شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (182)
صـــــ(1) إلى صــ(17)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [1]
الحبوب والثمار من الأصناف التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة، ولها نصاب معلوم، وتجب عند الحصاد، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بهذا الباب ذكرها الشيخ في هذه المادة.
وجوب زكاة الحبوب والثمار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب: زكاة الحبوب والثمار] هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لبيان الأحكام المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار.
والحبوب والثمار من الأنواع التي أوجب الله عز وجل زكاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141] فأمر سبحانه وتعالى بإعطاء الحق وهو الزكاة يوم الحصاد، أي: حصاد الزروع والثمار، ويكون ذلك بضوابط بينتها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصّل العلماء رحمهم الله أحكامها.
وزكاة الزروع والثمار أجمع العلماء رحمهم الله عليها، فهي من الأنواع المتفق عليها؛ لدلالة الكتاب والسنة في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الزروع والثمار من جنس ما يزكّى.
وقوله رحمه الله: (باب زكاة الزروع والثمار) أي: في هذا الموضع، سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا النوع من أنواع الزكاة.
والحبوب: تشمل البر والشعير والأرز والدخن والفاصوليا واللوبيا والعدس ونحوها من الحبوب، والثمار مثل التمر من النخل ونحو ذلك مما يخرج من الأصول الثابتة.
والعلماء رحمهم الله يعبِّرون بهذا التعبير مراعاة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، في قوله: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وإنما تكال الحبوب وكذلك تكال الثمار، فخرج بقية المزروعات كالخضروات والفواكه التي لا تكال، فإنها لا تدخل في هذا الباب، وسيبين المصنف رحمه الله هذه المسألة عند بيانه للأنواع التي تجب زكاتها من الزروع والثمار.
الحبوب التي تجب فيها الزكاة
يقول المصنف رحمه الله: [تجب في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً].
(تجب في الحبوب كلها) ؛ لأنها من جنس ما يكال، ولأنها تكون أقواتاً على التعليل بالقوت والكيل، والتعليل بالكيل أقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وهو حديث في الصحيحين، فكأنه بيّن لنا في هذا الحديث أن الزكوات في الحبوب إنما تجب فيما يُكال، وأما ما لا يكال فإنه لا تجب فيه الزكاة.
وبالنسبة لقوله رحمه الله: (في الحبوب كلها) تشمل البر والشعير، وما عرف في زماننا كالأرز وغيره؛ فالحبوب كلها تجب زكاتها إذا بلغت النصاب المعتبر وهو خمسة أوسق.
(ولو لم تكن قوتاً) اختلف العلماء رحمهم الله، هل يشترط في الحبوب أن تكون قوتاً أو لا يشترط؟ فيقع الخلاف إذا كانت الحبوب من جنس البهارات التي لا يقتات بها، وإنما يستصلح بها القوت، وكذلك ما يُتداوى به، فالذين يقولون أنه يشترط فيها أن تكون قوتاً كالأرز والبر والشعير فإنهم يوجبون الزكاة فيها دون ما لا يقتات كالحبة الخضراء -وسيذكر المصنف رحمه الله أنواعاً مما لا يعتبر من الأقوات- فبعض العلماء يمثِّل له بالحبة الخضراء وبذر القطن ونحو ذلك من الحبوب التي لا يقتات بها الناس، ولو كانت من جنس ما يستصلح به القوت كحبوب البهارات ونحوها، فهذه كلها لا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب الزكاة فيما يُقتات على القول الذي ذكرناه باشتراط القوت، والمصنِّف هنا لم يشترط القوت التفاتاً إلى الحديث الصحيح: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات.
الثمار التي تجب فيها الزكاة
[وفي كل ثمر يُكال ويدّخر].
مثل التمر، فإن تمر النخيل يكال ويدَّخر، ولذلك يرتفق الناس به الحول كله، فهو من جنس ما يُكال ويُدخر، فاشترط رحمه الله فيه الكيل مع الادخار، ومن أهل العلم من قيّد العلة بالكيل ولم يلتفت إلى الادخار، وهو أقوى على ظاهر الحديث الذي ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات، ولا الادخار.
