الحمد لله الذي نزَّل الفُرقان على عبده؛ ليكون للعالمين نذيرًا، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربُّه شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد: فسوف نذكر بعض الصور من تواضُع العلماء وطلبة العلم، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
أولًا: تواضع العلماء:
الخليفة عمر بن عبدالعزيز:
(1) قال رجاء بن حيوة: سمرت عند عمر بن عبدالعزيز ذات ليلة فعشي (ضعف) السراج، فقلت: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه؟ فقال: لا، دعه ينام، فقلت: أفلا أقوم أصلحه؟ فقال: لا، ليس من مروءة الرجل استخدام ضيفه، ثم قام بنفسه فأصلحه وصبَّ فيه زيتًا، ثم جاء، وقال: قمتُ وأنا عمر بن عبدالعزيز، وجئتُ وأنا عمر بن عبدالعزيز؛ (البداية والنهاية؛ لابن كثير، جـ9، صـ211).
(2) قال الأوزاعي: كان عمر بن عبدالعزيز يجعل كل يوم درهمًا من خاصة ماله في طعام المسلمين، ثم يأكل معهم؛ (حلية الأولياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني، جـ5، صـ270).
(3) بلغ عمر بن عبدالعزيز أن ابنًا له اشترى خاتمًا بألف درهم، فكتب إليه عمر: إذا أتاك كتابي، فبِعِ الخاتمَ، وأشْبِعْ ألفَ بطنٍ، واتخذ خاتمًا من درهمين، واجعل فصه حديدًا صينيًّا، واكتب عليه: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه).
عطاء بن أبي رباح:
قال عطاء بن أبي رباح: إن الرجل ليُحدِّثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمِعتُه قبل أن يولد؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 5، صـ 86).
سفيان الثوري:
قال أبو عيسى الحواري: لما قدم سفيان الثوري الرملة - أو بيت المقدس - أرسل إليه إبراهيم بن أدهم: تعال حدثنا، فقيل له: يا أبا إسحاق، تبعث إليه بمثل هذا، قال: إنما أردت كيف تواضعه، قال: فجاء فحدثهم؛ (حلية الأولياء؛ لأبي نعيم، جـ6، صـ367).
قال عبد الرزاق بن همام: رأيت سفيان الثوري بصنعاء اليمن يُملي على صبي ويستملي له؛ (حلية الأولياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني، جـ6، صـ370).
مالك بن أنس: قال محمد بن عمر: سمِعتُ مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه فحدثته، وسألني فأجبته، فقال: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها - يعني الموطأ - فينسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخةً، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، لا يتعدون إلى غيره, ويدعون ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث؛ فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمِعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردَّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد لأنفسهم، فقال: لعمري (أي: حقًّا) لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به، وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم؛(جامع بيان العلم؛ لابن عبدالبر، جـ1، صـ532، رقم: 870).
أحمد بن حنبل:
(1) قال يحيى بن معين: ما رأيتُ مثل أحمد، صحبناه خمسين سنةً، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير؛ (سير أعلام النبلاء، جـ11، صـ214).
(2) قال أبو بكر الخلال: رأيت أبا عبدالله، أحمد بن حنبل، يشتري الخبز من السوق، ويحمله في الزنبيل، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة، ويجعله في خرقة، فيحمله آخذًا بيد عبدالله ابنه؛ (سير أعلام النبلاء؛ جـ11، صـ310).
(3) قال أبو بكر المروزي: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد، كان مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا، لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر؛ (سير أعلام النبلاء؛ جـ11، صـ218).
(4) قال إسماعيل بن إسحاق السراج: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، أول ما رأيته يا أبا عبدالله، ائذن لي أن أُقبِّلَ رأسك، قال: لم أبلغ أنا ذاك؛ (الآداب الشرعية؛ محمد بن مفلح الحنبلي، جـ2، صـ 258).
البخاري: قال الترمذي: قال لي محمد بن إسماعيل البخاري: ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي؛ (تهذيب التهذيب؛ للعسقلاني، جـ 5، صـ249).
محمد بن واسع:
قال حماد بن زيد: ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي، وكان يجلس مع المساكين والبكَّائين؛ (التواضع؛ لابن أبي الدنيا، صـ 140، رقم: 106).
أبو زرعة الرازي:
قال الإمام ابن كثير: كان أبو زرعة الرازي فقيهًا ورعًا زاهدًا عابدًا خاشعًا متواضِعًا، أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه؛ (البداية والنهاية؛ لابن كثير، جـ14، صـ563).
الخليل بن أحمد:
قال الإمام الذهبي: كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رأسًا في لسان العرب، دينًا، ورعًا، قانعًا، متواضعًا، كبير الشأن؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ7، صـ430).
أبو بكر الطرطوشي:
قال ابن بشكوال: كان أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي إمامًا عالِمًا، زاهدًا ورعًا، دينًا متواضعًا، متقشفًا متقللًا من الدنيا، راضيًا باليسير؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ19، صـ491).
