تأملات فقهية وأصولية في صلاة التراويح


الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ


عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع أهله وأصحابه وقال: «إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة». رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في (صحيح إرواء الغليل) رقم (447)، في لفظ: قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة».
سبب ورود الحديث
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ، وَقَامَ بِنَا فِي الخَامِسَةِ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنَ الشَّهْرِ، وَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ، وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الفَلَاحَ، قُلْتُ لَهُ: وَمَا الفَلَاحُ»؟ قال السحور.
مقاصد الحديث وفوائده المستنبطة
- الحديث ورد في باب قيام شهر رمضان وبيان فضله وثواب قيامه.
- الحديث يدل على أن قيام الليل في رمضان جماعة أفضل من قيامه فرادى؛ وعلى هذا يكون دليلاً للجمهور على أن صلاة التراويح مع الإمام أفضل من الانفراد؛ وأن الأصل في قيام الليل في رمضان أن يكون جماعة؛ خلاف ما قد يظن.
- قيام بعض العبادة مقام بعض؛ فجعل أجر قيام ليلة كاملة يتحصل ببعض القيام على هيئة مخصوصة.
- أن الحديث ورد في فضل الصلاة التي يمكن الانصراف عنها؛ لهذا حملها شراح الحديث على صلاة التراويح؛ فقد نقل المناوي في فيض القدير عن بعض العلماء: «قال يشبه اختصاص هذا الفضل بقيام رمضان لأنه ذكر الصلاة مع الإمام ثم أتى بحرف يدل على الغاية فدل على أن هذا الفضل إنما يأتي إذا اجتمعوا في صلوات يقتدى بالإمام فيها وهذا لا يأتي في الفرائض المؤداة».
- وهذا يدل على الأفضلية في العمل والاقتداء تكون في الحفاظ على صلاة التراويح مع الإمام؛ فهذه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم -، وسنة الخلفاء الراشدين، وسنة المسلمين؛ كما يقول الإمام أحمد رحمه الله.
- من صلى التراويح مع الإمام بعد العشاء يكون قد نال ثواب قيام ليلة كاملة من جهتين: أنه صلى العشاء جماعة مع الإمام، ومن جهة أنه صلى القيام مع الإمام حتى ينصرف.
- يقول الملا علي القاري في شرحه على الحديث: «أن من صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام أي بالجماعة يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ههنا: إنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. قيل: ويؤيد ذلك رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: «من قام مع الإمام» بدل «إذا صلى مع الإمام»، فإن لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي التراويح، ويؤيده أيضاً أن أبا ذر سأله -صلى الله عليه وسلم - أن ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام بقية الليلة؛ لأن ثواب الليلة التامة قد حصل بالقدر الذي قام بهم، ويؤيده أيضاً أن قوله: «حتى ينصرف» فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من جميع صلاته ممكن، ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛ لأنه لا يحصل إلا بعد ما ينصرف الإمام، بخلاف التراويح فإن الانصراف فيها قبل انصراف الإمام ممكن؛ لأنها شفعات متعددة فيمكن أن ينصرف الرجل قبل أن يفرغ الإمام من جميع صلاة التراويح».
- انصراف النبي -صلى الله عليه وسلم - من الصلاة يقع تارة بالإنصراف من المحل، ويقع تارة بمجرد التسليم من الصلاة، ويقع تارة ثالثة بترك التوجه نحو القبلة والالتفات إلى المصلين؛ والسنة في الانصراف من الصلاة في قيام الليل أن الإمام يجلس بعد تسليمه قريباً من قدر ركوعه أو سجوده أو جلوسه بين السجدتين، ثم ينصرف بعد ذلك؛ لحديث البراء بن عازب: «رمقت صلاة لنبي -صلى الله عليه وسلم - فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء». يعني: أنه لم يكن يثبت ساعة ما يسلم، بل كان يجلس بعد السلام جلسة قريبة من السجود.
