شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (121)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [2]
من المسائل المتعلقة بالإمامة: من هم الذين تصح خلفهم الصلاة والذين لا تصح خلفهم الصلاة؟ وهنا بيان للذين لا تصح الصلاة خلفهم،
وهم: الصبي غير البالغ، إلا أن فيه خلافا والصحيح الجواز،
ومنهم: الأخرس والعاجز عن الركوع أو السجود أو القيام أو القعود.وتصح الصلاة خلف من به سلس البول بمثله، ولا تصح خلف محدث ولا متنجس، ولا أمي لا يحسن القراءة.وهناك من تكره إمامتهم في الصلاة ذكرهم العلماء في باب الإمامة.
[تابع أحكام الإمامة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر، ولا امرأة وخنثى للرجال، ولا صبي لبالغ].ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأمور التي تؤثر في الإمامة، فبين رحمه الله من لا تصح إمامته، وذكرنا عدم صحة إمامة الكافر بالمسلمين وبينا وجه ذلك، ثم تعرض رحمه الله لإمامة الفاسق، وبينا أن مذهب الحنابلة رحمة الله عليهم وجمهور أهل العلم على أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة؛
لثبوت الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)،
أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم.
وقال العلماء: إن الفاسق تجزئه في حق نفسه، ولذلك تصح إمامته لغيره.وبينا أن السلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يصلون خلف الفساق وما كانوا يبطلون الصلاة، كما هو فعل أنس بن مالك وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.ثم بعد ذلك ذكرنا إمامة المرأة للرجال،
وقلنا: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وأما إمامتها للنساء فللعلماء فيها قولان.
وأما الدليل على أن المرأة لا تؤم الرجال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فالنساء جبلن على الضعف الذي هو كمال لهن في أمورهن الخاصة، وجعل الله هذا الضعف رفقا بهن وبغيرهن، وفيه خير لهن ولغيرهن، ثم جعل في الرجل ما لم يجعله للمرأة من إمامة الرجال لافتتان الرجال بها وافتتانها بهم، ولذلك يضيع المقصود من الإمامة والصلاة من قصد القربة إلى الله عز وجل، وبناء على ذلك لا تصح إمامة المرأة للرجال، وشذ داود والطبري رحمة الله عليهما، فقالا بصحة إمامة المرأة للرجال،
وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).وهذا القول ضعيف لمعارضته للسنة الصحيحة التي دلت على عدم ولاية المرأة، والإمامة ولاية، والصلاة كذلك من أعظم الأمور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).
وأما بالنسبة لاحتجاجهم بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فمحل نظر؛ لأن لفظ (القوم) يطلق بمعنى الرجال،
كما في قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء} [الحجرات:11]، فقيل: إن القوم يطلق ويراد به الرجال خاصة،
بدليل عطف النساء عليه بعد ذلك بقوله تعالى: (ولا نساء من نساء)، فلم تجتزئ الآية بذكر القوم حتى خصصت ذكر النساء، فدل على أن القوم يطلق ويراد به الرجال.
وأيضا قول الشاعر: فما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟
فقوله: أقوم آل حصن أم نساء؟
أي: هل هم رجال أم نساء؟ فدل على إطلاق القوم وإرادة الرجال وحدهم، وهذا هو لسان العرب الذي نطق به القرآن، وكذلك نطقت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وبناء على ذلك لا تؤم المرأة الرجال، ولكن يردq هل المرأة تؤم النساء؟
في هذه المسألة قولان: فقالت الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم: إن المرأة تؤم النساء.
