيتهم.
وفيما يخصّ الهَدْي النبوي في التربية، فإننا حين نطّلع على أي صفحة من صفحات السيرة النبوية أو نمعن النظر في مرحلة من مراحل تاريخ الأمة فسنجدها شاهدة على حسن تلك التربية وتميزها.
وبقدر ما يتسع له وقتنا في هذه الدقائق نورد بعض نتائج وآثار التربية النبوية.
فمن أهم ما تسعى إليه المناهج التربوية أن تحقق الالتزام والاقتناع الداخلي لدى المتربين؛ فالمربي بهيبته أو سلطته قد يستطيع أن يفرض على المتربي سلوكاً حميداًً، أو يحول بينه وبين سلوكٍ منحرفٍ، لكن التحدي الحقيقي أن يكون الالتزامُ نابعاً من الداخل ومحاطاً بالرقابة الذاتية لا الخارجية.
ولنأخذ مثالاً واضحاً على ذلك، فقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع تفشى فيه شرب الخمر، حتى سيطرت على أفراده وفعلت بهم الأفاعيل، فتجد الشاعر منهم حين يتحدث عن معركة أو غزوة يتغنى بالخمر، بل تبلغ الخمر منزلة أعلى عند بعضهم، فيراها من الأمور التي يستحق أن يبقى في الحياة من أجلها كما قال أحدهم:
فَلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتى *** وَرَبّكَ لم أَحْفِلْ متى قامَ عُوَّدي
فَمِنْهُنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَرْبَةٍ *** كُمَيتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
ويبلغ الأمر لدى أحدهم أن يوصي إذا مات أن يدفن قريبا من تلك الشجرة التي كان يصنع منها الخمر******************** **************:
إِذَا مُتِ فادْفِنى إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ *** تُرَوِّى عظِامِى بَعْد مَوتى عُرُوقُها
ولا تَدْفِنَنّى بالفَلاَةِ فإِنَّنى *** أَخافُ إِذَا ما مِتُّ أَن لا أَذُوقُها
والأمثلة أكثر من أن نحصرها في هذا المقام، وعلى هذا المنوال كانت قيمة الخمر عندهم.
وحين جاء الإسلام كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - شأنهم شأن سائر الناس، يشربون الخمر ويتغنون بها كما قال حسان - رضي الله عنه -:
إذا ما الأشرِباتُ ذُكِرْنَ يوماً *** فهُنَّ لطيّبِ الراحِ الدواءُ
نُوليّها الملامةَ إنْ أُلِمْنا *** إذا ما كانَ مَغثٌ أو لِحاءُ
ونشربُها فتتركُنا ملوكاً *** وأُسداً ما يُنهنهها اللقاءُ
ولكن حينما نزلت آية الخمر وسمع الناس منادي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السوق بأن الخمر قد حرمت حتى امتلأت أزقة المدينة وشوارعها من الخمر، حتى مَنْ رفع الكأس إلى فيه أراقها وكانت آخر عهده بها في الدنيا، ولم يحتج الناس حينها متابعة أو تأكيداً، فقد تربوا على التسليم والانقياد.
وبالمقابل حينما سعى بعض رجالات الغرب إلى منع الخمر ووظفوا إمكاناتهم وطاقاتهم في التعليم والتوجيه والتحذير والتربية كانت النتيجة الاستسلام للفشل، الفشل الذي لا يحكي ضعف الإجراءات والأساليب بل فشل التربية.
لقد بعث الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع تسيطر عليه الطبقية، ويعلو فيه صوت التعصب على أي صوت آخر، لكن التربية النبوية فعلت فعلها ففي النّفوس، فتغيرت موازين الناس وقيمهم، فها هم شرفاء قريش وسادة الأوس والخزرج يخرجون للقتال، فيسيرون في جيشٍ تحت إمرة زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، الذي كان مولىً من الموالى، ثم يسيرون مرة أخرى تحت إمرة ولده أسامة، وهو لما يبلغ العشرين من عمره - رضي الله عنهم - أجمعين.
وعن عامر بن واثلة: "أنّ نافع بن عبد الحارث الخزاعي لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟! فقال: ابن أَبْزَى، قال: ومن ابن أَبْزَى؟! قال مولىً من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنّه قارئٌ لكتاب الله - عز وجل -، وإنه عالمٌ بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) [رواه مسلم 817].
لقد كان أولئك يعيشون في مجتمع قبلي، لا يعرفون إلا الفخر بالأحساب والأمجاد الشخصية، وتمجيد القبيلة، يقول شاعرهم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً *** ويشرب غيرنا كدراً وطينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا *** ونحن البحر نملأه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً *** تخر له الجبابر ساجدينا
فجاء الله - عز وجل - بهذا الدين وقضى على تلك الأمجاد، فلم يعد العربي يُفضّل على الأعجمي إلا بالتقوى.
لقد بعث الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع لا يقيم وزنا للمرأة، فكان أحدهم إذا بُشر بولادة الأنثى يظل وجهه مسوداً وهو كظيم، إلى حد أن يختفي عن أعين الناس من سوء ما بشر به، وقد قال - سبحانه وتعالى - يصف هذا المشهد: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)[سورة النحل، الآيات: 58- 59].
لقد كان ذلك المجتمع يمارس التسلّط والحجر على المرأة، فحين تكون اليتيمة في حجر أحدهم وهي ذات مال، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت غير ذلك لم يزوجها حتى تموت، فيرثها ويأخذ مالها.
لكن بعد أن جاء هذا الدين، تغيرت تلك الموازين، في أقل من عقدين من الزمن، حتى أصبحت المرأة تُبشر بالجنة، وأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشير يأخذ برأي امرأة من نسائه في أمر المسلمين في صلح الحديبية، وحين تجير أم هانئ رجلاً يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ)) [رواه البخاري 280، ومسلم 336].
وأيضاً فإنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث في مجتمع يعاني من الفساد الأخلاقي، فكان النكاح كما تذكر عائشة - رضي الله عنها - على أربعة أنحاء: ((... فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته: إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنّما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم)) [رواه البخاري 5127].
وقد أفلح نبينا - صلى الله عليه وسلم - في سنوات معدودة في بناء مجتمع العفة والفضيلة.
ولم يكن التغيير الذي حصل لذلك الجيل على مستوى المجتمعات فقط، بل هو على مستوى الأفراد كذلك، فها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كان جباراً في الجاهلية، ويرى الناس أنه أبعد ما يكون عن الحق، وأن إسلام الحمار أقرب من إسلامه، هاهي آثار التربية النبوية عليه، فلما آمن واتبع النبي - صلى الله عليه وسلم -، تغيرت حاله، فتراه حينما تولى الخلافة رحيما شفوقاً رفيقا قائماً بأمور الأيامى والمساكين.
إن هذه صور يسيرة من نجاح تلك التربية النبوية وهى دالة على عظم هذه التربية وأثرها.
أسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا وإياكم محبته وإتباع نهجه وأن يوردنا حوضه.