ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
خميس النقيب



خلَق الله المسلم ليكون في المرتبة الأعلى وفي المكانة الأعلى، ولا يكون في المرتبة التالية أو
المكانة الدونيَّة، لا يكون تابعًا وإنما يكون متبوعًا، لماذا؟! إنَّه ينتَمِي إلى أمَّة الخيريَّة؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...)[آل عمران: 110]، وأمَّة الفوقيَّة؛ (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)[النساء: 141].
في الآية الأخيرة: "ولن يجعل الغلَبَة والقهْر للكافِرين على المؤمنين، إنَّه وعدٌ من الله قاطعٌ، وحكمٌ من الله جامعٌ، أنَّه متى استقرَّت حقيقة الإيمان في نُفُوس المؤمنين، وتمثَّلت في واقع حياتهم منهجًا للحياة ونظامًا للحكم، وتجرُّدًا لله في كلِّ خاطرةٍ وحركةٍ وعبادةٍ لله في الصغيرة والكبيرة، فلن يجعَلَ الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
كذلك حين يُقرِّر النصُّ القرآني أنَّ الله لن يجعَلَ للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فإنما يُشِير إلى أنَّ الرُّوح المؤمِنَة هي التي تنتَصِر، والفكرة المؤمنة هي التي تَسُود، وإنما يدعو الجماعة المُسلِمة إلى استِكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصوُّرًا وشُعُورًا، وفي حياتها واقعًا وعملاً، وألاَّ يكون اعتِمادُها كلُّه على عنوانها، فالنصر ليس للعُنوانات، إنما هو للحقيقة التي وراءَها، وليس بيننا وبين النصر في أيِّ زمانٍ وفي أيِّ مكانٍ إلاَّ أنْ نَستَكمِل حقيقةَ الإيمان، ونستَكمِل مُقتَضَيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك، ومن حقيقة الإيمان أنْ نأخُذ العُدَّة ونستَكمِل القوَّة، ومن حقيقة الإيمان ألاَّ نَركَن إلى الأعداء، وألاَّ نَطلُب العِزَّة إلاَّ من الله.
إنَّ الإيمان صلةٌ بالقوَّة الكبرى التي لا تَضعُف ولا تَفنَى، وإنَّ الكفر انقطاعٌ عن تلك القوَّة وانعزالٌ عنها، ولن تملك قوَّة محدودة مقطوعة منعزِلة فانية أنْ تغلب قوَّةً موصولة بمصدر القوَّة في هذا الكون جميعًا".
أنتم الأعلَوْن فلا تحزنوا، وأنتم الأعلَوْن فلا تَهِنُوا، أنتم الأعلَوْن إذا حقَّقتُم شرطَ الإيمان... ولن يجعَل الله للكافرين على المؤمنين - الذين حقَّقوا شرطَ الإيمان - سبيلاً.
والمسلم يتقلَّب بين الخوف والرَّجاء، والترهيب والترغيب، والوعد والوعيد، والإنذار والإبشار؛ لذلك عليه أنْ يجعَلَ دنياه مزرعة لآخِرته، فيعمَل لِمَعاده كما يعمَل لِمَعاشه، ويعمَل لغده كما يعمَل ليومه، ويعمَل لآخِرته كما يعمَل لدنياه، هكذا يوجِّه الله عبادَه في القرآن الذي نزل من علٍ، من فوق سبع سماوات.
والمؤمن في الجنَّة يرجو كذلك الفردوسَ الأعلى (الظلال)... ثبَت عن أنس بن مالكٍ أنَّ حارِثة بن سُراقة قُتِل يوم بدر، وكان في النظَّارة أصابَه سهمٌ طائش فقتَلَه، فجاءت أمُّه فقالت: إنْ كان في الجنَّة صبرت، وإلاَّ فليرينَّ الله ما أصنع - تعني: من النِّياحة - وكانت لم تُحَرَّم بعد، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ويْحكِ أَهَبِلتِ؟ إنها جِنان ثمانٍ، وإنَّ ابنك أصابَ الفردوسَ الأعلى)).
في قصة موسى - عليه السلام - ?قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى? [طه: 68]، لا تخف إنَّك أنت الأعلى؛ فمعك الحق ومعهم الباطل، معك العقيدة ومعهم الخُرافة، معك الإيمان بصدقِ ما أنت عليه، ومعهم الأجرُ على المباراة ومغانم الحياة، أنت متَّصل بالقوَّة الكبرى وهم يخدمون مخلوقًا بشريًّا فانيًا مهما يكن طاغية جبارًا، لا تخف.
