حكاية ورقة كانت خضراء
سها محمد صلاح الدين فتال



ورقة خريف باهتة، ارتمت متهالكة قربي يكسوها الشحوب وتعلوها صفرة الموت، حملتها بين أصابعي أتساءل عما أصابها حتى سقطت، من أين جاءت وأين كانت.
ترى أشجرتها الأم لفظتها أم سقطت بفعل فاعل؟
أحست بتساؤلاتي وبحيرتي التي اكتست وجهي، فأجابتني وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة:
كنت ورقة خضراء يانعة، مع أخواتي ننسج رداء أخضر رائعا لشجرتنا الأم، مرت علينا الأيام والليالي بحلوها ومرها، وتعاقبت علينا فصول السنة ببردها وحرها، استظل بنا الفلاح المتعب بعد عمل شاق في أرضه، يزرع ويفلح ويبذر ويحصد، يقدم للناس الغذاء، ولا يجد إلا ما يسد رمقه.
وكذلك مر بنا العامل في طريقه لعمله، يعمل ويكافح يبني وطنا ويعلي نهضة، ويقنع باليسير الذي يعطيه له صاحب ذلك المعمل.
وتفيأ تحتنا طلاب علم يستذكرون دروسهم، كم كنت أسعد بمناقشاتهم، أجد فيهم الأمل، أتطلع معهم لمستقبل هذه الأمة، كانت دماء متدفقة شابة، تسير في عروقهم، تمدهم بالحيوية والنشاط، كنت أرقبهم بغبطة وكأنهم أولادي، أحلم معهم بمستقبل زاهر.
فقلت: ما شاء الله لقد كنت سعيدة وأنت ترقبين هؤلاء فلم الحزن والألم يكسوان محياك؟
فقالت وهي ترسل زفرات الألم: الحياة ليست بوجه واحد سعيد، هناك وجوه أخرى مرت علي، وجوه وأصوات أنتفض ألما وحزنا حين أذكرها.
فكما مر علي الطيبون الذين كانوا يبنون جسور الأمل، مر كذلك من كان يهدم ما يبنون، كم اختبأ بيننا لصوص يتحينون الفرصة لينقضوا على فريسة تمر تحت شجرتنا، وكم اجتمع تحت الشجرة ثلة من المفسدين يتربصون بمن يقف في طريق أطماعهم، ينسجون الخطط الخبيثة للإيقاع بهم.
ولكن أشد ما كان يؤلمني رهط من الشباب اليافعة يحرقون صدورهم وأنفاسهم بدخان فاسد ملوث، يذهب بالعقول ويفسد النفوس. وبعد أن ينهوا حفلهم الآثم، يسجون تحت الشجرة كالأموات حتى تطلع عليهم الشمس، تطهر نفوسهم وتذكي قلوبهم، ولكن كان ذلك حتى حين، فما أن يحل الليل حتى يعاودوا نشاطهم الآثم.
وأطلقت الورقة آهاةٍ حزينةٍ وهي تتذكر ذلك الرهط الفاسدين المفسدين.
لله درك يا ورقتي المسكينة، كم مر عليك من الآلام والأحزان، كم تألمت، وكم فرحت، لكن ساعة ألم واحدة لا تعدل أيام فرح طويلة، وبينما أراقب تلك الورقة المتهالكة وأستشعر ما مر بها وكأنه ما يمر بنا كل يوم، هبت ريح قوية أخذتها ورمتها بعيداً، لا أدري أين أصبحت.
فأيقنت أننا جميعاً ننتظر مثل هذه الريح التي لا ندري أين ومتى ستفاجئنا، فهل أعددنا العدة لمثل هذا اليوم؟