واحتجوا بحديث أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده: (أن أم ورقة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت امرأة صالحة- أن تؤم أهل دارها، فأذن لها -عليه الصلاة والسلام- بذلك)، وكان يؤذن لها رجل أعمى كفيف البصر،
قال الراوي: فلقد رأيته قد سقط حاجباه فكان يؤذن لها، ثم تؤم أهل دارها، فدل على أنها تؤم النساء مثلها.وقالت الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم: إن المرأة لا تؤم النساء.وهذا قول ضعيف،
وقد احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (آخروهن حيث أخرهن الله)، وهو حديث ضعيف.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)،
فقالوا: إن الإمامة تكون فضلا، ولكن على هذا الوجه تكون بخلافه فتعارض مقصود الشرع من تأخير النساء.والصحيح جواز إمامة المرأة للنساء، وبناء على ذلك فلا حرج أن تصلي المرأة بمثلها من النساء.ثم قال رحمه الله: [ولا صبي لبالغ].
أي: لا تصح إمامة الصبي للبالغ.
والصبي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون غير مميز، وهو الصبي الطائش الذي لا يضبط أمور الصلاة ولا يعيها ولا يعقلها، فهذا لا يؤم البالغين بالإجماع.
والحالة الثانية: أن يكون الصبي يميز،
والمميز للعلماء فيه ضابطان: فمنهم من يضبطه بالسن فيقول: هو الذي بلغ سبع سنين، وهو المميز، فمن كان دون سبع سنين فليس بمميز.
واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل هذا الحديث على أن سن السبع هو سن التمييز، وأن الصبي يؤمر بالصلاة لسبع، وما دون سبع لا يؤمر لها، فدلنا على أن السبع فاصل بين التمييز وعدمه.وهناك قول ثان ضبط الصبي المميز بضابط الحال،
فقالوا: الصبي المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب.
أي: إذا كلمته فهم ما تريد،
وإذا أجابك أحسن الجواب على الوجه الذي تطلب والفرق بين القولين: أن الصبي قد يكون قوي الذكاء فيحسن الجواب والخطاب وعمره خمس سنوات، أو ست سنوات؛ فحينئذ -على القول الأول- ليس بمميز، وعلى القول الثاني هو مميز، والصحيح اعتبار السن.
فقوله: [ولا صبي لبالغ] أي: ولا تصح إمامة الصبي، والصبي من هو دون البلوغ، ومحل الخلاف في المميز، واختلف العلماء لو أن صبيا كان حافظا لكتاب الله عز وجل، وأم البالغين فهل تصح إمامته أو لا تصح؟ وجمهور العلماء على أن الصبي لا يؤم البالغين، وأنه لا يؤم البالغين إلا البالغ.وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: إن الصبي إذا كان أحفظ القوم فإنه يؤم البالغين ولا حرج في ذلك، وبهذا القول قال الإمام الشافعي، وهو كذلك قول لطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والذين قالوا: لا يؤم الصبي البالغين احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب البالغين فقال في الحديث الثابت في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يخاطب البالغين، فدل على أنه لا يؤم البالغين إلا واحد منهم.وقالوا أيضا: إن الصبي كالمجنون؛ لأن الصبي لم يبلغ الحلم ولم يكتمل عقله،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع القلم عن ثلاثة) ثم قال: (وعن الصبي حتى يحتلم)، فأخبر أنه لا يبلغ الحلم والعقل، وهذا معروف ومجمع عليه، فالصبي لا عقل عنده بمعنى الكمال،
وبناء على ذلك قالوا: إنه كالمجنون وهذا ضرب من القياس والنظر.
الوجه الثالث: قالوا: إن الصبي إذا أم البالغين فإنه متنفل؛ لأن الصلاة ليست بواجبة عليه، والذين يصلون وراءه من البالغين مفترضون، ولا يؤم المتنفل المفترض.فهذه هي أوجه من قال بعدم صحة إمامة الصبي للبالغين.أما الذين قالوا بصحة إمامة الصبي للبالغين فاحتجوا بحديث عمرو بن سلمة -وهو ثابت في الصحيح- أنه قال: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة ومعنى هذه العبارة: أن العرب كانوا يقولون: اتركوا هذا الرجل وقومه، وكانوا يجلون قريشا ويقدرونها ويعظمون أمرها،
وكانوا يقولون: أهل الحرم -
أي: أهل مكة- لا يقصدهم ظالم إلا آذاه الله عز وجل، ولا يسلم من نقمة الله عز وجل.
