تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: مقال جديد: كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي للإدلبي، دراسة وتقويم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    الدولة
    الجزائر
    المشاركات
    85

    Post مقال جديد: كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي للإدلبي، دراسة وتقويم

    « كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي
    للإدلبي، دراسة وتقويم»
    بقلم:
    د. نبيل بلهي
    المقدمة: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: فَيُعَدُّ كتاب «منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي» ، للدكتور صلاح الدين الإدلبي، من أوائل الدراسات التي تناولت قضية نقد المتن والرد على المستشرقين فيها، وبعد قراءتي للكتاب في طبعته الجديدة، ظهر لي أنه يحتاج إلى نقد وتقويم، وبيان المسائل التي اشْتَطَّفيها قلم المصنِّف ، فظاهر الكتاب أنه انتصار للمحدثين ضدَّ المستشرقين، لكن بالغوص في أعماقه، وتتبُّع تطبيقاته تبيَّن لي أنَّه خدمة للعقلانيين المعاصرين، كما سيأتي تفصيله في هذا المقال.
    [ معلومات عامَّة عن الكتاب]
    هذا الكتاب عبارة عن دراسة متوسطة الحجم تقع في (420 صفحة)، تناول فيها الباحث قضية نقد المتون عند علماء الحديث، ردًا على المستشرقين الذين زعموا أن المحدثين اعتنوا بنقد السند وأغفلوا نقد المتن. صدَّر الباحث دراسته بمقدمة بيَّنَ فيها مفهوم نقد المتن، وأهميته، وصعوبة الولوج فيه، ثم قسَّم صلب بحثه إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول: الظواهر الموجبة لنقد المتن.
    الباب الثاني: نقد المتن واعتماده عند الصحابة والتابعين وعلماء الحديث.
    الباب الثالث: معايير نقد المتن. طُبِعَ هذا الكتاب مرَّتين، أمَّا الطبعة الأولى: فكانت سنة (1403هـ/ 1983م)، عن دار الأفاق الجديدة ببيروت، ثم طُبِعَ مرةً أخرى بعد ثلاثين سنة، بدعم من (مؤسسة اقرأ الخيرية)، بتصدير رئيسها «صالح عبد الله كامل» سنة (1433هـ/ 2012م)، وهذه الطبعة امتازت عن سابقتها بزيادات كثيرة، أُلْحِق بآخرها تذييلات جديدة. مما يلاحظ على مقدمة هذه الطبعة، أنَّه نقل فيها ثناء على كتابه، حين قال (ص 8): "ثم قرأتُ كتاب «منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي» فأدركت أنَّا على حقٍّ، وأنَّ شيوخنا كانوا يقرِّرُون الحقَّ والصواب".وإن كان من الغيورين على الإسلام المنافحين عن قضاياه، إلا أنَّ له موقفا غير مرضيٍّ اتجاه السنة النبوية، خاصة في كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) الذي أثار ضجَّة كبيرة، وتلقَّاه العلماء باستياءٍ كبيرٍ.
    [تقويم الباب الأول]
    تناول فيه المصنُّف الظواهر الموجبة لاعتماد نقد المتن عند العلماء، وجعله في فصلين: الفصل الأول: تكلَّم فيه عن ظاهرة (الوضع في الحديث) والفصل الثاني: تكلَّم فيه عن ظاهرة (الوهم في الحديث). أمَّا الفصل الأول، فقد عالج فيه قضية الوضع في الحديث النبوي وأسبابه وجهود العلماء في مقاومته، فجاء كلامه موافقًا للصواب الذي قرَّره العلماء ممن كتب قبله، إلا أنَّه يؤخذ عليه أشياء: 1- ادِّعاؤه وجود الكذب في الرواية على عهد رسول الله e، مستدلًا بخبر ذلك الرجل الذي خطب امرأة من حي مِن بَنِي لَيْثٍ من المدينة، فلم يزوِّجُوه، فكذب وادَّعى أن رسول الله e قد حكَّمه في دمائهم وأموالهم فقال النبي e «كَذَبَ عدوُّ الله».[ أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار] وهو خبر ضعيف لا يصحُّ كما بيَّنَهُ العلامة المعلمي في الأنوار الكاشفة ([1]) ، فالعجب كيف يعتمد المصنِّف عليه في إثبات أمر عظيم كهذا؟! ويترك الأثار الصحيحة كقول أنس بن مالك t: "والله ما كنَّا نكذب، ولا ندري ما الكذب".([2]) وهكذا البراء بن عازب t يقول: "ليس كلُّنا سمع حديث رسول الله e، كانت لنا ضيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذٍ، فيحدِّثُ الشاهد الغائب".([3]) 2- ذكَرَ من بين أسباب الوضع (الانتصار للإقليم الجغرافي)، وهذا حقٌّ من حيث المبدأ، فكم من حديث وُضع في فضائل البلدان انحيازيا وتعصُّبًا؟ لكن الشيء الذي ليس بحقٍّ، هو: سوء استخدام هذا المسلك لردِّ الأحاديث الصحيحة في فضائل الأمكنة، من ذلك قوله(ص 63): "لا بُدَّ أن يكون الرسول e قد نوَّه بفضل مكَّة والمدينة، وربما أهل اليمن...لكن من المستبعد جدًّا أن ينوِّه بمدينة دمشق مثلا والغوطة بالتنصيص على الاسم، وهو ما رواه أبو داود في سننه عن أبي الدرداء أن رسول الله e قال: «إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ، إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ»". قلتُ: هذا شطط من المؤلف، وسوء استخدامٍ لقواعد المحدثين، واعتراض على الأخبار بمجرد الظنِّ والتخمين؛ فالحديث المذكور صحيح يجب قبوله، وفضل الشام ثابت بالقرآن ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾، فلا أدري لماذا يستكثر المؤلِّف على (غوطة دمشق) أن يذكرها رسول اللهe، وقد ذكر غيرها من الأماكن في أحاديثه (المنارة البيضاء- بحيرة طبرية) فليس لنا مع السنة الصحيحة إلا التسليم لها لا ردُّها بمجرد مخالفة الذوق. ثم تكلَّم في الفصل الثاني عن ظاهرة (الوهم في الحديث) عبر مختلف العصور، فأتى بنقول وروايات، عن أوهام وقعتْ في بعض المرويات بيَّن العلماء أمرها، لكن يؤخذ عليه أنه: يخلط الغثَّ بالسمين، ويتسرَّع في توهيم الصحابة، ونقد أحاديث الصحيحين بدعوى وَهْم الرواة، من غير تثبُّت ولا روِّية، وله في ذلك جرأة عجيبة على أحاديث لم يسبقه أحد للطعن فيها إلا العقلانيون، وهذه بعض الأمثلة: 1- قوله(ص 99): "المسألة الثانية: أوهام غير منصوص عليها عند المصنِّفين، أولا : صحيح البخاري...ثم ساق حديث ابن عباس في صحيح البخاري« أنه تزوَّج ميمونة وهو محرم»". قلتُ: هذا التعبير فيه جرأة على هيبة الصحيح، إن لم يكن تمهيدا للقارئ لإنكار بعض الأشياء في صحيح البخاري، فأين الإدلبي من تهيُّب العلماء لصحيح البخاري، وتأدبهم في مناقشتهم بعض أحاديثه؟ والحديث المذكور صحيح مشهور، وغاية ما فيه أنَّ ابن عباس ظنَّ شيئا فأخطأ فيه، وهذا مثله كثير في المرويات، والبخاري يعلم أنَّ أثر ابن عباس مُعارَض بغيره، لكنَّه في مقام إخراج أحاديث الباب، فساق ما صحَّ عنده، ثم يبقى أمر التوفيق بين هذه الآثار للمجتهدين. 2- قوله(ص 103): "روى البخاري في سياق حديث الإفك قول علي رضي الله عنه: «وسَلْ الجارية تصدقك» قال فدعا رسول الله e بريرة...والجارية هنا ليست بريرة؛ لأن بريرة إنما اشترتها عائشة وأعتقتها بعد ذلك بزمن...وقد نَبَّهَ على هذا الوهم من أوهام الجامع الصحيح الإمام الزركشي". قلتُ: هكذا يتجرِّأُ الإدلبي على توهيم الإمام البخاري وتَقَحُّم أسوار الجامع الصحيح، باعتراضات يلتقطها من هنا وهناك، يضخِّمُهَا ويجعلها أوهاما في أصحِّ كتاب بعد كتاب الله، مع أن الحافظ ابن حجر ذكر هذا الإشكال وأجاب عنه بقوله: "وقد أجاب غيره بأنها كانت تخدم عائشة بالأجرة وهي في رِقِّ مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفَّاظ".([4]) 3- تهويله من قضية الوهم في نقل الإسرائيليات، مستدلًا بقصة كعب الأحبار وأبي هريرة واختلاط حديثهما، وهي القصَّة نفسها التي طعن بها محمود أبو رية في أخبار أبي هريرة، وقد بيَّن معناها الصحيح المعلِّمي في الأنوار الكاشفة ([5])، ثم إنَّ الإدبلي ختم كلامه بتقعيد قاعدة فاسدة تخالف ما عليه علماء الحديث حيث قال (ص 109): " فإذا وجدنا قولا مرفوعا إلى النبي e، ومضافًا إلى غيره في رواية أخرى، إن لم يكن بكلام النبي أشبه، إنَّه يضاف إلى من روي عنه من غير النبي e". قلتُ: لا أدري هل هذه القاعدة ناتجة عن استقراء، أم أنَّه أمر استهواه المؤلِّف فجعله قاعدة؟ على كل حال ليس الإدلبي ممن يقْبَلُ منه تقعيد القواعد ، خاصة إذا خالف أصحاب الصنعة من النقَّاد، الذين قعَّدُوا في مسألة التعارض بين الموقوف والمرفوع القاعدة التالية، قال ابن حجر :" إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع، والمرفوع بالموقف أو المقطوع، ليس على إطلاقه، بل ذلك دائر على غلبة الظنِّ بترجيح أحدهما على الآخر بالقرائن التي تحفُّه".([6]) قلت: فالمعوَّل في الترجيح على القرائن الإسنادية مثل (الكثرة والمخالفة والتفرد)، فإذا أوقف الأكثرون الحديث على صحابيٍّ، وتفرَّد الواحد برفعه للنبي e، وكان الكلام يشبه كلام النبوة، فالعبرة بما قاله الأكثر وليس بالتشبيه، وهذا كاف لإسقاط قاعدة الإدلبي.
    [تقويم الباب الثاني]
    عنوانه: «مدى اعتماد نقد المتن عن الصحابة وعلماء الحديث»، قسَّمه إلى فصلين: نقد المتن عند الصحابة، ونقد المتن عند علماء الحديث. أما الفصل الأوَّل: فقد تكلَّم فيه عن نقد الصحابة لمرويات بعضهم بعضا وساق الأخبار في ذلك، مركزا على السيدة عائشة -رضي الله عنها- ونقدها لمرويات الصحابة الآخرين، وحاول توظيف مسلك أمِّ المؤمنين في نقده المرويات الصحيحة، وجعله قاعدة عامة في ردِّ المرويات التي تخالف القرآن على حدِّ زعمه، وهذا سوء استخدام لاجتهاد أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قال ابن القيم: "والمقصود أنَّ عائشة رضي الله عنها ردَّت هذا الحديث وأنكرته وخطَّأت قائله، ولكن قول عائشة هذا مرجوح، ولها رضي الله عنها اجتهاد في ردِّ بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة".([7]) ويدلُّ على سوء استخدامه وتوظيفه، أمور: 1- غمزه للصَّحابي الجليل أبي هريرة. قال(ص 131): "ولا شكَّ أن طريقة السرد الذي اتَّبعها أبو هريرة قد أوقعته في بعض الوهم". وقال كذلك- منتقدا حديث أبي هريرة «يا أهل القرآن أوتروا»: "ولعلَّ أبا هريرة سمع هذا من رسول الله فرواه على المعنى فوهم فيه، فقد رواه عنه الإمام أحمد بلفظ: «من لم يوتر فليس منَّا»". قلت: هذه الغمزات واللمزات لسيد الحفاظ أبي هريرة ليست بريئة، بل هي تمهيد لرد أي رواية من طريقه لا يُقِرُّها عقل المصنِّف، بدعوى أنَّها من جملة أوهام أبي هريرة، فسبحان الله الذي جعل أبا هريرة محنة تبيِّن حقائق الناس! أما السرد فليس فيه طعن في حفظ أبي هريرة، وقد اعتذر له العلماء بعذر مقبول، قال ابن حجر: "واعتذر عن أبي هريرة بأنه كان واسع الرواية كثير المحفوظ فكان لا يتمكَّن من المهل عند إرادة التحديث كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم القوافي على فيِّ".([8]) وأما حفظ أبي هريرة فعندنا تزكية النبي eحين دعا له بالحفظ، ولا عبرة بقول أيِّ متشدِّق بالكلام بعد دعاء النبي e، فقد أخرج البخاري في صحيحه (119)، تحت (باب حفظ العلم)، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه؟ قال: «اُبْسُطْ رِدَاءَكَ» فَبَسَطْتُهُ، قال: فَغَرَفَ بيديه، ثم قال: «ضُمَّهُ» فضممته، فما نسيت شيئا بعده. وأما حديث الوتر، فلا دليل على وهم أبي هريرة فيه، ولفظ حديث علي بن أبي طالب لا يعلُّه لعدم اتِّحاد المخرج، على أنَّ أبا هريرة لم ينفرد بهذا اللفظ فقد تابعه عليه الصحابي بريدة بن الحصيب عن رسول اللهe قال: «الوِترُ حق، فمَنْ لم يوترْ، فلَيسَ منا »([9]). فلا مبرِّر بعد هذا للتحامل على حافظ الأمة وحبيب المؤمنين أبي هريرة t. 2- ردِّه لأحاديث الصحيحين بطريقة غير مقبولة. بعد أن استمدَّ المصنِّف مشروعية نقد الأحاديث الصحيحة من فعل أمِّ المؤمنين عائشة t - وهي من عَمَلِهِ براءٌ- أطلق عنان قريحته لردِّ الأحاديث ولو كانت في الصحيحين وأجمعت الأمة على صحَّتها، من ذلك قوله (ص 137): "المسألة السادسة: نقد رواية الطِّيرة من المرأة والدار والفرس...فقد أنكرت عائشة رواية أبي هريرة هذه وبيَّنَتْ أنَّه لم يحفظ الحديث على وجهه". قلتُ: نقل المصنف هذا قصة إنكار عائشة دون تَثَبُّتٍ، وإسنادها منقطع فمكحول لم يسمع من عائشة، أما حديث «الطيرة» فهو في الصحيحين، وقد ورد عن ثلاثة من الصحابة سوى أبي هريرة ( جابر بن عبد الله، سهل الساعدي، عبد الله بن عمر)، ومعنى الشؤم هو شؤم المعصية وسوء الخلق وليس فيه تطيُّر ، قال القاضي عياض: "وقد يكون الشؤم هنا على غير المفهوم منه من معنى التطير، لكن بمعنى قلَّة الموافقة وسوء الطباع".([10]) وهذا يلتقى تماما مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾، فالشؤم ليس في جنس النساء، بل هو مقصور على النساء العاصيات العدُّوات لأزواجهن.
    [تقويم الباب الثالث]
    عنوان الباب «معايير نقد المتن عند علماء الحديث»، ذكر تحته بعض المعايير المعروفة عند العلماء مثل (مخالفة القرآن- مخالفة السنَّة والسيرة- مخالفة العقل والحسِّ والتاريخ- عدم مشابهة كلام النبوَّة) لكنَّه كعادته أساء استخدام هذه المعايير، فأنكر الأحاديث الصحيحة المتفق عليها؛ لأنها تخالف عقيدته وفكره وتصوراته عن الإسلام، وهذه بعض النماذج من تجنِّياته. 1- إنكاره لحديث الجارية «أين الله» على طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة. قال الإدلبي(ص 261- 262) :"ومن المستبعد أن يثبت عنه e سؤال الجارية بلفظ «أين الله؟»، وكيف يتفق هذا مع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وهو فضلا عن إيهامه الجهة والمكان- فليس المعهود من حال النبي e...". قلتُ: ردُّ حديث الجارية الذي يثبت صفة علو الذات لله تعالى ، هو ديدن المتكلِّمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، لذلك لم يرتضه المصنف، وادَّعى أنه مرويٌ بالمعنى دون تقديم دليل، بل سلك مسلك الجهمية في نفي الصفات بعموم قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، وهذا مسلك معروف ومناورة مكشوفة، وهي ردُّ الحديث لمخالفة النحلة التي يعتقدها ثم التشبُّث بعموم آية، قال ابن قيم الجوزية: " فما من أحدٍ يُحْتَجُّ عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته، إلا ويمكنه أن يتشبَّتُ بعموم آية أو إطلاقها، ويقول هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل...وردَّت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ".([11]) ثم استعرض أحاديث أخرى في وردَّها بالطريقة نفسها، من ذلك حديث «أطيط العرش» وحديث «الأوعال» وحديث «الوائدة والموءودة». 2- ردُّه لحديث «نزل الحجر الأسود أبيض من الجنة» بدعوى مخالفة الحسِّ. أساء المصنف استخدام هذا المعيار كعادته في توظيف معايير المحدثين في لتأييد ما أنكره العقلانيون، فأنكر الحديث الصحيح «نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ » [أخرجه الترمذي وصحَّحه] بقوله (ص 327): "والمُشاهَد المحسوس أنَّ الحجر الأسود من أحجار الدنيا، ولو نزل وهو أبيض لبقي على حاله...". قلت: هذا اعتراض صريح على الوحي بالعقل، ومعلوم أن باب المعجزات لا دخل للعقل فيه، وأن أحاديث المعجزات لا تقاس بقوانين الطبيعة، ويلزم على هذا إنكار (انشقاق القمر، وانفلاق البحر لموسى) للعلة نفسها، وصدق ابن القيم إذ يقول: "إنَّ معارضة الوحي بالعقل ميراثٌ عن الشيخ أبي مُرَّة [إبليس] فهو أَوَّلُ من عارض السمع بالعقل وقدَّمه عليه".([12]) 3- ردُّه حديث «الأمر بالتقيؤ لمن شرب قائما» بدعوى عدم مشابهته اللفظ النبوي. من جنايات المصنف على الأحاديث النبوية، ردِّه المتون لا تتوافق مع ذوقه المعاصر، بدعوى ركاكة اللفظ، كالحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» حيث قال(ص 351): "وكان الرسول e غاية في اللطف والذوق، فمن المستبعد أن يأمر إنسانا بأن يتقيأ، وخاصة بسبب النسيان الذي لا يؤاخذ الله المكلَّف فيه". قلتُ: هكذا فلتكن الجرأة !! كلما خالف حديثٌ ما ألفناه رَدَدْناه واستبعدناه؛ إنَّا إذًا عن الصراط لناكبون، قال الشافعي: "فأبان الله لنا أنَّ سننَ رسوله فرضٌ علينا بأن ننتهي إليها، لا أنَّ لنا معها من الأمر شيئًا إلا التسليم لها واتباعها، ولا أنها تعرض على قياس ولا على شيء غيرها ".([13]) أما العلماء الربانيُّون الذين يحسِّنون الظنَّ بالمرويات، فقد فهموا الحديث على المبالغة في التأديب، وأنَّ الأمر فيه على الاستحباب، قال الطِّيبي: "وأما قوله: «فمن نسي فليستقئ» فمحمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائماً أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح".([14])
    [تذييلات مهمة]
    بهذا العنوان صدَّر المصنف زياداته في الطبعة الجديدة، فزاد (ضِغْثًا على إِبَالة)، حيث تجرأ كعادته وأعلَّ أحاديث في الصحيحين لم يسبقه النقاد إلى إعلالها، من ذلك: 1- حديث «قال: سليمان بن داود لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، تحمل كلُّ امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله » [ أخرجه البخاري ومسلم]، تكلَّم عن طرق الحديث وخلص إلى نتيجة غريبة وهي أن الصحيح في الحديث أنه موقوف على أبي هريرة، وهذا يعني أن البخاري إمام الصنعة لم يتفطَّن لهذه العلة-وكذلك الدارقطني- وتفطَّن لها الإدلبي لقوة ذهنه وسعة حفظه !! قال الإدلبي(ص 385): "وخاتمة المطاف هي أن هذا الحديث ثابتٌ من قول أبي هريرة، وليس من قول النبي e، والظاهر أنَّه سمعه من بعض مسلمة أهل الكتاب". قلتُ: حكاية هذا القول تغني عن ردِّه، والملاحظ أنَّ اتِّهام أبي هريرة حاضر دائمًا في تعليلاته، وقد تكرر منه هذا الأسلوب في رد أحاديث أبي هريرة في الصحيحين التي لا تعجبه، حيث يرجِّح أن الحديث موقوف ثم يتَّهِم أبا هريرة بالوهم فيه. 2- حديث «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً...فَقَال وا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ»[ أخرجه البخاري ومسلم]، خلص المصنِّف إلى أنَّ الحديث موقوف، وأن ابن عباس وأبا هريرة سمعاه من أهل الكتاب!! ومن تطاوله على البخاري قوله(ص 391): "ومن الجدير بالذكر أن الإمام البخاري لم يرو في صحيحه سوى الرواية المرفوعة، وربَّما لم يقف على الطريق الموقوف". وهذه العبارة الأخيرة ينبغي أن نقف عندها مليًّا، لأنها سبب البلاء عند بعض المعاصرين حين يظنُّون أنهم وقفوا على طرق خَفِيَتْ على الأئمة النقاد، وهذا من الغرور العلمي الناشئ عن عدم معرفة قدر الأئمة النقَّاد في الحفظ والانتقاء، فكيف تخفى هذه الطرق على الإمام البخاري الذي انتقى أحاديث صحيحه من ست مائة ألف حديث، حتى يستدركها عليه من تأخَّر زمانه وقلَّت بضاعته؟! وهكذا جَرَتْ القضية عنده مع أحاديث أُخَرْ، كحديث «لطم موسى لعين ملك الموت» وحديث «فُقِدَتْ أمَّة من بني إسرائيل لا يُدْرَى ما فعلت، وإنِّي لا أراها إلا الفأر» وحديث «سنِّ عائشة t عند الزواج ». وخلاصة القول في هذا الكتاب: أنَّ مؤلِّفَهُ استخدم أدوات المحدثين ومسالكهم استخدامًا سَيِّئًا أفضى به إلى الطعن في الأحاديث الصحيحة بل المُجمع على صحَّتها ، فهو بذلك يقدِّم خدمة مجانية للعقلانيين الذي ينكرون هذه الأحاديث؛ لوجود إشكال في معانيها، ومخالفتها الذوق المعاصر، كما وافق أهل البدع في إنكار الأحاديث الصحيحة بالعقل المجرد، فلا يصلح في ظنِّي أن يكون مقرَّرا دراسيًا في الجامعات؛ لأنَّه يُجَرِّأُ طلبة العلم على ردِّ الأحاديث، والاستهانة بهيبة الصحيحين، والسنة النبوية...بل أقترح أن يقوم أحد الباحثين بدراسة أكاديمية أو بحث علمي يناقش فيه قضايا هذا الكتاب فقرة فقرة...مثالا مثالا، فإنَّه ينصح بذلك لأمَّته ويدافع عن سنَّة نبيِّه.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    كتبه : د. نبيل بلهي
    Nabil.belhi@gmail.com
    09 شعبان 1440 هـ
    14 أفريل 2019م

    ([1]) الأنوار الكاشفة، المعلمي: ص 273- 274.

    ([2]) المدخل إلى علم السنن، البيهقي: 1/ 185.

    ([3]) المستدرك، للحاكم: 1/ 216.

    ([4]) فتح الباري، ابن حجر: 8/ 469.

    ([5]) الأنوار الكاشفة، المعلمي: ص 163. وانظر: السنة ومكانتها في التشريع للسباعي: ص 352.

    ([6]) النكت على ابن الصلاح، ابن حجر: 2/ 746.

    ([7])مفتاح دار السعادة، ابن القيم: 3/ 336.

    ([8])فتح الباري، ابن حجر: 6/ 579.

    ([9]) أخرجه أبوداود في سننه (1419).

    ([10]) إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض: 7/ 151.

    ([11]) الطرق الحكمية من السياسة الشرعية، ابن قيم الجوزية: ص 188- 189.

    ([12]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة 3/ 998.

    ([13]) الأم، للشافعي: 8/ 596.

    ([14]) الكاشف عن حقائق السنن، الطيبي: 9/ 2877.
    الملفات المرفقة الملفات المرفقة
    الدكتور: نبيل بن أحمد بلهي
    دكتوراه في الكتاب والسنة
    - الجزائر -


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •