مفهوم اليقين في القرآن الكريم
عبد الحكيم درقاوي






مفهوم اليقين لُغةً واصطلاحًا:
تعريف اليقين في اللُّغة:
يتطوَّر مصطلحُ اليقين - داخلَ القواميس اللُّغوية -[1] ليفيد:
1- العِلم وإزاحة الشكِّ، وتحقيق الأمر.
2- وفي كلام ربِّ العالمين: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) [الحاقة: 51]، فأضاف - جلَّ وعزَّ - الحقَّ إلى اليقين، وليس هو مِن إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأنَّ الحق غير اليقين، إنَّما هو خالصُه وأصحُّه، فجَرَى مجْرى إضافةِ الخاص إلى العام.
3- وقوله - تعالى -: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]؛ أي: حتى يأتيك الموت، وفيه: الأمر بالإقامة على العِبادة إلى الممات.
4- وتُعبِّر العرب بالظنِّ عن اليقين، وباليقين عن الظنِّ، ومنه قول أبي سدرة الأسدي:
تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وَأَيْقَنَ أَنَّنِي *** بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِدٍ لاَ أُغَامِرُهْ
يقول: تشمَّم الأسدُ ناقتي يظنُّ أنني أفتدي بها منه، وأستحْمي نفسي فأترُكها له، ولا أقتحم المهالِك بمقاتلته.
وإنَّما سُمِّي الأسد هَوَّاسًا؛ لأنَّه يهوس الفريسةَ؛ أي: يدقُّها.
تعريف اليقين في الاصطلاح:
نقَل ابن قيِّم الجوزية (تـ751هـ)- رحمه الله - عن الخاصَّة مِنْ أهل العِلم في "المدارج"[2] زُمرةً من التعريفات لليقين، وإنْ كانتْ هذه التعريفاتُ متباينةً من حيث المبنَى، إلا أنها متحِدة من حيثُ المعنى، ومن ذلك:
1- قول الجُنَيْد: اليقين هو استقرارُ العِلْم الذي لا ينقلِب ولا يُحوَّل ولا يتغيَّر في القلْب.
2- وقول ذي النون: اليقين هو النَّظرُ إلى الله في كلِّ شيء، والرُّجوع إليه في كلِّ أمر، والاستعانة به في كلِّ حال.
وأورد الجرجانيُّ في تعريفاته[3]: أنَّ اليقين هو: طُمأنينة القَلْب، على حقيقة الشيءِ وتحقيق التصديق بالغَيْب، بإزالة كلِّ شكٍّ ورَيْب.
إنَّ عماد تعريف (اليقين) هو: العِلْم المستودَع في القلْب، الذي يُعارِض اللَّبْسَ والتشكيك والرَّيب، وهو مِن الإيمان الجازم بمنزلة الرُّوح من الجسد، فقد أخرج الطبراني من طريق عبدالله بن مسعود، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ اللَّهَ - تعالى - بِقِسْطِه وَعَدْلِه جَعَلَ الرَّوْحَ والْفَرحَ في الرِّضا وَالْيَقِين))[4].
وفي اليقين لابن أبي الدُّنيا من طِريق العلاء بن عُتْبة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهمَّ إني أسألك إيمانًا تباشِر به قلْبي، ويَقينًا حتى أعلمَ أنه لا يمنعني رِزقًا قسمتَه لي، ورِضًا من المعيشة بما قسمتَ لي))[5].
مفهوم (اليقين) في القرآن الكريم:
وردتْ مادة (يَقِنَ) في القرآن الكريم في عِشرين آية باشتقاقات مختلِفة، موزَّعة على أرْبعَ عشرةَ سورة[6].
وعند التأمُّل في هذه الآيات نجد أنَّ مفهوم (اليقين) يختلِف معناه باختلاف مظانِّه داخلَ النسق القرآني، ويُمكن تصفيفُ هذه المعاني كالتالي:
1- اليقين: العِلم الجازم الذي لا يَقبل التشكيك؛ قال - تعالى -: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة: 95]، وقال أيضًا: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ)[الحاقة: 51].
فآيةُ الواقعة جاءتْ تذييلاً لجميع ما اشتملتْ عليه السورةُ مِن المعاني المثبتة مِن "عظيم صفاته، وبديع صُنْعه، وحِكْمته وعدله، وتبشيره النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأمَّتَه بمراتبَ من الشرف والسلامة، على مقادير درجاتهم وإيمانهم الجازم، وبنِعْمة النجاة مما يَصير إليه المشرِكون من سوء العاقبة"[7].
وآية الحاقَّة: تحقيقٌ وتأكيد منه - تعالى -: أنَّ هذا القرآن الكريم هو الحقُّ اليقين، الذي لا شكَّ فيه أنَّه من عندَ الله، لم يتقوَّلْه محمد - صلى الله عليه وسلم - بل هو: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الحاقة: 43]، ليس بشِعْر ولا كَهَانة، و (إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [الحاقة: 48]، (وَإِنَّهُ لحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ)[الحاقة: 50] المكذِّبين.
2- اليقين: الموت؛ قال - سبحانه -: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
يقوله - تعالى - ذِكْرُه - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: واعبُدْ ربَّك حتى يأتيك الموت، وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وعبدالرحمن بن زَيْد بن أسلمَ، وغيرُه[8].
وفي الصحيح مِن حديثِ الزُّهريِّ، عن خارجةَ بن زَيْد بن ثابت: أنَّ أمَّ العلاء - امرأة ِمن الأنصار - بايعتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبرتْه أنه اقتسم المهاجِرون قُرعة، فطار لنا عثمانُ بن مظْعون، فأنْزلْناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي تُوفِّي فيه، فلمَّا تُوفي، وغُسِّل وكُفِّن في أثوابه، دخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك: لقدْ أكرمك الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما يُدريك أنَّ الله قد أكرَمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسولَ الله، فمَن يُكرمه الله؟ فقال: ((أمَّا هو فقد جاءَه اليقينُ، واللهِ إني لأرجو له الخير))[9].
والدليل على أنَّ اليقين في الآية هو الموت: قوله - تعالى - إخبارًا عن أهْل النار أنَّهم قالوا: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)[المدثر: 43 - 47].
والجمْع بيْن الآيتين حُجَّة على:
-أنَّ العبادة كالصلاة ونحوها واجبةٌ على الإنسان ما دام عاقلاً ثابتًا.
-تَخطِئة مَن ذَهَب من الملاحدة إلى أنَّ المراد باليقين المعرِفة، فمَتى وصل أحدُهم إلى المعرفة، سقَط عنه التكليفُ عندهم، وهذا كُفْر وضلال وجهل، فإنَّ الأنبياء - عليهم السلام - كانوا هم وأصحابهم أعلمَ الناس بالله، وأعرفَهم بحقوقه وصفاته، وما يستحقُّ من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبدَ الناس، وأكثرَ الناس عبادةً، ومواظبةً على فِعْل الخيرات إلى حين الوفاة[10].
3- مراتب اليقين: يقول الله - تعالى - في مُحكَم تنزيله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 1 - 8].
هذه السُّورةُ تحدَّثتْ عن انشغال الناس بمغريات الحياة وسفاسفها، وتَكالُبِهم على جمْع حُطام الدنيا ومغرياتها، "فيقول - تعالى - موبِّخًا إيَّاهم عن اشتغالهم عما خُلِقوا له من عبادته وحْدَه لا شريكَ له، ومعرفته، والإنابة إليه، وتقديم محبَّته على كلِّ شيء: (أَلْهَاكُمُ) عن ذلك المذكور (التَّكَاثُرُ) ولم يذْكر المتكاثَر به؛ ليشملَ ذلك كلَّ ما يَتكاثَر به المتكاثِرون، ويفتخر به المفتخِرون، من التكاثُر في الأموال والأولاد، والأنصار والجنود، والخدم والجاه، وغير ذلك مما يُقصد منه مُكاثَرة كلِّ واحد للآخَر، وليس المقصود به الإخلاصَ لله - تعالى -.
فاستمرَّت غفلتكم ولهوتُكم (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، فانْكشف لكم حينئذٍ الغِطاء، ولكن بعد ما تعذَّر عليكم استِئْنافه.
ودلَّ قوله: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) أنَّ البرزخ دارٌ مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية؛ لأنَّ الله سمَّاهم زائرين، ولم يُسمِّهم مقيمين.
فدلَّ ذلك على البعْث والجزاء بالأعمال في دار باقية غير فانية، ولهذا توعَّدهم بقوله: (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)؛ أي: لو تعلمون ما أمامَكم عِلمًا يصل إلى القلوب، لَمَا ألهاكم التكاثُر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة، ولكن عدم العِلْم الحقيقي، صيَّركم إلى ما ترون.
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)؛ أي: لتردنَّ القيامة، فلترونّ الجحيم التي أعدَّها الله للكافرين.
(ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)؛ أي: رؤية بصرية، كما قال - تعالى -: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)[الكهف: 53].
(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) الذي تنعمْتُم به في دار الدنيا، هل قُمتُم بشُكْره، وأديتم حقَّ الله فيه، ولم تستعينوا به على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعْلى منه وأفضل؟
أمِ اغتررتم به، ولم تقوموا بشُكْره؟ بل ربَّما استعنتم به على معاصي الله، فيعاقبكم على ذلك"[11].
وفي السُّورة أيضًا ثلاثةُ درجات لليقين:
- علم اليقين: وهو قَبول ما ظَهَر من الحق - تعالى -، مِن أوامره ونواهيه، وشَرْعه ودِينه الذي جاء على ألْسِنة رُسُله، فنتلقَّاه بالقَبول والإذْعان والانصياع لله - جَلَّتْ قُدرته.
وقَبول ما غاب من أمور المَعاد، والجنة والنار، وما قبل ذلك من بعْث وصِراط وميزان وحساب، وإثْبات الأسماء والصِّفات.
فقَبول هذا كله هو عِلْم اليقين الذي لا يُخالِج القَلْب فيه ريبٌ ولا مِرْية، ولا تعطيل أو نفي.
-عين اليقين: ويُرَاد به أنَّ المعارِف التي حصَلتْ سلفًا ترْتقي من درجة العِلْم الجازم بها، إلى دَرَجة النظر إليها بالأنظار، والكَشْف عنها بالأبصار، فتخرق بذلك المشاهدة سِتار العِلم، فيلامس هذا الأخيرُ القَلْبَ والبصر معًا.
-حق اليقين: وهذه الدَّرجة تحصيلٌ لِمَا حصَل من العلم والمشاهدة.
فالفَرْق بين مراتب اليقين كالفرق بيْن الخبر الصادِق والعِيان، وحق اليقين فوقَ هذا كله.
وقد مثَّل ابن القيِّم لهذه المراتب الثلاث بقوله: "من أخبرك أنَّ عنده عسلاً وأنت لا تشكُّ في صِدْقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذُقتَ منه، فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين"[12].
فعِلْمُنا بالجنة والنار عِلْم اليقين، فإذا أُزْلِفتِ الجنة للمتقين، وشاهدَها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين، وعايَنها الخلائق، فذلك عينُ اليقين، فإذا دخَل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النار النارَ، فذلك حينئذٍ حق اليقين.
4- ما أعدَّه الله للموقنين في القرآن:
- خصَّ - عز وجل - المتقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[الأنعام: 75].
- وخصَّ أهل اليقين بالهُدى والفلاح، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة: 4 - 5].
- وإذا تزاوج الصبرُ باليقين وُلِدت بينهما الإمامةُ في الدين؛ قال - تعالى -: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24]، يَهْدُون أتباعهم وأهل القَبول منهم بإِذْن الله لهم بذلك، وتقويته إيَّاهم عليه.
____________
[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (يقن) 15/132، دار صادر، بيروت ط 2005، تاج العروس، مادة (يقن).
[2] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، 2/125، مكتبة الصفا، القاهرة، ط 2004.
[3] الجرجاني، التعريفات، باب الياء (اليقين) 1/85.
[4] رواه الطبراني في المعجم الكبير10/215، والبيهقي في شعب الإيمان 1/221.
[5] ابن أبي الدنيا، اليقين ص: 25.
[6] محمد صدقي العطار، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (حرف الياء)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 2010.
[7] الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير 15/374.
[8] تفسير الطبري 17/12، وتفسير ابن كثير 4/553.
[9] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميِّت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه.
[10] تفسير ابن كثير 4/554.
[11] عبدالرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/933، مؤسسة الرسالة، ط 2000.
[12] مدارج السالكين 2/129.