أحمد بن تيمية:
(1) قال عمر بن علي البزار عن شيخه الإمام أحمد بن تيمية: وأما تواضع ابن تيمية، فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير والجليل والحقير والغني الصالح والفقير، وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه، ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء حتى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته جبرًا لقلبه وتقرُّبًا بذلك إلى ربِّه؛ (الأعلام العلية؛ للبزار، صـ50).
(2) قال البزار: كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة (الكتاب) ولا يدع أحدًا منا يحملها عنه، وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفًا من سوء الأدب، فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! (الأعلام العلية؛ للبزار، صـ52).
ثانيًا: تواضع الطلاب لعلمائهم:
سوف نذكر بعض الصور من تواضع طلاب العلم لعلمائهم:
(1) روى الحاكم عن أبي سلمة، عن ابن عباس، أنه أخذ بركاب (حبل الدابة) زيد بن ثابت، فقال له: تنحَّ يا بن عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا هكذا نفعل بكبرائنا وعلمائنا؛ (مستدرك الحاكم، جـ3، صـ 423، رقم: 5785).
(2) قال الليث بن سعد: كان سعيد بن المسيب يركع ركعتين ثم يجلس فيجتمع إليه أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فلا يجترئ أحد منهم أن يسأله عن شيء إلا أن يبتدئهم بحديث أو يجيئه سائل فيسأل فيسمعون؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ400).
(3) قال عبدالرحمن بن حرملة الأسلمي: ما كان إنسان يجترئ على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ184).
(4) قال محمد بن شهاب الزهري: كنت آتي باب عروة بن الزبير فأجلس، ثم أنصرف فلا أدخل، ولو شئت أن أدخل لدخلت إعظامًا له؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ159).
(5) قال يحيى بن عبدالملك الموصلي: رأيت مالك بن أنس غير مرة، وكان بأصحابه من الإعظام له والتوقير له، وإذا رفع أحد صوته صاحوا به؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ182).
(6) قال عبدالله بن زيد: كنا نجلس إلى مكحول ومعنا سعيد بن عبدالعزيز (مفتي دمشق)، فكان يسقي الماء في مجلس مكحول؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ8، صـ33).
(7) قال مغيرة بن مسلم الضبي: كنا نهاب إبراهيم النخعي كما يهاب الأمير؛ (الطبقات الكبرى؛ لابن سعد، جـ6، صـ280).
(8) قال الربيع بن سليمان: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبةً له؛ (المدخل إلى السنن الكبرى؛ للبيهقي، جـ1، صـ 390).
(9) قال محمد بن سيرين: رأيت عبدالرحمن بن أبي ليلى وأصحابه يُعظِّمونه ويُسوِّدونه ويشرفونه مثل الأمير؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ182).
(10) قال محمد بن إسماعيل البخاري: ما رأيت أحدًا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ182).
(11) قال أحمد بن سنان القطان: كان عبدالرحمن بن مهدي لا يُتحدَّث في مجلسه، ولا يبرى فيه قلم، ولا يقوم أحد.. (تذكرة الحفاظ؛ للذهبي، جـ1، صـ 242).
(12) قال الشافعي: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحًا رفيقًا؛ هيبةً له لئلا يسمع وقعها؛ (المجموع شرح المهذب؛ للنووي، جـ1، صـ36).
(13) قال علي بن المديني: قال لي سيدي أحمد بن حنبل: لا تحدثني إلا من كتاب؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ2، صـ12).
(14) قال حماد بن أبي حنيفة: رأيت الحسن بن عمارة وأبي انتهيا إلى قنطرة، فقال له أبي: تقدم، فقال: أتقدم؟ تقدم أنت؛ فإنك أفقهنا وأعلمنا وأفضلنا؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ171).
(15) قال أبو معاوية الضرير (محمد بن حازم السعدي): صب على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه، فقال الخليفة هارون الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت: لا، قال: أنا؛ إجلالًا للعلم؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ9، صـ288).
(16) قال عاصم بن أبي النجود (صاحب قراءة القرآن المشهورة): ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قَبَّلَ كفِّي؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ5، صـ257).
(17) قال أحمد بن حمدون القصار: سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فقبَّلَ ما بين عينيه، وقال: دعني حتى أُقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله؛ (تاريخ بغداد؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ 102).
(18) قال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يُقبِّل يد الفضيل بن عياض مرتين؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ8، صـ438).
(19) حج الأوزاعي مرةً، فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: افسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه العلم؛ (سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ10، صـ124).
(20) قال أبو عبد الله المعيطي: رأيت أبا بكر بن عياش بمكة فأتاه سفيان بن عيينة، فبرك بين يديه، فجعل أبو بكر يقول له: يا سفيان، كيف أنت؟ يا سفيان، كيف عيال أبيك؟ قال: فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال سفيان: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعدًا؛ (الجامع لأخلاق الراوي؛ للخطيب البغدادي، جـ1، صـ320).
ختامًا:
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/133485/#ixzz5jSiNt2RN