شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجهاد)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (261)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
**شروط وجوب الجزية
قال رحمه الله: [ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها].
قوله: (ولا جزية على صبي) بعد أن عرفنا من الذي تعقد له الذمة، ومن الذي يلي عقدها يَرِد السؤال الثالث: من الذي تجب عليه الجزية؟ إذا نزل المسلمون بالكفار من أهل الكتاب، وعقدوا بينهم عقد الصلح وعقد الذمة، فإنهم يكتبون أسماءهم ويعد بذلك سجل، حتى تؤخذ الجزية منهم، بنص الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] ويحتاج هذا إلى كتابة أسمائهم، وهذا له تراتيب إدارية معروفة في كتب التراتيب الإدارية، وكذلك أيضاً في كتب الاحتساب، وذكرها العلماء -رحمهم الله- في المطولات في الفقه، كالإمام ابن قدامة في المغني، فتسجل أسماؤهم، وحليتهم، وما يتميزون به، وأنسابهم، حتى تضبط بالكيفية، وحرفهم، وأعمالهم، حتى يُعْرَف من الذي تُضْرَب عليه الجزية ومن الذي لا تُضْرَب عليه الجزية، فحينئذٍ نقسمهم إلى قسمين: قسم منهم: توضع عليه الجزية.
وقسم منهم: توضع عنه الجزية.
فقسم يطالَب بها، وقسم لا يطالَب.
فأما الذين يطالبون بالجزية فتشترط فيهم شروط: الشرط الأول: البلوغ.
الشرط الثاني: العقل.
الشرط الثالث: الذكورة.
الشرط الرابع: الحرية.
الشرط الخامس: القدرة المالية.
الشرط السادس: ألا يكون من الرهبان، على خلاف فيه، وإن كان الصحيح أنه تجب الجزية حتى على الرهبان، وسنبين هذا.
هذا بالنسبة لمجمل الشروط التي ذكرها العلماء في إيجاب الجزية على الذمي.
الشرط الأول: البلوغ: فلا تضرب الجزية على الصغار والصبيان، ويدل على هذا حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الجزية من نصارى نجران: (أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً) فقوله: (من كل حالم) الحالم: اسم فاعل من المحتلِم، وهو الذي بلغ الحلم، ومفهوم الصفة، أنه إذا لم يكن بالغاً -وهو الصبي- فلا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع العلماء، أن الصبيان لا تضرب عليهم الجزية، وقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه، كتاب الذمة لأهل الحيرة، فأسقط الجزية عن الصبيان، وكتب إلى أبي بكر رضي الله عنه بذلك، فأقره على هذا، وهذا يدل على سماحة الإسلام.
كذلك مما يدل على أن الصبيان لا تؤخذ منهم الجزية: أن الله تعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] والصبي لا يقاتِل، والجزية إنما جعلت عوضاً عن قتالهم، فدل على أنه ليس من جنس من تجب عليه الجزية.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً: فالمجنون لا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن مجانين أهل الكتاب لا تجب عليهم الجزية، وهم غير مكلفين، فلا يكلفون بها.
الشرط الثالث: الذكورة: فلا تجب على النساء، فالنساء لا تفرض عليهن الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، فإن المرأة لا تقاتل، والجزية عوض عن القتال، وهذا ما كتبه خالد رضي الله عنه في كتابه، وفي الشروط العمرية أيضاً: (أن النساء لا تؤخذ منهن الجزية)، فالمرأة لا تكتسب غالباً، وهذا يدل على سماحة الإسلام ورفقه بالمرأة، فإنه أسقط الجزية عن نساء أهل الذمة.
الشرط الرابع: القدرة المالية: بمعنى أن يكون قادراً على أداء الجزية، وهذا من ناحية المادة والمال، والأصل أن أهل الذمة تجب عليهم الجزية، ثم يصنفون: هناك الغني، وهناك الوسط، وهناك ضَعَفَة الحال، وينقسمون إلى قسمين: الضعيف الذي لا يجد شيئاً، كالمسكين والفقير.
والضعيف الذي يجد قوام عيشه، وشيئاً زائداً على فضل قوته.
فهذه ثلاث طبقات، فتفرض الجزية على الطبقة العليا بما يتناسب مع حالها، ويرجع هذا إلى اجتهاد الإمام وتقديره، وكان عمر رضي الله عنه له في ذلك ضوابط، فكان يفرض (48) ديناراً على الغني، و (24) ديناراً على المتوسط، و (12) ديناراً على الضعيف أي: على من كان دون المتوسط في معيشته.
وهذه الثلاث المراتب قد فصلها العلماء في كتب الأموال، ككتاب الأموال لـ ابن زنجويه، وكتاب الأموال لـ أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وكذلك ذكرها الإمام ابن قدامة في المغني.
فهذه الثلاث المراتب للقادر.
ويبقى غير القادر.
وغير القادر ينقسم إلى أقسام، منها: من لا يقدر لكبر السن، والخور، كالشيخ الكبير الفاني، الذي لا يستطيع أن يعمل، وليس عنده مال، وقد يكون شيخاً كبيراً وعنده أموال وتجارات، فإذا كان كذلك فرضت عليه، كأغنيائهم، أما بالنسبة للشيخ الهرم، الذي لا مال عنده ولا تجارة، فإنه تسقط عنه الجزية، وقد فعل ذلك خالد بن الوليد وكتبه في كتاب الصلح لأهل الحيرة: أنه ما من كبير سن يفتقر، ويتصدق عليه أهلُه -أي: وصل إلى حد الحاجة والعوز حتى تُصُدِّق عليه- إلا أدخله في عيال بيت مال المسلمين -أي: يدخله حتى مع ضَعَفَة المسلمين- وينفق عليه من بيت مال المسلمين.
وهذا من سماحة الإسلام أيضاً، وهو يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وكيف أنها عاملتهم بنوع من المرونة، فالرفق في موضعه والشدة في موضعها؛ لأنه لا يصلح للكافر أن يرفق به مطلقاً، ولا يصح أن يشد عليه مطلقاً، وإنما الأمور تكون بالوسط الذي جاء به شرع الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً، والعدل هو المستقيم، الذي بين الإفراط والتفريط.
فتُسْقَط الجزية عن الشيخ الهرم الذي لا مال له ولا تجارة.
ويبقى النظر في الفقير: فلو كان هناك فقير؛ ولكنه يستطيع أن يعمل وأن يتكسب، لكنه جلس في بيته وافتقر، فهل تسقط عنه الجزية؟ الفقير ينقسم إلى قسمين: الأول: من كان منهم يستطيع العمل لكنه قعد وتقاعس، فهذا يُلزم بدفع الجزية، ويعتبر تقصيره لنفسه؛ لأنه هو الذي قصر، ويُلزَم بعاقبة تقصيره.
الثاني: من كان منهم فقيراً، لا يجد الكسب فللعلماء فيه وجهان: جمهور أهل العلم على أن الجزية تسقط عنه مطلقاً، أداءً وقضاءً، بمعنى: أن هذا الفقير لا نطالبه بالجزية حال فقره، ولا نطالبه بالقضاء بعد يسره وغناه.
وذهب بعض الفقهاء -كما هو عند الشافعية رحمهم الله- إلى أن هذا النوع من الفقراء نتركه، ولا نطالبه في الحال، فإن اغتنى بعد ذلك طالبناه بقضاء السنين التي مضت.
والصحيح مذهب من ذكرنا، وهم الجمهور: أنه إذا سقطت عنه في الأداء سقطت عنه في القضاء، ولا يطالب بقضائها، وأن العبرة بحال أدائه.