فقالوا: إن كان محمد ظالما فسيكفيكم أمره ظلمه لقريش، وإن كان على حق وغلبهم أسلمنا وأطعنا، فقال عمرو بن سلمة: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة.
أي: تنتظر ما الذي سيجري بين محمد وأهل مكة، فلما فتحت مكة ظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم دينه دين حق؛ لأنه لو لم يكن على حق لما فتحت له مكة،
كما قال الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} [النصر:1 - 2]، قال: فقدم أبي وقومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهم ما شاء الله أن يعلمهم من أمور الإسلام وشرائعه.قال: ثم قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا صلاة كذا في حين كذا وكذا وليؤمكم أكثركم قرآنا)، والرواية في الصحيح تقول: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذا للقرآن فقدموني.
قالوا: وهذا الحديث فيه أن عمرو بن سلمة وهو غلام ابن تسع سنوات قد أم هؤلاء البالغين، وكان في عصر التشريع والوحي، فلو كانت إمامة الصبي للبالغين لا تصح لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك.
ووجه هذا أنهم قالوا: إن عموم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يدل على أن الصبي إذا كان حافظا للقرآن فإنه يقدم.
وناقش الجمهور هذا الحديث من وجوه: فكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا ذكر هذا الحديث -كما نقل عنه الإمام ابن قدامة وغيره-
يقول: أي شيء هذا؟ أي شيء هذا؟ دعه فإنه ليس ببين.والسبب في هذا أن حديث عمرو بن سلمة فيه إشكال،
ووجهه أنه يقول: (كنت أؤمهم) وكان من التابعين ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سجد بدت عورته كما في رواية البخاري،
فقالت امرأة: استروا عنا است قارئكم.فالإمام أحمد فطن إلى هذا المأخذ؛ إذ إن الإنسان لو صلى مكشوف العورة بالاختيار لبطلت صلاته، فدل على أنهم مجتهدون وهم قريبوا العهد بالجاهلية كما هو ظاهر الرواية في الصحيح،
فكان رحمه الله يقول: أي شيء هذا؟ دعوه فإنه ليس ببين.أي: إذا أخذ على ظاهره من أنهم اجتهدوا؛ لأنه قال: فرجعوا فنظروا.
فقوله: (فنظروا) واضح في الدلال على أنهم اجتهدوا.كما رد الجمهور على هذا الحديث
[حكم إمامة الأخرس]
قال رحمه الله: [وأخرس].أي: ولا تصح الإمامة من أخرس، وهو الذي لا ينطق، وكل من كان مبتلى بالخرس -على أحد الوجهين- فإنه لا يتقدم الناس، والسبب في ذلك أن الإمام يتحمل القراءة،
قال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن)، فالأخرس لا يستطيع القراءة، فكيف يتحمل عن الناس قراءتهم؟ وكيف يقوم بواجبات الصلاة وأركانها المشتملة على قراءة الفاتحة، وهكذا بالنسبة لأذكار الانتقال من التكبير والتسميع ونحو ذلك؟ فلا تصح إمامة الأخرس.
[حكم إمامة العاجز عن الركوع أو السجود]
قال رحمه الله: [ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام].