[كتمر وزبيب].
فالتمر يكون من النخيل، والزبيب يكون من العنب من الزروع، فمثّل بهذين المثالين لأنهما من جنس ما يُقتات ويُدَّخر، وعلى هذا فإن ظاهر كلام المصنف أنه إذا لم يكن مدّخراً، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
أما ما لا يُكال -مثل البرتقال والتفاح والموز والبطيخ- فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أوجب الزكاة في الزروع والثمار قيّدها بالخمسة أوسق، فكأنه يقيدها بما يُكال، والبرتقال لا يكال، وينبغي أن يُنبّه على مسألة مهمة: وهو أنه اشتُهر في زماننا هذا الكيلو غرام، فيفهم البعض أننا إذا قلنا: لا يكال أي: لا يوزن، الكيلو غرام من جنس ما يوزن، وتوضيحاً لذلك نقول: إن الشيء إذا بِيع إما أن يباع بالكيل أو يباع بالوزن أو يباع بالعدد أو يباع بالذرع، وقد يباع جزافاً، وهذه الأشياء كلها: الكيل، والوزن، والذرع، والعدد، تقديرات للمبيعات؛ فما يباع كيلاً مثل بيع التمر بالصاع وبالمد، فهذا من جنس ما يُكال، وفي حكم المكيلات ما يوجد في زماننا من بيع الحليب باللتر، فهذا يكال، فيعتبر من جنس المكيلات، والكيل يرجع إلى حجم الشيء والوزن يرجع إلى ثقله.
والضبط بالوزن أدق من الضبط بالكيل، أي: من جهة تحرير الشيء، فالوزن من أمثلته الكيلو غرامات الموجودة الآن.
فالشيء إما أن يباع كيلاً أو يباع وزناً أو يباع عدداً كالبطيخ، تقول: بكم هذه الحبة؟ وكذلك السيارات فإنك لا تكيلها ولا تزنها، وإنما تنظر إلى أعدادها.
ونمثل بالأشياء الموجودة حتى يكون الضبط أبلغ، وإلا ففي القديم يقولون: كالإبل والبقر والغنم، هذه معدودات، فإن الإبل لا تباع وزناً ولا تباع كيلاً وإنما تباع بالعدد، فتقول: بكم هذه الناقة؟ أريد ناقة ناقتين ثلاثاً أربعاً فيرجع في بيعها إلى الأعداد، كذلك في زماننا هذا السيارات تعتبر معدودة.
وأما المذروع فيشمل الأقمشة، وأيضاً يكون في العقارات مثل بيع الأرض، كل ذلك يعتبر من المذروعات، والذرع يكون لتقدير الأطوال والمساحات.
فإذا باع الإنسان إما أن يبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً، فالشيء إذا كان من جنس ما يكال وجبت فيه الزكاة إذا كان من الزروع والثمار، وأما إذا كان يباع بالعدد أو بالوزن مثل البرتقال، فإنه يباع بالعدد فتبيعه بالحبة، وتبيعه بالوزن، تقول: أعطني كيلو غراماً، فلا تبيعه كيلاً، وإنما تبيعه إما وزناً وإما عدداً، فهذا ليس من جنس ما تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد للزروع والثمار نصابها بخمسة أوسق، فكأنه نبه حينما قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق ) أنه إذا لم يكن مكيلاً أنه لا زكاة فيه، فلو سألك سائل وقال: عندي أرض أزرعها بكراث أو فجل أو نحو ذلك من البقول والخضروات؟ فلتقل: هذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها ليست من جنس المكيلات، وإنما هي إما من جنس المعدودات أو من جنس الموزونات، وعلى هذا لا تجب فيها الزكاة، ومثلها ما كان من هذا النوع من الزروع.
وكذلك ما كان يباع بالوزن كالبرتقال والتفاح والموز، فهذا لا تجب فيه زكاة، فلو سألك إنسان عن أرض يزرع فيها التفاح والبرتقال أو الليمون أو نحو ذلك مما لا يكال، فلتقل: هذا لا تجب زكاته؛ لأن الزكاة مخصوصة بما يكال.