هذا بالنسبة للشروط العامة
**حكم أخذ الجزية من الرهبان
وأما الرهبان ففيهم قولان مشهوران للعلماء، فمن أهل العلم من قال: لا تؤخذ من الرهبان والقساوسة، ونحوهم، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه حينما بعث يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه لفتح الشام، قال له: (وستجد أقواماً قد حبسوا أنفسهم في صوامعهم، فدَعْهم وشأنهم، حتى يميتهم الله على ضلالتهم) أي: لا تتعرض لهم بشيء، فأخذ منه بعض العلماء سنةً عن أبي بكر رضي الله عنه أن هؤلاء لا يُتَعرض لهم بشيء، والواقع أن الرهبان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: يقاتل، ويشارك في مواجهة المسلمين برأي أو مكيدة، أو يكون قائداً لهم، أو يحرضهم على جهاد المسلمين وقتالهم، فهذا يُقتل، وكذلك أيضاً تُضْرب عليه الجزية.
والقسم الثاني: الذين انحصروا في صوامعهم، وأماكن عبادتهم، فللعلماء فيهم وجهان -كما ذكرنا- فمنهم من يقول بضرب الجزية عليهم، وهذا هو الصحيح؛ لعموم الأدلة؛ ولأن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، -وهو وإن لم يكن من الصحابة، لكنه خليفة راشد- ضرب الجزية على الرهبان، وعمل بعموم الآيات، وهذا هو الصحيح.
(ولا عبد) العبد لا تجب عليه الجزية؛ لأنه لا يملك المال، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ومن أهل العلم من قال: تجب الجزية على سيده إن كان كافراً، كما في حديث ضعيف رواه البيهقي في سننه، والصحيح أن العبد لا تؤخذ منه الجزية لما ذكرناه
**زوال موانع الجزية بعد انقضاء وقتها
قال رحمه الله: [ومن صار أهلاً لها، أخذت منه في آخر الحول] (ومن صار أهلاً لها) تقدم من الذي تُضْرب عليه الجزية، ويبقى
**السؤال
لو أن هؤلاء الصبيان والمجانين والفقراء زال عنهم الوصف أثناء الحول، وكما تقدم: الجزية تؤخذ كل سنة، ومن أهل العلم من يرى تقسيطها، والأقوى أنها تؤخذ كل سنة، وللعلماء وجهان في وقت أخذها: بعضهم يقول: تؤخذ معجَّلة، أي: يبرم معهم العقد، ثم تؤخذ قبل استتمام السنة، وهذا أقوى، ويدل عليه كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، حينما صالح في بداية الفتوحات في الشام.
ومن أهل العلم من يقول: تؤخذ في آخر السنة.
والأقوى هو القول الأول، لكن لو أننا أخذناها في بداية السنة، ثم بلغ الصبي واغتنى الفقير أثناء السنة، أو أفاق المجنون أثناء السنة، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: زوال الموانع فيه تفصيل: فمثلاً: المجنون إذا كان يجن تارة ويفيق تارة: فمنهم من يقول: العبرة بأكثر الحول، فإن أفاق أكثر الحول أخذنا منه الجزية كلها، وإن كان يجن أكثر الحول، لا تؤخذ منه الجزية.
ومنهم من يقول: تقسط على حسب إفاقته.
وهذا هو الأقوى والصحيح، أنه ينظر إلى مدة إفاقته، وتقسط، وكذلك بالنسبة للصبي، فإذا بلغ -مثلاً- في الشهرين الأخيرين من السنة، فإنه يدفع قدر الشهرين، وإذا بلغ في منتصف السنة، أخذ منه نصف الجزية، وقِسْ على هذا.
إذاً: مسألة زوال الموانع يفصل فيها على حسب المدة التي يدركها بالأهلية، فالمدة التي يدركها بالأهلية يجب أخذ الجزية بحسابها وقدرها.
قال رحمه الله: [ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم] الجزية تتعلق بالآثار المترتبة على عقد الذمة، فمتى أعطوا الجزية لزم قبولها، أي: يجب على الإمام أن يقبل الجزية، وهناك قول شاذ يقول: إن للإمام أن يمتنع من أخذ الجزية، والصحيح الأول لحديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أعطوها فاقبلها منهم)، فأمره بقبول الجزية، فدل على وجوب قبولها حقناً لدماء من يُحقن دمه من أهل الكتاب.
فإذا أعطوها ما الذي يترتب عليه؟ قال رحمه الله: (ومتى بذلوا الواجب عليهم لَزِم قبولُه وحَرُم قتالُهم) (لَزِم قبولُه) هذا للوجوب.
(وحَرُم قتالُهم) حَرُم أن يقاتلوهم، وهذا في بداية الأمر.
تبقى الآثار المترتبة بعد ذلك، وهذه لها تفصيلات سيذكرها المصنف -رحمه الله- فيما بعد.
فتقرر أن الجزية يلزم الإمام قبولها إذا عُرِضت عليه من أهل الذمة، ولا يجوز أن يقاتلهم وقد أدوا الجزية؛ لثبوت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
**امتهان أهل الذمة عند أخذ الجزية ومقاصده الشرعية
قال رحمه الله: [ويُمْتَهنون عند أخذها، ويُطال وقوفُهم، وتُجَرُّ أيديهم] (ويُمْتَهنون عند أخذها) المهانة ضد الكرامة، والله تعالى أهان أهل الكفر، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، وهذا نصٌّ في كتاب الله عز وجل، خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: من أهانه الله فلا تكرموه، ولذلك حرم إكرام الكفار وتبجيلهم وتعظيمهم، على الأصول المقررة في التعامل مع الكفار؛ لأن الله أهانهم بالكفر، وهذه الإهانة موضوعة موضعها، فلا كرامة للإنسان إلا بالإسلام.
فقوله: (يُمْتَهنون عند أخذها) لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وينبغي أن يُعلم أن الإسلام دين الله عز وجل الذي ينبغي أن تُعْلَى كلمتُه، ويُرْفَع منارُه، ويُعَزَّ شأنُه، ولا يجوز أن يُقْرَن به غيرُه، كائناً ما كان ذلك الدين، بل كل ما عداه دونه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه).
فمن مقاصد الإسلام أنه إذا قُبِلت الجزية من أهل الكتاب، فينبغي أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا ينبغي أن يسوَّوا بالمسلمين ولا أن يفضَّلوا عليهم، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله.
فقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] هذا نص، وهذا النص ورد في كتاب الله مطلقاً كما يقول الفقهاء والعلماء، وينبغي على طالب العلم أن يتأمل ذلك، فإن الله عز وجل قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فجملة: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) حالية أي: والحال أنهم في صغار، فنصَّ كتابُ الله على أن إعطاءهم يكون بهيئة تدل على ذلهم وصغارهم، فإذا كان صغارهم بإطالة الوقوف، فهو من شرع الله؛ لأن هذا منصوص عليه على وجه العموم، وترك الله الخيار لولي الأمر أن يمتهنهم بالصيغة التي يراها؛ لكن بطريقة لا تفضي إلى استباحة دمائهم ولا أعراضهم، فإذا أوقفناهم عند إعطاء الجزية، أو جاء يعطي الجزية فتشاغلت عنه، فهذا له مقاصد، ذكرها العلماء رحمهم الله وأشاروا إليها، وهو أنه إذا جاء يدفع المال لك، فإنك تشعره أنه لا يشتريك بهذا المال، وأنك لا تريد هذا المال منه، وأنه أعز من المال الذي يبذله، فلما جاء نص القرآن: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] دل على أنه ينبغي أن تكون الحالة والهيئة، دالة أن هذا ليس لطمع أو رغبة في ماله، حتى يعطي المال كما يعطيه المستأجر لمن يؤجر له؛ لأنه لو لم يكن بذلةٍ وصغار لصار كأنه يشتري المسلم، وكأنه يتعاقد مع المسلم على إجارة، أي: أنك تحميني وتصونني بهذا المال، لكن الله قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، أي: الحال أنهم في صغار وذلة، ثم ترك الله الصغار بالخيار، ولذلك يقول العلماء: إن هذا من المطلق المقصود، أي: أنه ترك إلى اجتهاد الحاكم، فعندما نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون في كتبهم على ألوان من الصغار لهم، فإن هذا كله راجع إلى الاجتهاد والتقدير، وليس لأحد أن يتعقَّد في ذلك، كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين فيقولون: إن هذا من الاجتهادات القديمة أو كذا، فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا له أصل في كتاب الله عز وجل، وله مقصد شرعي، وكان العلماء في القديم يقصدون من هذا تحقيق النص المطلق في قوله سبحانه وتعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فقال رحمه الله: (يُمْتَهنون عند أخذها) أي: لا تؤخذ منهم بكرامة.