هذه كلها أركان للصلاة، فالقيام مع القدرة والركوع والسجود والجلوس كلها من أركان الصلاة،
فقالوا: إذا كان الإمام عاجزا عن القيام أو الجلوس أو الركوع أو السجود فإنه لا يصلي بغيره، والسبب في ذلك أنه معذور في نفسه وغيره غير معذور، فعذره لا يتعدى إلى الغير،
ومن ثم قالوا: لا يؤم العاجز عن القيام والعاجز عن الركوع والسجود غيره،
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالسا في موضعين: الموضع الأول: حينما وقع من على فرسه وجرح شقه الأيمن، قال أنس -كما في صحيح مسلم-: (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على فرس فجحش شقه الأيمن -
أي: جرح-، فصلى قاعدا فصلى وراءه أصحابه قياما،
فلما سلم قال: لقد كدتم أ، تفعلوا فعل الأعاجم.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا.وإذا رفع فارفعوا،
إلى أن قال: وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين)، فهذا يدل على أنهم يقتدون بالإمام إذا كان جالسا، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان معذورا وهو الإمام الراتب جاز أن يصلي بالناس قاعدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام راتب.والذين يقولون بالمنع من إمامة من يعجز عن الركوع والسجود والقيام السبب عندهم أن العجز مختص به والإمام ضامن، وبناء على ذلك لا يكون الناقص ضامن للكامل، وعلى هذا لا يحمل ولا يضمن للناس صلاة فلا يصح أن يتقدم بهم،
وهناك حديث: (لا يؤمن أحد بعدي جالسا)، وهو حديث ضعيف.قال رحمه الله: [إلا إمام الحي المرجو زوال علته، ويصلون وراءه ندبا].هذه المسألة فيها خلاف،
فقال بعض العلماء: لا يؤم الإمام الجالس أو القاعد مطلقا، سواء أكان إمام حي أم غيره.ويحتجون بالحديث الذي ذكرناه،
ومنهم من قال: يؤم الإمام ولو كان جالسا إذا كان إماما راتبا أو إمام الحي فإنه يؤم جالسا ويصلي الناس وراءه، واختلفوا في المأمومين على قولين،
فقيل: يصلون قياما.وقيل: يصلون جلوسا مثله.
فالذين قالوا: يؤم ويصلي الناس وراءه جلوسا يحتجون بحديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط من على الفرس وصلى جالسا عتب على الصحابة أن صلوا وراءه قياما،
وبناء على ذلك قالوا: إن هذا يدل على أن الإمام لا يصلى وراءه إلا بالصفة التي هو عليها،
فإن صلى معذورا جالسا صلينا وراءه جلوسا لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين).
القول الثاني يقول: لا يصلون وراءه جلوسا، وإنما يصلون وراءه قياما؛ لأن الإمام معذور في حق نفسه ومن وراءه غير معذور، فهو مخاطب بأن يقوم كما أمره الله، فيبقى العذر مخصوصا بصاحبه ويبقى غيره على القيام، فقيل لهم: كيف تجيبون عن حديث أنس؟
قالوا: حديث أنس كان في أول الأمر، ثم نسخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرضه.فإنه لما مرض مرض الموت وتقدم أبو بكر ليصلي بالناس جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ثم قعد فصلى، فصلى أبو بكر بصلاته يسمع الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا والصحابة من ورائه قياما،
فقالوا: هذا وقع في آخر إمامة أم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، ويؤكدون هذا بأن النصوص قوية في الدلالة على مخاطبة المكلف بالقيام، فنبقي هذه النصوص التي أوجبت القادر على القيام على دلالتها، ثم يستثنى الإمام لمكان العذر، وتكون صورة الصلاة كصورة إمامته عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة التي كانت آخر حياته، بل كانت آخر إمامة وقعت منه عليه الصلاة والسلام للصحابة.
وجمع الإمام أحمد رحمة الله عليه بين هذه النصوص فقال: إذا كان إمام الحي المرجو زوال علته فإنهم يصلون وراءه جلوسا -على الصفة التي ذكرناها، ويكون ذلك ندبا كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، وهذا بأمره عليه الصلاة والسلام- وأما إذا كان طرأ عليه العذر أثناء الصلاة فإنهم يصلون وراءه قياما.
فجمع بين الحديثين بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين) عام سواء أبتدأ الصلاة جالسا أم طرأ عليه الجلوس أثناءه، وأما حديث مرض الموت فإن الجلوس من الإمام طرأ ولم يكن في أول الصلاة؛ لأن الذي استفتح الصلاة إمام قائم وهو أبو بكر، والجلوس طرأ بعد هذه الإمامة،
وبناء على ذلك يقول: كأنه وجب عليهم أن يقوموا في مرض الموت، وبقي حديث أنس على العموم.فكأنه يرى أنه لا يصلي المأمومون وراء الإمام قياما إلا في حالة واحدة، وهي أن يستفتح الصلاة بهم وهو صحيح ثم يشتد عليه مرضه فيجلس، فإذا استفتح بهم الصلاة وهو صحيح واشتد عليه المرض وجلس فيصلي المأمون وراءه قياما، وأما في غيرها، كأن يصلي من بداية الصلاة جالسا فيصلي الناس وراءه جلوسا.فهذا في الحقيقة فيه الجمع بين النصوص وهو أقوى الأقوال -إن شاء الله- وأقربها إلى الصواب.
وقوله: [ويصلون وراءه جلوسا ندبا].لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، فصرف الأمر من الوجوب إلى الندب لوجود حديث مرض الموت؛ لأنه معارض لحديث الأمر، فحملوا الأمر على أنه محمول على الندب، وأكدوا هذا بأن الصحابة لما صلوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم قياما لم يؤثمهم.
وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.
قال رحمه الله: [وإن ابتدأ بهم قائما ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياما وجوبا].هذا على ظاهر حديث مرض الموت، فإن الصحابة بقوا على حالتهم وهم قائمون، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك،
وبناء على ذلك نقول: إذا دخلت المسجد والإمام الراتب يريد أن يصلي جالسا واستفتح الصلاة جالسا فصل وراءه جالسا،
ودليلك حديث أنس: (وإذا صلى جالسا فصلوا وراءه جلوسا أجمعين)، وأما إذا دخلت والإمام يستفتح الصلاة وليست به علة، ثم طرأ عليه المرض، أو طرأ عليه العذر فاحتاج للجلوس فإنك تبقى على القيام حتى تتم الصلاة لحديث مرض الموت.
[حكم إمامة من به سلس البول]
قال رحمه الله: [وتصح خلف من به سلس البول بمثله].بعد أن ذكرنا المعذور في الأركان انتقل إلى المعذور في الشروط، فابتدأ بالمعذور في شرط الطهارة.فلو كان الإمام به علة، أو به مرض كسلس البول، فهذا المرض -في الأصل- يقتضي أنه معذور، وبناء على ذلك فإن طهارته لا تأتي على الوجه الكامل، وإنما رخص له أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وإلا فإنه غير متوضئ؛ لأن السلس لا يمكنه من إبقاء طهارته على ما هي عليه، فكأنك تصلي وراء إنسان محدث،
وبناء على ذلك قالوا: هذا عذر في حق نفسه أن يصلي وبه سلس، والإمام -خاصة على مذهب الحنابلة والحنفية- يحمل الفاتحة عن المأموم، ويحمل الأركان،
فقالوا: لا بد وأن يكون على صفة يكون بها حصول براءة الذمة، وهي أن يكون متطهرا، فلا يكون محدثا، أو في حكم المحدث،
فقالوا: صحيح أن الشرع عذره أن يصلي وبه سلس البول، ولكن عذره في حق نفسه، ولم يأتنا دليل أن من به سلس يصلي بالناس، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي بغيره، وإنما يصلي بمن هو مثله، فلو وجد إنسان به سلس البول إماما به سلس بول فإنه يصلي معه؛ لأن حالتهما واحدة، فيبني المثل على مثله، أما القوي فلا يبنى على الضعيف.
[حكم صلاة المأمومين خلف محدث]
قال رحمه الله: [ولا تصح خلف محدث].
قوله: [ولا تصح خلف محدث] عموم، سواء أحدث حدثا أصغر أم أكبر، وصورة ذلك أن يعلم المأمومون أن إمامهم محدث، فإن علموا أن إمامهم محدث فإنه لا يجوز لهم أن يأتموا به، ولو وقع الحدث أثناء الصلاة وتابعوه بركن واحد بعد الحدث بطلت صلاتهم، وإنما يلزمهم بمجرد حدث الإمام أن ينووا مفارقته.فلو أن إماما تقدم، ثم أحدث أثناء صلاته وإمامته، سواء في أول الصلاة أم في وسطها أم في آخرها قبل تمامها، فالذي يفعله الإنسان هو أنه إذا أمكن أن يستخلف فلا إشكال، لكن لو كان جاهلا، أو لا يمكنه الاستخلاف فإنك تنوي المفارقة، وتنوي مفارقته كأنك منفرد، وتحتسب لنفسك ما كان من صلاتك، وبناء على ذلك لو أحدث في الركعة الثانية وأنت في الظهر فتتم الثانية ثم الثالثة والرابعة وتسلم، وهذا إذا أحدث وعلمت بحدثه أثناء الصلاة، أما لو علمت بحدثه قبل الصلاة فلا يجوز لك أن تأتم بإمام محدث، وبناء على ذلك لو ائتم به وهو يعلم بحدثه قبل الصلاة بطلت صلاته.وهناك صورة ثالثة وهي لو أن هذا الإمام كان محدثا ولم يعلم المأمومون إلا بعد انتهاء الصلاة، كما لو قام إلى صلاة الفجر يظن أنه على غير جنابة، فتوضأ ثم صلى بالناس، وبعد أن سلم وانتهى تبين له أنه محدث، أو أحدث حدثا أصغر ثم نسي أنه محدث، فتذكر أنه على طهارة ولم يذكر الحدث الذي بعد طهارته، ثم تقدم وصلى بالناس، وبعد أن صلى تذكر أنه أحدث قبل صلاته،
فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إذا كان الإمام محدثا ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الصلاة فإن صلاتهم صحيحة.وبهذا قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث.أي أن الإمام إذا صلى بالناس ناسيا للحدث، ثم لم يتذكر إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاة المأمومين وراءه صحيحة، ولو كان بعد تسليمه مباشرة.
القول الثاني: إن صلاة المأمومين فاسدة وتلزمهم الإعادة حتى ولو بعد سنوات وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمة الله على الجميع.
واستدل الجمهور على صحة صلاة المأمومين بما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأو فلكم وعليهم)،
فوجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: (وإن أخطأوا فلكم) أي: لكم صلاتكم كاملة، (وعليهم) أي: عليهم خطؤهم.وهذا عام يشمل خطأ الشروط وخطأ غيرها.
وبناء على ذلك يقولون: إن هذا يدل على صحة الصلاة وراء الإمام المحدث.وكذلك احتج الجمهور بإجماع الصحابة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما روى مالك عنه في الموطأ- صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف بضاحية المدينة، فلما جلس على الساقية -على قنطرة الماء-
نظر إلى فخذه فإذا هو بأثر الماء من الاحتلام فقال: ما أراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت.فقام رضي الله عنه مباشرة واغتسل وأعاد صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، ولم يأمر الناس بالإعادة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم.فهذه سنة راشدة عن خليفة راشد في نفس المسألة المتنازع عليها، ولم ينكر عليه أحد من فقهاء الصحابة وأجلائهم، وبناء على ذلك فكأنه إجماع منهم أن الإمام إذا صلى بالناس وهو لا يعلم بحدثه فإن صلاتهم صحيحة، ولا تلزمهم الإعادة.وأما الذين قالوا بأنه تلزمهم الإعادة فإنهم احتجوا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم رأى أثر الاحتلام، فأمر مناديا أن ينادي في الناس بإعادة صلاة الفجر.ووجه الدلالة أن عليا أعاد الصلاة، ولم تكن الإعادة لازمة حتى ألزم الناس بها.والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بعدم الإعادة، وأن الصلاة صحيحة؛ لظاهر الأدلة من السنة والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من أثر علي ففيه كلام، ولو صح فإنه معارض بما هو أقوى، ويحتمل أن عليا لم يبلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
ونقول: إن فعل عليا قد عارضه فعل عمر، ولا شك أن عمر رضي الله عنه محدث ملهم مقدم؛ لأنه إذا تعارضت آراء الصحابة نظر إلى الفضائل، ففضل عمر رضي الله عنه لا شك أنه مقدم على فضل علي رضي الله عن الجميع.وبناء على هذا فإن الذي يترجح هو القول بصحة الصلاة، وأن المأمومين لا تلزمهم الإعادة، ودرج على هذا المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور كما قلنا.
[حكم صلاة المأمومين خلف متنجس]
قال رحمه الله: [ولا متنجس يعلم ذلك، فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده).
قوله: [ولا متنجس] أي: ولا تصح الصلاة وراء متنجس يعلم بنجاسته، كإنسان -مثلا- كان على ثوبه بول، أو غيره من النجاسات، فإنك إذا رأيت النجاسة في ثوب الإمام فإن أمكنك أن تريه النجاسة وينصرف ويستخلف فلا إشكال، فلو أن النجاسة في طرف كمه فإنك تتقدم إلى جوار الإمام وتسحب كمه لتريه -لأنها حركة لمصلحة الصلاة- حتى يستخلف وتصح صلاة من وراء.وإذا تعذر عليك إعلامه، أو كان الإمام جاهلا فحينئذ بمجرد رؤيتك للنجاسة والخلل في الإمام فإنك تنوي مفارقته -
أي: تنوي أنك منفرد-، وتتم لنفسك وصلاتك صحيحة، أما لو رأيت النجاسة وبقيت وراءه عالما بنجاسته التي في ثوبه فإن صلاتك وراءه باطلة، وتبطل بأداء ركن واحد بعد العلم.قوله: [فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده].
هنا مسألتان: المسألة الأولى: أن يصلي الإمام وهو محدث غير عالم بحدثه؛ فلا إشكال أنه يطالب الإمام بالإعادة ولا يطالب المأمومون.
الحالة الثانية: أن يصلي بنجاسته التي لا يعلمها حتى ينتهي من الصلاة فلا يعيد هو ولا المأمومين.فإذا كان الإمام محدثا فحينئذ تلزمه الإعادة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وأما إذا كان في ثوبه أو بدنه نجاسة لا يعلمها، فإن الإعادة لا تلزمه ولا تلزم المأمومين،
والسبب في ذلك حديث أنس الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالصحابة فخلع نعاله أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم -عليه الصلاة والسلام-
قال: ما شأنكم؟
قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين)،
أي: خلعتهما لعذر، وهو وجود النجاسة.ووجه الدلالة من هذا الحديث -وهو دقيق- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها، حيث كبر تكبيرة الإحرام، ويحتمل أنه فعل بعض الركعات، ومع ذلك لم يستأنف الصلاة بعد العلم بالنجاسة، وإنما بنى، فكما صحت أجزاء الصلاة والإحرام بتكبيرة الإحرام التي هي الركن، فكذلك تصح الصلاة في كمالها إذا علم بعد السلام،
وبناء على ذلك يفرق في الإمام بين أمرين: الأول: أن يكون محدثا ولا يعلم بحدثه أو لا يتذكر أنه محدث إلا بعد الصلاة.فإنه حينئذ تلزمه الإعادة.
والثاني: أن يكون الإمام عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه ولا يعلم بها، أو كانت في المكان الذي يصلي به ولا يعلم بها إلا بعد انتهاء الصلاة، فصلاته وصلاة من وراءه صحيحة.
يتبع