- لكن هذا على الاستحباب؛ إذ الانصراف يحصل بمجرد التسليم من الصلاة؛ لهذا قال الشافعي رحمه الله في (الأم): وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وإن أخر ذلك حتى ينصرف بعد الإمام أو معه كان ذلك أحب إلي.
- يستفاد من هذا الحديث أن تشريع قيام الليل في رمضان للكافة مبنيٌّ على التيسير ورفع الحرج ومراعاة الحال؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- طلبوا الزيادة والإطالة في قيام الليل في رمضان؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم - حملهم على اليسير الكثير الثواب.
- وفي الحديث فائدة أن الثواب على قدر المتابعة والاقتداء والملازمة للطاعة والصبر عليها؛ وهذه قاعدة عظيمة أن العمل قد يفضل على غيره بالنوع لا بالكم.
- حصول الثواب للمأموم وهو أجر ليلة كاملة منوط بشرطين:
الشرط الأول: متابعة الإمام والاستمرار معه في الصلاة.
الشرط الثاني: ألا ينصرف المأموم حتى ينصرف الإمام؛ فعلق الحكم على الغاية بحرف (حتى)؛ لبيان أن المأموم إذا انصرف قبل الإمام فلا يكون له أجر قيام ليلة كاملة؛ فتوقف الأجر على عدم الانصرف.
- ويدل الحديث على جواز الانصراف من قيام الليل؛ لكن المنصرف يكون قد ترك فضيلةً ولم يرتكب حراماً.
- وجود النيابة لا تزيل الفضيلة؛ فلو صلى الإمام مأموما لا حرج عليه ما دام أنه لم ينصرف من الصلاة؛ إذ الغاية قد حددت بعدم الإنصراف.
- من مقاصد صلاة التراويح اجتماع الناس عليها وعدم الانصراف عنها.
- لم يذكر الحديث وقتا معينا للقيام؛ ففي أي وقت صلى المأموم مع الإمام صلاة التراويح فينال الفضل، يقول الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه على الحديث: «قال النووي: التحقيق أن صلاة التراويح محصلة لفضيلة قيام رمضان، ولا تنحصر الفضيلة فيها ولا يتعين لها وقت، بل أي وقت من الليل صلى تطوعاً حصل له هذا الفضل من الله تعالى»
- يدخل في هذا الفضل العامي والعالم، والعابد وغير العابد؛ إذ لم يعلق الحديث نيل هذا الأجر على أكثر من مجرد الاقتداء بالإمام وعدم الانصراف عنه.
- قال ابن عبد البر: وهذا كله يدل على أن قيام رمضان جائز أن يضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - لحضه عليه وعمله به، وأن عمر إنما سن منه ما قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- وهذا يدل على أن مشروعية صلاة التراويح جماعة ثابتة في السنة وليس مجرد فعل الخلفاء؛ كما يقول بعض أهل العلم.
- وفي الحديث فائدة: أن إكمال المستحب بعد الشروع فيه خير من الترك؛ وقد يضعاف الأجر ليس على الفعل بل على عدم الإنصراف عنه بعد الدخول فيه؛ لهذا كانت الغاية في عدم الانصراف.
- أن هذا الحديث جاء مكملا لحديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه».
- فلما كان فضل قيام رمضان عظيما؛ فذكرت الشريعة من الأسباب المعينة على ذلك، ومنها أن العبد إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة؛ فحصل مقصود القيام الكامل ببعض الليل لا بجميعه.
- أن ثمرة الطاعات ومنها قيام الليل لا تظهر إلا بالامتثال وتحري مواضع الأجر والثواب.
- العبادات تتفاضل بحسب الأوقات والأزمنة؛ فالأفضل في قيام الليل في رمضان أن يكون جماعة وفي غير رمضان يكون على الانفراد.
- أن هذه الفضيلة يشترك فيها الرجال والنساء؛ فصلاة المرأة مع الإمام حتى ينصرف تعدل قيام ليلة كاملة.