يقول بعض أهل العلم: ومن الامتهان عند أخذها: أنه إذا جاء يدفعها إلى المسلم فلا ترتفع يده، أي: لا يعطيها بيدٍ عالية؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وإنما يعطيها بطريقة لا تُشْعِر بالكرامة، ومن هنا نص المصنف على كلمة: (وتُجَرُّ أيديهم) فما معنى (تُجَرُّ أيديهم)؟ فَهِم البعض أن معنى تُجَرَّ أيديهم أي: حتى تُخْلَع.
ولا يقول أحد من أهل العلم أنها تُخْلَع أبداً.
وإنما (تُجَرُّ أيديهم) لها معنى ومغزى دقيق، وهو أنك إذا جاء الكافر ليعطي الجزية بيده، فأخذت يده أثناء الإعطاء أشعرته بأنه ملك لك، وأن هذا الذي في يده مستحق تحت القهر والذلة، وهذا نوع من الإشعار بأنه لا منة له على المسلمين، وليس المراد بـ (تُجَرُّ أيديهم) أنهم يجرون كما تُجَر الدواب، لا.
بل تُجَرُّ أيديهم -كما ذكر العلماء- لمعنى مقصود، وهو أنه قد يأتي يستفضل على المسلمين بإعطاء المال، فإذا جاء يرفع يده أرخيت يدُه، ثم إذا جاء يعطيها تمسك يده، كأنك تقول له: مالُك وما في يدك ملك لي، ثم لا يأخذها مباشرة، وإنما يمسكها بما يشعر بالذلة والصغار حين تؤخذ.
إذاً: معنى: (تُجَرُّ أيديهم)، أي: أنهم يُشْعَرون بأنهم بهذا لا فضل لهم على الإسلام والمسلمين، وإنما المنة والفضل لله ولرسوله وللمؤمنين.
والله تعالى أعلم
**الأسئلة
**أحكام أهل البلاد المفتوحة عنوة
**السؤال
إذا فتح المسلمون بلداً بها أهل كتاب ومشركون، فكيف يكون العمل؟
**الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالديار لها حكمان: الحكم الأول: ما يسمى بالفتح عنوة.
الحكم الثاني: ما يكون صلحاً.
فأما ما فتح عنوة -كما ورد في السؤال- فإنه يجوز أن يصالِح الإمام أو نائبه من في هذه الديار على دفع الجزية، وهذا يكون أشمل بالمؤقت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فقد فتحها عنوة، ثم صالح أهلها على أن يساقوا الزرع ويكون لهم شطر ما يخرج منها، أما بالنسبة للوثنيين في هذه الحالة، فيخيرون بين أمرين: إما أن يسلموا.
وإما أن تضرب رقابهم.
وللإمام أن يضرب عليهم الرق على حسب ما يرى المصلحة فيه؛ لأنهم يكونون في حكم الأسرى، فيجتهد، فإن رأى مصلحة المسلمين في الفداء فادى، وإن رأى مصلحة المسلمين في استرقاقهم استرقهم، وإن شاء ضرب رقابهم فعل، حتى يخوف أعداء الإسلام {فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] إذاً: يخير الإمام وينظر فيهم إذا كان الفتح عنوة، ويكون هذا راجعاً إلى اجتهاد الإمام بما يرى فيه مصلحة المسلمين.