كان المشركون في معركة أحدٍ قد نالوا من المسلمين، وأصابوا منهم جِراحًا بليغة في مواطن كثيرة، وقتلوا منهم عددًا تجاوَز السبعين صحابيًّا، وكسروا بعض أسنان رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجرَحُوا وجهَه الكريم، وكادوا يفعَلُون أكثر من ذلك، ولكنَّ الله سلَّم؛ وقد تأثَّر المسلمون ممَّا أسفرتْ عنه نتائج تلك المعركة، وظنُّوا أنَّ النصر لم يعد يعرف طريقًا إليهم، فبيَّن لهم - سبحانه - أنَّ النصر والهزيمة يَخضَعان لنواميس لا تتحوَّل، وقوانين لا تتخلَّف، وسنن لا تتبدَّل؛ (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الفتح: 23]، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) [آل عمران: 137].
ومن الآيات التي نزَلتْ بعد وقائع غزوة أحُدٍ: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]، نزلتْ تخفيفًا عن المسلمين ما نزَل بهم، وطلبًا منهم ألاَّ يستَسلِموا للضعف والهزيمة، ولا يَيْئَسوا من نصر الله، بل عليهم أنْ يُواجِهوا الموقف بقوَّةٍ وصلابة ورباطة جأش؛ وذلك لأنَّ مكانتهم في الدنيا والآخِرة أسمى وأرفع وأعلى من مكانة أهل الكفر والضلال؛ (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)[النساء: 141].
وقد روَى المفَسِّرون في سبب نزول الآية (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا)[آل عمران: 139] خبرَيْن:
الخبر الأول: رواه الطبري في "تفسيره" عن الزهري، قال: كَثُرَ في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - القتلُ والجِراح، حتى أصاب كلَّ امرئ منهم اليأسُ، فأنزل الله - عز وجل - القرآن، فواسَى فيه المؤمنين بأحسن ما واسَى به قومًا كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]، فجاءتْ هذه الآية تعزيةً لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحثًّا لهم على قتال عدوِّهم، ووعدًا لهم بالنصر والظفر عليهم.
والخبر الثاني: رواه الطبري أيضًا عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: أقبَلَ خالد بن الوليد - وكان ذلك قبلَ أنْ يُسلِم - يُرِيد أنْ يعلو عليهم الجبل - جبل أحدٍ - فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا يعلون علينا))، فأنزل الله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
طريقٌ آخَر لهذه الرواية يُفصِّل المعنى، ويُظهِر تفاصيل الحدث:
عندما انهَزَم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ أحُدٍ، قالوا: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضًا، وتحدَّثوا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قُتِل، فكانوا في همٍّ وحزن، فبينما هم كذلك إذ علاَ خالد بن الوليد الجبل بخيل المشركين فوقَهم، وهم أسفل الجبل، فلمَّا رأوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرِحُوا، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا قوَّة لنا إلا بك، وليس يَعبُدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر))، ورجَع نفرٌ من المسلمين الرُّماة، فصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين حتى هزَمَهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فأنزل - سبحانه - قوله: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، وقد صدَق الله وعدَه، ونصَر عبدَه، وهزَم أهلَ الشِّرك والضَّلال، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد وقعة أحُدٍ لم يخرج في غزوةٍ من غزواته إلاَّ كان النصر حليفَه، والتوفيق رفيقَه.
قال الإمام القُرطبي في "تفسيره" بعد ذِكْرِه سببَ نزول هذه الآية: "فلم يخرُجوا بعد ذلك عسكرًا إلاَّ ظَفِروا في كلِّ عسكرٍ كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كلِّ عسكر كان بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان فيه واحدٌ من الصحابة كان الظفر لهم".
على أنَّ الأمر المهمَّ وراءَ سبب نزول هذه الآية، هو أنْ يَعِيَ المسلمون اليوم درسَ يوم أُحُدٍ، وسُنَنَ الله في الأرض، ويتعلَّموا أنَّ قوانين الله في خلقه جارية لا تتخلَّف، وباقية لا تتبدَّل، وأنَّ الأمور لا تمضي جزافًا، وإنما تتبع قوانين محدَّدة، وسننًا ثابتة، فإذا هم درسوها، وأدركوا معانيها، وأخذوا بأسبابها، وعمِلُوا بمقتضاها، كان النصر حليفَهم، والتوفيق قائدهم، والعزَّة طريقهم، وأنَّ من أهمِّ تلك السنن أنَّ النصر دائمًا إنما يكون حليفًا لِمَن يُقِيم شرعَ الله، ويَعمَل على هدْي رسول الله؛ (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54].
• كيف لا وكلمةُ الله دائمًا هي العُليَا؛ (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 40]؟
• كيف لا ومنهجُ الله هو الأحسن؛ (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23]؟
• كيف لا وأفضلُ عملٍ على الإطلاق هو إنارة القلوب بنور الدعوة، وأحسن العاملين هم القائمون بالدعوة مقام المرسلين؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33]، ولقد اصطفى الله هؤلاء وهؤلاء؛ (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[الحج: 75]؟
• كيف لا وهذا نبيُّهم؟ عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُعطِيتُ خمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ قبلي: نُصِرتُ بالرُّعب مَسِيرة شهرٍ، وجُعِلتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، فأيُّما رجل من أمَّتي أدركَتْه الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّتْ لي المغانم ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، وأُعطِيتُ الشفاعة، وكان النبيُّ يُبعَث إلى قومِه خاصَّة وبُعِثتُ إلى الناس عامَّة))؛ متفق عليه.
• كيف لا واللهُ يقول لهم عبرَ نبيِّهم: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران: 196 - 197] عندما نادَى المشركون: أُعْلُ هُبَل، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أعلَى وأجلُّ))؟
• كيف لا واللهُ - تعالى - يردُّ على موسى - عليه السلام - يطمئنه عند القلق، ويُثبِّته عند اللِّقاء، ويُؤمِّنه عند الخوف؛ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)[طه: 67 - 68]؟
عند غِياب شرط الإيمان في الآية تأتي الهزيمة ويَغِيب النصر، كيف؟!
• في أُحُدٍ كانت الثغرة في ترْك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الطَّمَع في الغنيمة، فجُرِح الإيمان قبلَ أنْ تُجرَح الأجساد، وتأخَّر النصر، لكنَّ الله الرحيم عفَا عنهم بعد ذلك؛ (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152].
• وفي حُنَين كانت الثغرة في الاعتِزاز بالكثْرة والإعجاب بها، ونسيان السند الأصيل والركن الشديد؛ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)[التوبة: 25].
هذه الأمَّة لا تَصلُح إلا بنبوَّة، ولا تقوم إلا بدِينٍ، ولا تَرقَى إلا بشرائع السماء، والمنتمون إليها في مواقفهم قوَّة، وفي مبادئهم صَلابَة، وفي مواهبهم امتِداد، إذا نُودُوا بلا إله إلا الله محمد رسول الله، جرَّدوا القلوب لله، وترسَّمُوا طريقَ رسول الله، وبذَلُوا الأموال والأرواح في سبيل الله، كيف؟!
• في عزوة بدرٍ في 17 رمضان سنة 2 هجرية كان الإيمان يغزو القلوب، فأشرَقتْ به وتألَّقت، ومن ثَمَّ اعتَزَّتْ بدينها وانتَصرَتْ بإيمانها، قال ابن الجَمُوح: "إنها لَحياةٌ طويلةٌ حتى آكُل هذه التمرات".
وقال سعد بن مُعاذ: "لو خضتَ بنا البحر لَخُضناه معك ما تخلَّف منا رجلٌ واحد"، وقال: "خُذْ من أموالنا ما شِئتَ، واترك منها ما شِئتَ، إنَّ الذي تأخُذُه أحبُّ إلينا من الذي تترُكُه".
وقال المقداد: "لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسي: اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعِدون، ولكن: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مُقاتِلون".
وقال معاذ بن عَفراء وهو غُلامٌ يُرِيد أنْ يقتل اللعين أبا جهل: "والله لن يُفارِق سوادي سوادَه حتى يموت الأعجل منَّا"، لماذا؟! "إنِّي سمعتُ أنَّه يسبُّ رسولَ الله"؛ لذلك جاء النصر؛ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)[آل عمران: 123].
• فتحت حصون عمورية في رمضان 223 هجرية بعد أنْ نُقِلَ إلى الخليفة المعتصم بالله العباسي أنَّ امرأةً مسلمة قد وقعَتْ بيد الروم ونادَتْ: وامعتصماه! وامعتصماه! فقال: لبَّيك.. لبيك، وأقسَمَ ألاَّ يعود إلاَّ شهيدًا أو ظافِرًا منتقمًا للمرأة المسلمة، فتحرَّك - ملبِّيًا النداء، ومجيبًا الاستغاثة - في مائة وخمسين ألفًا من جنوده، ولم تَغِبْ شمسُ يوم 17 رمضان إلاَّ وكانت المدينة قد فُتِحَتْ، وشُوهِد المعتصم بن الرشيد يدخُل عمورية على صهوة جَوادِه الأصهب.
• وفي العصر الحديث معركة الفرقان في غزة الرحمن، كان العدوُّ ينتَفِخ وينتَفِش، وكان أعوانُه ينتَفِخون أكثر، يُنافِقون، ويَعبَثون، ويَجمَعون، وكان المجاهِدون بحبلِ الله يعتَصِمون، وفي ركن الله يُرابِطون، ومن عون الله يستمدُّون، فانتَصَرُوا وإنْ قَلَّ العدد، وفازُوا وإنْ ضعفت العُدَّة، واعتزُّوا وإنْ طالت المعركة، أمَّا أعداؤهم فانهزَمُوا نفسيًّا وعسكريًّا ومعنويًّا، وما زالت أذيال الحسْرة والنَّدامة تُلاحِقهم، حتى كتابة هذه السطور وإلى الأبد - بإذن الله - ما استَمسَك المسلمون بدينهم، ما اعتزُّوا بإيمانهم، وصدَق الله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران: 173 - 174].
خلَق الله الإنسانَ، كلَّ الإنسان؛ مؤمنهم وكافرهم، أبيضهم وأسودهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم - في أحسن تقويم، إنْ آمَنُوا حافَظوا على هذه المنزلة، وإنْ فقدوا الإيمان تردَّوا حتى يبلُغوا أسفل سافِلِين؛ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [التين: 4 - 6].
يقول صاحب "الظلال" في "ظلاله": (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]، لا تَهِنُوا من الوهن والضعف، ولا تحزنوا لما أصابكم ولما فاتكم وأنتم الأعلون.
• عقيدتكم أعلى؛ فأنتم تَسجُدون لله وحدَه، وهم يَسجُدون لشيءٍ من خلْقه أو لبعضٍ من خلقه.
• ومنهجكم أعلى؛ فأنتم تَسِيرون على منهجٍ من صنع الله، وهم يَسِيرون على منهجٍ من صنع خلْق الله.
• ودوركم أعلى؛ فأنتم الأوصِياء على هذه البشريَّة كلِّها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شارِدُون عن النَّهْجِ، ضالُّون عن الطريق.
• ومكانكم في الأرض أعلى؛ فلكم وِراثة الأرض التي وعَدَكم الله بها، وهم إلى الفَناء والنِّسيان صائرون، فإنْ كنتم مؤمنين حقًّا فأنتم الأعلون، وإنْ كنتم مؤمنين حقًّا فلا تَهِنُوا ولا تحزَنوا، فإنما هي سنَّة الله أنْ تُصابُوا وتُصِيبوا على أنْ تكون لكم العُقبَى بعدَ الجهاد والابتِلاء والتَّمحيص؛ (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 140 - 141].
والمستفاد من هذه الآية:
بيانُ سنَّة الله في المدافعة بين الكفْر والإيمان، والحق والباطل، وأنَّ العاقبة للمتَّقين، والخزْي والسوء لاحقٌ بالكافرين، وإنْ كان ظاهر الأمر يدلُّ على خِلاف ذلك فإنما هو من باب الاستِدراج للكافرين، والابتِلاء للمؤمنين، فإنَّ للباطل جولة، ثم لا يَلبَث أنْ يندَحِر، وسرعان ما يندَثِر، ويَبُوء بالفشل والخذلان، وهذا ما تُؤكِّده وقائعُ التاريخ الماضي والحديث.
اللهم اجعلنا من جند الحق، وأتْباع الرسل، وأنصار الله، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعَل الدنيا أكبَر همِّنا ولا مَبلَغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.