قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة ، دار عالم الفوائد مكة المكرمة ، (ط1: 2 / 560 - 563) :
(فارجِع الآن إلى النُّطفة، وتأمَّل حالها أوَّلًا، وما صارت إليه ثانيًا، وأنه لو اجتمع الإنسُ والجنُّ على أن يخلقوا لها سمعًا أو بصرًا، أو عقلًا أو قدرة، أو علمًا أو روحًا، بل عظمًا واحدًا مِنْ أصغر عظامها ، بل عِرقًا من أدقِّ عروقها ، بل شعرةً واحدة لعجزوا عن ذلك، بل ذلك كلُّه آثارُ صُنع الله الذي أتقن كلَّ شيءٍ في قطرةٍ من ماءٍ مَهين.
فمَن هذا صُنعُه في قطرة ماء، فكيف صُنعُه في ملكوت السَّموات، وعُلوِّها، وَسَعَتِها، وَاستدارتها، وعِظَمِ خَلْقِها، وحُسْن بنائها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها، وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها؟!
فلا ذرَّة فيها تنفكُّ عن حكمة، بل هي أحكمُ خَلقًا، وأتقنُ صنعًا، وأجمعُ للعجائب من بدن الإنسان، بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السَّموات؛ قال الله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا
{فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إلى قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]؛ فبدأ بذكر خلقِ السَّموات، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190]. وهذا كثيرٌ في القرآن.
فالأرضُ والبحارُ والهواءُ وكلُّ ما تحت السَّموات- بالإضافة إلى السَّموات- كقطرةٍ في بَحْر، ولهذا قَلَّ أن تجيء سورةٌ في القرآن إلا وفيها ذِكرُها؛ إما إخبارًا عن عظمتها وسَعَتها، وإما إقسامًا بها، وإما دعاءً إلى النظر فيها، وإما إرشادًا للعباد أن يستدلُّوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالًا منه سبحانه بخَلْقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة، وإما استدلالًا منه بربوبيَّته لها على وحدانيَّته وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالًا منه بحُسْنها واستوائها والتئام أجزائها وعدم الفُطور فيها على تمام حكمته وقدرته.
وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصرُ عقولُ البشر عن قليلها، فكم مِن قَسَمٍ في القرآن بها؛ كقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} [البروج: 1]، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} [الطارق: 1]، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} [الطارق: 11]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [الشمس: 1]، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)} [الطارق: 3]، {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} [التكوير: 15]، ولم يُقْسِم في كتابه بشيءٍ من مخلوقاته أكثر من السَّماء والنُّجوم والشمس والقمر، وهو سبحانه يقسمُ بما يقسمُ به من مخلوقاته لتضمُّنه الآياتِ والعجائبَ الدالَّة عليه، وكلما كان أعظم آيةً وأبلغَ في الدَّلالة كان إقسامُه به أكثرَ من غيره.
ولهذا يُعَظِّمُ سبحانه هذا القَسَم؛ كقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76]، وأظهرُ القولين أنه قَسَمٌ بمواقع هذه النُّجوم التي في السَّماء؛ فإنَّ اسمَ النُّجوم عند الإطلاق إنما ينصرفُ إليها.
وأيضًا؛ فإنه لم تَجْرِ عادتُه سبحانه باستعمال النُّجوم في آيات القرآن، ولا في موضعٍ واحدٍ من كتابه، حتى تُحْمَل عليه هذه الآية، وجَرَت عادتُه سبحانه باستعمال النُّجوم في الكواكب في جميع القرآن.
وأيضًا؛ فإنَّ نظيرَ الإقسام بمواقعها هنا إقسامُه بِهُوِيِّ النَّجم في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}، وأيضًا فإنَّ هذا قولُ جمهور أهل التفسير.
والمقصود أنه سبحانه إنما يقسمُ من مخلوقاته بما هو من آياته الدَّالَّة على ربوبيته ووحدانيته، وقد أثنى سبحانه في كتابه على المتفكِّرين في خلق السَّموات والأرض، وذَمَّ المُعْرِضين عن ذلك؛ فقال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 32]).