والله تعالى أعلم
**أقسام الشهداء وأحكامهم
**السؤال
ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الغريق شهيد، وأن المطعون والمبطون شهيد) ولكن هل يأخذ حكم الشهيد في تغسيله وتكفينه؟ أم ما المقصود بالحديث؟
**الجواب
الشهادة تنقسم إلى قسمين: الشهادة الخاصة بشهيد المعركة.
والشهادة بالمعنى العام الذي وردت به النصوص، كالمبطون، والغرقى، والهدمى، والنفساء، وصاحب الطاعون، وصاحب ذات الجنب، ونحوهم ممن ورد الخبر فيهم.
وشهيد المعركة ينقسم أيضاً إلى قسمين والأفضل منهما شهيد البحر فهو أفضل من شهيد البر، في قول طائفة من العلماء لحديث أم حرام بنت ملحان في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها وفيه: قالت: فاستيقظ وهو يتبسم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما بك؟ فقال: أناس من أمتي ملوك على الأسرَّة أو كالملوك على الأسرة، يغزون ثبج هذا البحر، فقلت: يا رسول الله! ما أضحكك؟ فذكر لها ذلك، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم) ثم إنها ركبت البحر رضي الله عنها وأرضاها في خلافة عثمان، ولما نزلت إلى شاطئ البحر، وَقَصَتْها دابتُها، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة للشهادة بالمعنى العام: الغرقى، والهدمى، والحرقى، والمبطون، والنفساء، فهؤلاء لهم منزلة الشهيد، والشهداء لهم منازل، وأعلى منزلة للشهيد: الفردوس، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وذلك يوم أحد، حين استشهد عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غيرها كان لي شأن، فقال صلى الله عليه وسلم: يا جابر إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها)، وهذا يدل على أن من الشهادة ما يصيب الإنسان بها الفردوس الأعلى من الجنة.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا إياه بفضله وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
فهذا أعلى مراتب الشهادة، إذا كان شهيد المعركة.
أما بالنسبة للشهداء: المبطون، والغرقى، والحرقى، فهؤلاء لا يعاملون معاملة الشهيد من حيث التغسيل والتكفين؛ إلا الحرقى، فالمحروق لا يغسَّل؛ لأن التغسيل يضرُّه ويؤثر على لحمه وما تبقى من حرقه، ولذلك يُجمع بحالته، ويرى بعض العلماء أنه يُيَمَّم، ويأخذ حكم من عجز عن استعمال الماء، حيث إنه لما كان الواجب تغسيله وعُجِز عن تغسيله فإنه يُيَمَّم، ومثله مَن به مرض مُعْدٍ كالجدري ونحوه، فإنه إذا جاء يغسله الغير تضرر، فحينئذ هؤلاء لا يغسلون إذا قال أهل الخبرة: إن تغسيلهم فيه ضرر، أو أن مَن به جدري، إذا جاء يغسل فإنه ينتفخ، أو مَن به حساسية شديدة بحيث لو غُسِّل ينتفخ جلده، فهؤلاء كلهم لا يغسَّلون.
فالشاهد أن الحرقى لا يغسلون لعلةٍ أخرى، وليست لعلة الشهادة.
وأما بالنسبة للهدمى والغرقى وغيرهم ممن ذكرنا، فهؤلاء حكمهم حكم الشهداء من حيث الفضل؛ لكن من حيث الأحكام الشرعية من عدم تغسيلهم وتلفيفهم في ثيابهم فهذا يختص بشهيد المعركة، حتى لو أن إنساناً دخل في معركة وقاتل وجرح، ثم خرج من المعركة، ثم مات بعد ذلك، فإنه يغسَّل ويكفَّن، ولذلك اختص الحكم بمن قتل على أرض المعركة، وأما من لم يقتل على أرض المعركة، فإنه يفعل به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـ سعد رضي الله عنه وأرضاه، حينما رمي في أكحله فانفجر عرقه ومات رضي الله عنه، وهذا يدل على أن أحكام الشهيد تختص بشهيد المعركة.
والله تعالى أعلم
**فضل العين التي تغض عن محارم الله
**السؤال
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية يوم القيامة، واستثنى منها عيناً غضت عن محارم الله) فمن قارف ذنباً ثم تاب إلى الله فهل يحصل له هذا الفضل؟ وهلا تفضلتم بوصية حول هذا الأمر؟
**الجواب
هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله)، والعين إذا غضت عن محارم الله، فإنما غضت بتوفيق الله عز وجل، وبقوة الإيمان في القلب، فلا يغض عما حرم الله عز وجل إلا المؤمن، وغَضُّ البصر عن محارم الله كمال في الإيمان ودليل على خشية الله سبحانه وتعالى، خاصةً إذا كان الإنسان لا يراه أحد، ويستطيع أن يرى إلى الحرام، ويستمتع به، فيخاف الله عز وجل، ويغض، فإن الله سبحانه وتعالى يُنِيْلُه هذا الفضل.
واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (كل العيون باكية أو دامعة) قيل: المراد بذلك أن هذه العين لا يمكن أن يصيبها سوءٌ حتى تدخل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين) فمعناه: أنها لا تحزن، وإذا كانت لا تحزن فمعنى ذلك: أنها لا يصيبها سبب الحزن وسبب البكاء، وهو العذاب، فدل هذا على أنها تُؤمَّن إلى دخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وكأنه يشير بهذا إلى قوة الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة، أي: غَض البصر عن محارم الله، بحيث لا تقع عينه عليها، فإن هذا لا يكون إلا بقوةٍ إيمانه، والغالب أن من بلغ هذه الدرجة أنه يكون من السعداء الذين يدخلون الجنة.
وقال بعض العلماء: (كل العيون باكية) إن عرصات يوم القيامة مختلفة، فهناك عرصات تأتي فيها أنواع من العذاب والبلايا، كما في طول الموقف، وانتظار الحساب، وكثرة العرق، وذهابه في الأرض سبعين ذراعاً من طول موقف الناس يوم القيامة في عرصاتها، ومن هذه المواقف موقف البكاء، وهذا الموقف يحفظ الله عز وجل صاحب هذه العين من البكاء فيه، فلا تحزن عينه ولا تبكي في هذه العرصة من عرصات يوم القيامة، وفي هذا الحديث دليل على فضل الطاعة بالعين.
فإن الإنسان كما يطيع الله عز وجل بيده: - فينفق بها في سبيل الله.
- ويضرب بها في الجهاد في سبيل الله.
- ويكتب بها في طاعة الله.
ويطيع الله عز وجل بقدمه: - بخروجه إلى المساجد.
- وصلة الأرحام.
- وعيادة المريض.
- وتشييع الجنائز.
ويتعبد الله عز وجل بقلبه: - بوجود الإيمان.
- ومحبة الله.
- وخشيته.
- والخوف منه.
- واعتقاد ما يجب اعتقاده.
- والإيمان به.
كذلك يتقرب إلى الله بعينه.
فالعين لها طاعة، ومن طاعتها: - أنها تبكي من خشية الله.
- وأنها تغض عن محارم الله.
- وأنها تسهر في طاعة الله عز وجل، وفي سبيله.
فدل هذا الحديث على طاعة العين، وأنها: - تكون بالبكاء.
- وتكون كذلك بالسهر على طاعة الله.
- وقيل: على الجهاد في سبيل الله، كسهر عين المرابط وهو يحرس الثغر.
ومن أهل العلم من يرى في قوله عليه الصلاة والسلام: (وعين سهرت في سبيل الله) أنها شاملة لكل عين، فمن سهر وهو يتلو كتاب الله، أو سهر على طلب العلم وكتابته والجد والاجتهاد فيه، فإنه ينال هذا الفضل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا طاعته، وأن يوفقنا لمرضاته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه