رابطة الإيمان قبل رابطة الزواج
الشيخ : أحمد النعسان
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد, فيا عباد الله:
كلُّنا يعلم بأن الأسرة هي النواة الأولى لبناء المجتمع, وأنها الأمل المنشود التي يتطلع إليها المجتمع, وبصلاحها صلاح المجتمع وبفسادها فساد المجتمع, بها يتكامل المجتمع ويولد الأمل, ومنها يحدث الثقب في سفينة المجتمع.
وهناك أسباب تؤدي إلى الخلاف بين الزوجين, أو تؤدي إلى تصدُّع الحياة الزوجية وتهديم هذه اللَّبِنة التي هي في جدار المجتمع وصرحه.
وقد يشتد الخلاف حتى يصل إلى الطلاق, فما هو مصير هذه العلاقة بين الزوجين؟ وما هو مصير الأبناء كذلك؟
الأمر الأول: رابطة الإيمان قبل رابطة الزواج:
أيها الإخوة الكرام: قبل أن أتحدث عن الأسباب التي تؤدي إلى الخلاف بين الزوجين وإلى تصدُّع الحياة الزوجية, فإني أود أن ألفت النظر بدايةً إلى أمرين, الأمر الأول: أن رابطة الزواج التي تربط بين الرجل والمرأة والتي أسماها مولانا عز وجل بالميثاق الغليظ, قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}. هذه الرابطة ليست هي الرابطة الأولى بين الزوجين.
فهناك قبل هذه الرابطة رابطة أخرى هي رابطة الإسلام والإيمان, وهذه الرابطة هي بجعل الله تعالى وباختياره, قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. وهذه الرابطة لا يمكن للمؤمن أن يتبرَّأ منها, أو يتنكر لها, ولا يمكن الخروج عنها.
أما الرابطة الزوجية فهي باختيار الزوجين, وربما تنحل عرى هذه الرابطة ـ لا قدَّر الله تعالى ـ.
حقوق رابطة الإيمان:
أيها الإخوة الكرام: إن رابطة الإيمان لها حقوق كما أن رابطة الزواج لها حقوق, ومن أهم حقوق رابطة الإيمان:
أولاً: عدم الظلم لأخيك المؤمن:
الظلم ظلمات, وحذَّر الله تعالى من الظلم بقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار}. وبقوله تعالى في الحديث القدسي: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تعالى أنه قال: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا) رواه مسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ, التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ, بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ, كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ثانياً: وجوب إصلاح ذات البين:
ومن حقوق المؤمنين بسبب بركة هذه الرابطة وجوب إصلاح ذات البين قال تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}. وقال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
ثالثاً: وجوب الستر وعدم الفضيحة:
ومن الحقوق العامة لرابطة الإيمان بين المؤمنين وجوب ستر بعضهم البعض وعدم الفضيحة مع وجوب النصح سراً, وقد رغَّب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
رابعاً: اجتناب كل ما يسبب الخلاف والفرقة:
ومن حقوق المؤمنين فيما بين بعضهم البعض ببركة رابطة الإيمان وجوب اجتناب كل ما يسبب الخلاف والفرقة والبغضاء بين المؤمنين, قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم}.
حقوق رابطة الزواج:
أيها الإخوة المؤمنون: يجب علينا أن نعلم حقوق رابطة الإيمان فيما بين بعضنا البعض, وسوف نسأل عنها يوم القيامة, فإذا أضفنا إلى رابطة الإيمان رابطة الزواج بين الرجل والمرأة, وجب على كلٍّ من الزوجين أن يعلما بأن حقوق رابطة الإيمان يجب أن يلتزم كل واحد منهما بها, وإضافة إلى ذلك حقوق رابطة الزواج, وأهم حقوق رابطة الزواج:
أولاً: المعاشرة بالمعروف:
المعاشرة بالمعروف واجبة على كلِّ واحد من الزوجين إضافة للحقوق العامة بين المؤمنين, وذلك لقوله تعالى:
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ولقوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ}.
وقال العلماء: الصاحب بالجنب هو كلُّ واحد من الزوجين.
ثانياً: استمتاع كل من الزوجين بالآخر:
ومن حقوق رابطة الزواج بين الرجل والمرأة استمتاع كلٍّ من الزوجين بالآخر, وذلك لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين}. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ, قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلا يَرَيَنَّهَا, قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ) رواه الإمام أحمد عن بهز رضي الله عنه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ, فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنّ َ بِأَمَانَةِ اللَّهِ, وَاسْتَحْلَلْتُ مْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله) رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه.
ثالثاً: توارث كلٍّ من الزوجين:
من الحقوق المشتركة بين الزوجين إضافةً إلى حقوق رابطة الإيمان التوارث, فيرث الزوج زوجته, كما ترث الزوجة زوجها متى توافرت الشروط.
رابعاً: حرمة المصاهرة:
من الحقوق المشتركة بين الزوجين إضافة إلى حقوق رابطة الإيمان حرمة المصاهرة, فبمجرد عقد الزواج بين الرجل والمرأة تحرم الزوجة على آباء الزوج وإن علو, وعلى أبنائه وفروع أبنائه وبناته وإن نزلوا.
ويحرم على الزوج أم الزوجة وجدَّاتها وإن علون, وبناتها وبنات أبنائها وإن نزلن, كما يحرم على الزوج أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.
أيها الإخوة الكرام: يجب على كلٍّ من الزوجين أن يعلما حقوق الإخوة العامة قبل الزواج, وأن يعلما حقوق كلٍّ من الزوجين قبل عقد الزواج, وأنَّ كلاً منهما مسؤول يوم القيامة عن هذه الحقوق هل حفظها أم ضيَّعها لا قدَّر الله تعالى.
{وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}:
يا عباد الله: قولوا لكلٍّ من الزوجين المؤمنين: إذا حصل خلاف بينكما واشتد الخلاف لا قدَّر الله تعالى فاعلما بأن إخوة الإسلام تجمع بينكما, ولو لم يبق شيء مشترك يجمع بينكما في الحياة الزوجية, فهناك حقوق مشتركة بينكما ـ وهي سابقة على حقوق الزواج ـ يجب أن تراعى تلك الحقوق بدقة مهما اشتد الخلاف, حتى وإن أدى الخلاف إلى الطلاق وانفصمت عروة الحياة الزوجية.
هذا كلام مهم جداً يجب أن لا يغيب عن بال أيٍّ من الزوجين, وإلا فإن أيَّ خلاف ينشأ بينهما قد يصل بهما أن يتعاملا تعامل من لا يربطه بالآخر شيء, وكأنه لم تكن بينهما مودة ولا رحمة, وربنا عز وجل يقول: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.
يا عباد الله لا يجوز أن ننسى حقوق رابطة الإيمان كما لا يجوز أن ننسى حقوق رابطة الزواج, ولا يجوز أن ينسى أحد منا فضل الآخر عليه, لأنه ما منا من أحد إلا وهو متفضِّل على غيره وغيره متفضِّل عليه, فكيف يُنسى الفضلُ عند أهل الفضل؟ بل كيف ينسى المؤمن وزوجتُه ـ وإن تفرقا ـ قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ, وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ, وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ, وَيَشْهَدُ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ, وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الأمر الثاني: الحياة الزوجية نعمة من نعم الله الكبرى:
أيها الإخوة الكرام: أما الأمر الثاني الذي أشير إليه قبل الشروع في أسباب تصدُّع الحياة الزوجية, فهو أن تعلم بأن الحياة الزوجية نعمة من نعم الله تعالى الكبرى على الزوجين, بالزواج يتقرب الزوجان إلى الله تعالى, بالزواج يحييان سنة من سنة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام, بالزواج يتحقَّق السكن بين الزوجين, ووالله لن يتحقق سكن بين الرجل والمرأة إلا من خلال الزواج الشرعي, لأن الزواج آية من آيات الله الكبرى, قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}.
بالزواج الشرعي يُلقي الله تعالى المودة والرحمة بين الزوجين, وبالزواج الشرعي يبنى المجتمع الإنساني بناءً صحيحاً.
فالزواج نعمة لأنه يحقق سكناً وأمناً ومودة ورحمة, بل هو عبادة لله عز وجل, والعبادة من أعظم نعم الله تعالى على عبده, فالزواج مصدر من مصادر التقرب إلى الله تعالى, يقول صلى الله عليه وسلم: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ, وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ, وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ, أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: عالجوا الخلافات الزوجية وأنتم تستحضرون هذين الأمرين, الأمر الأول رابطة الإخوة الإيمانية مع حقوقها, ورابطة الزوجية وحقوقها, عالجوا الخلافات الزوجية وأنتم تستحضرون قوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.
ومع بعض أسباب الخلافات الزوجية, أو الأسباب التي تُصدِّع الأسرة في الأسابيع القادمة إن شاء الله تعالى. أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم