البلاغة النبوية
مصطفى صادق الرافعي



هذه هي البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها ، وحسرت العقول دون غايتها ، لم تُصنع
وهي من الإحكام كأنها مصنوعة ، ولم يُتكلف لها وهي على السهولة بعيدةٌ ممنوعة.
ألفاظ النبوّة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه ، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه ، فهي وإن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله، وإن يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله ، مُحكمة الفصول ، حتى ليس فيها عروة مفصولة ، محذوفة الفضول ، حتى ليس فيها كلمة مفضولة .
وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم ، وإنما هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره صلى الله عليه وسلم.
إن خرجت في الموعظة قلتَ : أنين من فؤاد مقروح ، وإن راعت بالحكمة قلتَ : صورة بشرية من الروح في مَنزع يلين فينفر بالدموع ، ويشتد فينزو بالدماء. وإذا أراك القرآن أنه خطاب السماء للأرض، أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء .
وهي البلاغة النبوية ، تُعرف الحقيقة فيها كأنها فكر صريح من أفكار الخليقة ؛ وتجيء بالمجاز فترى من غرابته أنه مجاز في حقيقة. وهي من البيان في إيجاز تتردد فيه
"عين" البليغ فتعرفه مع إيجاز القرآن فرعين ؛ فمن رآه غير قريب من ذلك الإعجاز فليعلم أنه لم يلحق به هذه " العين " . على أنه سواء في سهولة إطماعه ؛ وفي صعوبة امتناعه ؛ إن أخذ أبلغ الناس في ناحيته،لم يأخذ بناصيته، وإن أقدم على غير نظر فيه رجع مبصراً ، وإن جرى في معارضته انتهى مقصراً.
من كتابه : تاريخ آداب العرب ، الجزء 2.