نصاب زكاة الزروع والثمار
قال رحمه الله: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطلٍ عراقي].
أجمع العلماء رحمة الله عليهم أن للحبوب والثمار نصاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في الحديث الصحيح عنه بقوله: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) فهو صلوات الله وسلامه عليه يبيّن أن الخمسة الأوسق هي نصاب الزروع والثمار، فما بلغ الخمسة وزاد عليها تجب فيه الزكاة، وما كان دون ذلك فإنه لا زكاة فيه، وعلى هذا فقد رتب المصنف الأفكار، فابتدأ رحمه الله ببيان النوع الذي تجب زكاته من الزروع والثمار، وهو ما يكال، على التفصيل الذي ذكره من جهة الاقتيات والادخار واشتراط كلٍّ أو عدمه، وبعد أن بيّن لك أنه من جنس ما يكال شرع في بيان الحد الآن عرفت النوع الذي تجب زكاته، فورد
السؤال
ما هو الحد الشرعي الذي يطالب المكلف بالزكاة إن بلغ ما يملكه من الحبوب والزروع والثمار مبلغه؟
تقول: هو خمسة أوسق، فإن زكاة الحبوب والثمار محدودة بهذا الحد، فلا نقول لكل من ملك حبوباً وثماراً: زك ما عندك، وإنما ننظر في الذي يخرج من زرعه، فإن بلغ الخمسة الأوسق أوجبنا عليه الزكاة، ولو نقص عنها ولو يسيراً لم تجب عليه الزكاة، فلو كان عنده أربعة أوسق فقط، لم تجب عليه الزكاة.
والوسق: ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد، والمد هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فعندنا صاع، وعندنا مد، فالصاع النبوي الذي كان في زمانه عليه الصلاة والسلام يسع أربعة أمداد، والمد هو ملء الكفين المتوسطتين -يعني: ليستا بكبيرة ولا صغيرة، وإنما الكف المتوسطة- لا مقبوضتين لأنه يقل المحمول، ولا مبسوطتين لأنه ينتشر، وإنما يكون بالوسط، فهذا القدر إذا وضعته يعادل المد، فإذا عادل المد فإن أربعة منه تعادل الصاع.
وهذا القدر الذي ذكرنا أنه المد هو الذي كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام بقدره كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ( كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع ) الصاع: أربعة أمداد، فيصبح المد هو ربع الصاع، فإذا قيل لك: ربع صاع أو قيل لك: مد نبوي فالمعنى واحد، ولا يزال الصاع موجوداً إلى زماننا هذا في المدينة يتوارثه الأصاغر عن الأكابر ويعتبر حجّة، ويحرّر فتأخذ الصاع من الصناع ثم تذهب إلى إنسان أخذ صاعه عن إنسان حرّره عن طريق أهل الخبرة، وبهذا تعلم القدر الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكال به من هذا الجنس من المكيلات.
فستون صاعاً من هذا الصاع النبوي تعادل الوسق، فالخمسة أوسق تساوي ثلاثمائة صاع، فقدر ثلاثمائة صاع هو الذي أوجب الله فيه الزكاة؛ فلو كان يملك مائتين وتسعين صاعاً أو مائتين وتسعة وتسعين صاعاً لم تجب عليه الزكاة حتى يبلغ هذا القدر بعد تصفيته وحصاده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والأصل في هذا التحديد السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه يرجع فيه إلى الكيل، وقد كان الوزن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبر الوزن، وننبه على أن المكيلات لا تضبط بالوزن، فالتمر لا يمكن أن تضبطه بالوزن، توضيح ذلك: لو أخذت صاعاً من تمر العجوة مثلاً وأخذت صاعاً من تمر الصفا -وهو نوع آخر- أو تمر الحلوة أو الربيعة، فإنك لا يمكن أن تجدهما في وزن واحد، فإن العجوة أثقل من الحلوة، والحلوة أخف، ولو أخذت نوعاً ثالثاً كالعنبر، فإنك تجده أخف من الحلوة؛ فلو جئنا نقول: الصاع يعادل أربعة كيلو غرام، فهل يعادل من العجوة، أو يعادل من العنبر، أو يعادل من الحلوة؟ ولذلك قالوا: إنه لا يجوز بيع المكيل بالوزن؛ لأنه إذا بيع بالوزن لم تتحقق المماثلة التي اشترطها النبي صلى الله عليه وسلم في الربويات كما سيأتينا إن شاء الله في كتاب البيوع، وقد نبّه على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني وغيره من الأئمة أن المكيلات لا تضبط بالوزن؛ لأن المكيلات العبرة فيها بالحجم، فقد يكون حجمها كبيراً وتسع فراغاً من الصاع بحيث لو وزنتها يكون وزنها خفيفاً، وقد تجد منها ما هو صغير الحجم ثقيل الوزن، فالعجوة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، والعنبر كبير الحجم خفيف الوزن، ولذلك لا ينضبط فيها الوزن.
ثم إذا جئت تضبط الحبوب بالوزن تجد أنها يختلف بعضها مع بعض من حيث الجودة والرداءة، ولذلك تجدهم إذا ضبطوها بالوزن قالوا: كذا كذا (كيلو غرام) من البر الجيد أو من الشعير الجيد، والجودة أمير غير مستقر ؛ فقد يكون جيداً في نظرك وليس جيداً في نظري، وقد يكون جيداً في عرف بلد ولكنه ليس بجيد في عرف بلد آخر، فالمكيلات لا تضبط بالوزن، ولذلك يحرِّر العلماء المكيلات بالكيل؛ لأن الشرع قصد الكيل فيها، وأما الموزونات فإنها تضبط بالوزن، وبناءً على ذلك لا تضبط الزكوات بالكيلو غرام، وإنما تضبط بالصاع، وإذا قلنا بلزوم ضبطها بالآصُع، وأكدنا على ضرورة ذلك ينبغي على طالب العلم أن يعلم، فإن هذا فيه إحياء للسنة؛ لأن الناس أصبحت تجهل الآصُع، ففقه الفتوى وفقه الفقه أننا نبقي الناس على هذا الأمر المسنون، فإن الناس قد نسوا الصاع، حتى أنك لو قلت لرجل في فدية الحج: عليك -مثلاً- ثلاثة آصُع تطعمها ستة مساكين، لم يدر ما الصاع، فإذا قلت له بالكيلو غرامات يدري، فعلى هذا تفوت السنة وتضيع، ومن هنا لزم رد الناس إلى الأصل وإحياء السنة، وهكذا في زكاة الفطر، فلو رد الناس إلى الكيلو غرامات فإنه يأتي زمان لا يضبطون الصاع، وقد يقرأ الرجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرضية زكاة الفطر صاعاً فيقول: أي شيءٍ هذا الصاع؟! ولذلك ينبغي إحياء هذه السنة، وكان العلماء رحمة الله عليهم يقولون في حديث الصحيحين لقوله عليه الصلاة والسلام: ( اللهم بارك لنا في مُدِّنا وصاعنا ) فلا ينبغي ترك المد والصاع لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بالبركة.
فإذاً لا بد من فقه الفقه أن تبقى هذه المكيلات، وأن تُحيا حتى يربط الناس بها، ويعرف الناس بها السنة، والكفارات ونحوها مما أوجب الله عز وجل لا يمكن ضبطها إلا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُصار إلى الكيلو غرامات ما أمكن، ومن ضبطها بالوزن فله ضبطه واجتهاده، ولكن الأصل من جهة إحياء السنة وبقائها بين الناس والمعروف في نصوص العلماء أنه ينبغي التأكيد على الكيل، ولذلك إذا قيل: إنها تعادل ثلاثة كيلو غرامات ونصفاً أو أربعة على اضطراب في هذا التقدير، فإذا قيل: إنها تعادل ذلك من الحب فحينئذٍ يرد السؤال: كم تقديرها من التمر؟ لو أراد أن يخرج الزكاة من التمر، وحينئذٍ لا يمكن للناس أن يصلوا إلى حد معيّن بالوزن.
ثم انظر إلى الكيل فإن الكيل إذا جئت تضع الحب فإنه ينتشر ولا يثبت على الصاع؛ لأن الصاع يملأ حتى ينتشر ويتساقط، وهذا الانتشار يختلف؛ وذلك يؤثر في الوزن قطعاً، والذين يضبطونه بالوزن يغتفرون هذا التأثير، ويقولون: هو يسير مغتفر، ولكنه قد يكون مغتفراً لو اضطررنا إليه، وليس هناك ضرورة إلى الصيرورة إلى الوزن ما دام أن الشرع قصد الكيل.
وخلاصة الأمر: ما دام أن الشرع حد الكيل فيما يكال مع وجود الوزن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي البقاء إحياءً لهذه السنة، وعلى هذا فلا يُلتفت إلى التقدير بالكيلو غرام، وإنما يقال كما قال العلماء والأئمة رحمة الله عليهم: إن الزكاة تجب في قدر ثلاثمائة صاع نبوي، وهذا هو الحد الذي تضبط به الزكاة وهو المعتبر.
وجوب ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب
قال رحمه الله: [وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب لا جنس إلى آخر].
(وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض) فلو زرع في نصف العام حباً، ثم زرع في نصفه الثاني حباً وجئنا ننظر إلى النصف الأول وإذا به قد بلغ مائتين صاع، والنصف الثاني قد بلغ مائة صاع، فإذا نظرت إلى زرعه الأول أسقطت عنه الزكاة، وإذا نظرت إلى زرعه الثاني مجرداً أسقطت عنه الزكاة، لكن ينبغي ضمهما إلى بعضهما؛ لأنهما في حكم الزكاة الواحدة في العام الواحد، وعلى هذا فالمعتبر أن يزرع في نفس العام، لكن لو زرع مثلاً في أواخر حزيران من العام الماضي، لأن الشهور الشمسية ينضبط بها الزراعة، ولذلك يقول الفقهاء: إذا زرع في حزيران، فلو زرع حباًَ في حزيران وحصد، ثم لما كان من العام القادم زرع في حزيران حباً بحيث لو نظرنا إلى زرعه العام الماضي وزرعه السنة، كل زرع مستقل لا تجب فيه الزكاة ولو ضممناهما وجبت، نقول: لا يضم؛ لأن زرع العام منفصل عن زرع السنة، ولكل سنة زرعها، فيشترط في ضم الثمرة أن تكون في نفس العام، كذلك أيضاً في النخيل، النخل يُطلِع مرة واحدة في السنة، ولكن إذا وضع الله فيه البركة، فإنه يطلِع مرتين، وفي بعض المناطق قد يطلِع مرتين إما لرِيِّه أو لحسن جوِّه، وهذا أمر يقع في بعض المناطق، كما ذكر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم بارك له في ماله وولده ) ، وفي رواية ( أكثر ماله وولده ) فأُعطي كثرة الولد وكثرة المال، فمما ذكروا في ماله أنه كان له نخل يطلِع مرتين في العام، وهذا من غرائب ما يكون، فإن النخل يطلِع مرة واحدة في السنة كما هو معلوم.
فإذا أطلع النخل مرتين ضم طلعه الأول إلى طلعه الثاني، ثم إن النخل نفسه يختلف، فالنخل بحكمة الله عز وجل إذا جاء فصله وزمانه الذي يكون فيه نضج ثمره، فإنه يختلف في النضج فشيءٌ منه ينضج في أول الصيف، وشيءٌ منه ينضج في منتصف الصيف، وشيءٌ منه ينضج في آخر الصيف، ثم الذي ينضج في أول الصيف يأكله الناس بسراً أو يأكلونه رُطباً، وأوساط الصيف غالباً يكون رطباً، وآخر الصيف يكون تمراً، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى حتى يبين لعباده عظيم فضله عليهم وعظيم منته عليهم، فتجد الذي يؤكل في أول الصيف لا تستسيغ طعامه في منتصف الصيف، والذي يؤكل في منتصف الصيف لا تستسيغ طعامه في آخر الصيف، بل ربما يكون الإنسان قد أكل الثمرة أمس، فإذا طلع سهيل ثم جاء يأكلها اليوم يجد طعمها مختلفاً تماماً، حتى لا يجد لها النكهة التي وجدها أمس، وهذا دليل واضح على عظمة الله عز وجل، وأن لهذا الكون خالقاً سبحانه وتعالى، فمن حكمة الله عز وجل أن ثمر النخيل لا ينضج مرة واحدة وإنما ينضج متتابعاً على الترتيب، فشيءٌ في أول الزمان، وشيءٌ في أوسطه، وشيءٌ في آخره.
فبالنسبة للثمرة فإن الإنسان قد يجذ الذي يكون في أول الصيف بعد تمامه ولم ينته الصيف بعد، ثم يجذه أوسطه، ثم يجذه آخره، فيُضم كل هذه الأنواع بعضها إلى بعض، ولا تقل: إنني أعتبر كل نوع على حدة، وأعتبر النصاب ثلاثمائة صاع لكل نوع على حدة، فلو نظرت إلى نوع منه يؤكل بُسراً في أول الصيف، ونوع منه يؤكل رطباً، ونوع منه يؤكل تمراً، فلا تفصل بعضه عن بعض، وإنما تضمها لأنها ثمرة عام واحد، فترى زكاتها العام الواحد، وترى أن بعضها يُضم إلى بعض حتى يصير الجميع نصاباً فتجب فيه الزكاة أو يكون دون النصاب فلا تجب فيه الزكاة.
أصناف الحبوب والثمار لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة
قوله: [لا جنس إلى آخر].
لو كان عنده حبوب جنس البر والشعير مثلاً، فإنه لا يضم البر إلى الشعير، ولا يضم الأرز إلى البر، وإنما ينظر لكل جنسٍ على حدة، واختلف في البر والشعير، وأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أنهما نوعان منفصلان، ودلت السنة على ذلك، ففي الحديث الصحيح عن عبادة الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، وموضع الشاهد في قوله: ( إذا اختلفت هذه الأصناف ) فأجاز لنا بيع البر بالشعير متفاضلاً، بشرط أن يكون يداً بيد، وذهب بعض السلف كما هو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس ، وكان يقول به معمر بن عبد الله الصحابي، يقول: إن البر والشعير بمثابة النوع الواحد؛ لحديث معمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل ) وفسّره الراوي وهو معمر بالشعير بالبر، وجعلهما نوعاً واحداً، ولكن الصحيح أن معمر رضي الله عنه جعل البر والشعير بمثابة النوع الواحد التفاتاً للعموم في قوله: ( الطعام بالطعام ) وهذا الالتفات جاء ما يفسره ويبينه في قوله في حديث عبادة الذي ذكرناه: ( البر بالبر والشعير بالشعير ) وهو آكد وأبين في فصل كل منهما عن الآخر.
يستفاد من هذا أنه لو كان عنده مائة صاع من البر ومائتان من الشعير، فإن قلت: هما نوع واحد؛ وجبت عليه الزكاة؛ لأنهما يُضمان إلى بعضهما، وإن قلت: إنهما نوعان مختلفان، لم تجب عليه الزكاة؛ لأن البر نوع والشعير نوع، ولم يكتمل النصاب في كل نوع على حدة، هذه فائدة هل نعتبر البر والشعير نوعاً واحداً، أو نوعاً مختلفاً؟ ولا يُضم جنس إلى جنس، فلا تقل: إذا كان عنده مائة صاع من الحب أُضيفها إلى مائتي صاع من التمر، وإنما ينظر إلى التمر على حدة وإلى الحب على حدة، والتمر نفسه أنواع بمثابة الجنس الواحد، فلو كان عنده الحلوة والعجوة والصفاوي كل واحد منها مائة صاع، فإنك تقول: أعتبرها نوعاً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والتمر بالتمر ) ولم يفصِّل، فدل على أن التمور كلها بأنواعها بمثابة النوع الواحد، بناءً على ذلك لو كان عنده مائة صاع تمراً من نوعٍ من أنواع التمور وعنده نوع ثان مائة صاع، ومن نوع ثالث مائة صاع، وجبت عليه فيها الزكاة، لأنها بمثابة النوع الواحد.
يتبع