( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )
بهذه النصاعة، وبهذا الوضوح بين الله تعالى لنا المنهاج والطريق... فالطريق الصحيح والمنهاج القويم.. هو ملة إبراهيم... لا غموض في ذلك ولا التباس، ومن يرغب عن هذه الطريق بأى حجة او زعم - والمزاعم كثيرة .. أو أن سلوكها يجر فتناً وويلات على المسلمين، أو غير ذلك من المزاعم الجوفاء.. التي يلقيها الشيطان في نفوس ضعفاء الإيمان - فهو سفيه، مغرور يظن نفسه أعلم بأسلوب الدعوة من إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي زكاه الله فقال: ( ولقد آتينا إبراهيم رشده ) ، وقال: ( ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين )، وزكى دعوته لنا وأمر خاتم الأنبياء والمرسلين باتباعها، وجعل السفاهة وصفاً لكل من رغب عن طريقه ومنهجه. وملة إبراهيم تقوم على:
-1 -إخلاص العبادة لله وحده، بكل ما تحويه كلمة العبادة من معان.
- 2 - والبراءة من الشرك وأهله.
يقول الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:
الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه.
الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه وتكفير من فعله"اهـ.
وهذا هو التوحيد الذي دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. وهو معنى لا إله إلا الله. إخلاص وتوحيد وإفراد لله عز وجل في العبادة والولاء لدينه ولأوليائه، وكفر وبراءة من كل معبود سواه ومعاداة أعدائه..
فهو توحيد اعتقادي وعملي في آن واحد.. فسورة الإخلاص - دليل على الاعتقادي منه وسورة الكافرون - دليل على العملي، وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه يكثر من القراءة بهاتين السورتين ويداوم عليهما في سنة الفجر وغيرها.. لأهميتهما البالغة.
وقد يظن ظان أن ملة إبراهيم هذه تتحقق في زماننا هذا بدراسة التوحيد، ومعرفة أقسامه وأنواعه الثلاثة معرفة نظرية وحسب.. مع السكوت عن أهل الباطل وعدم إعلان وإظهار البراءة من باطلهم.
فلمثل هؤلاء نقول: لو أن ملة إبراهيم كانت هكذا لما ألقاه قومه من أجلها في النار، بل ربما لو أنه داهنهم وسكت عن بعض باطلهم ولم يسفه آلهتهم ولا أعلن العداوة لهم واكتفى بتوحيد نظري يتدارسه مع أتباعه تدارساً لا يخرج إلى الواقع العملي متمثلاً بالولاء والبراء والحب والبغض والمعاداة والهجران في الله. ربما لو أنه فعل ذلك لفتحوا له جميع الأبواب، بل ربما أسسوا له مدارس ومعاهد كما في زماننا يدرس فيها هذا التوحيد النظري..وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ - ولربما وضعوا عليها لافتات ضخمة وسموها: مدرسة أو معهد التوحيد، وكلية الدعوة وأصول الدين.. وما إلى ذلك.. فهذا كله لا يضرهم، ولا يؤثر فيهم ما دام لا يخرج إلى الواقع والتطبيق..
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في الدرر السنية: "لا يُتصور أن -أحداً- يعرف التوحيد ويعمل به ولا يعادي المشركين ومن لم يعادهم لا يقال له عرف التوحيد وعمل به" أهـ. جزء الجهاد ص167.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنه سكت في بادىء الأمر عن تسفيه أحلام قريش والتعرض لآلهتهم وعيبها ولو أنه "حاشاه" كتم الآيات التي فيها تسفيه لمعبوداتهم كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.. والآيات التي تتعرض لأبي لهب والوليد وغيرهما.. وكذا آيات البراءة منهم ومن دينهم ومعبوداتهم -وما أكثرها كسورة (الكافرون) وغيرها.. لو فعل ذلك.. وحاشاه من ذلك.. لجالسوه ولأكرموه وقرّبوه.. ولما وضعوا على رأسه سلى الجزور وهو ساجد، ولما حصل له ما حصل من أذاهم مما هو مبسوط ومذكور في الثابت من السيرة.. ولما احتاج إلى هجرة وتعب ونصب وعناء.. ولجلس هو وأصحابه في ديارهم وأوطانهم آمنين.. فقضية موالاة دين الله وأهله ومعاداة الباطل وأهله فُرضت على المسلمين في فجر دعوتهم قبل فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج، ومن أجلها لا لغيرها حصل العذاب والأذى والابتلاء.
يقول الشيخ حمد بن عتيق في رسالة له في الدرر السنية: "فليتأمل العاقل وليبحث الناصح لنفسه عن السبب الحامل لقريش على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة وهي أشرف البقاع، فإن المعلوم أنهم ما أخرجوهم إلا بعدما صرحوا لهم بعيب دينهم وضلال آبائهم، فأرادوا منه صلى الله عليه وسلم الكف عن ذلك وتوعدوه وأصحابه بالإخراج، وشكا إليه أصحابه شدة أذى المشركين لهم، فأمرهم بالصبر والتأسي بمن كان قبلهم ممن أوذي، ولم يقل لهم اتركوا عيب دين المشركين وتسفيه أحلامهم، فاختار الخروج بأصحابه ومفارقة الأوطان مع أنها أشرف بقعة على وجه الأرض ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) أهـ. من جزء الجهاد ص199.
وهكذا فإن الطواغيت في كل زمان ومكان لا يظهرون الرضا عن الإسلام أو يهادنونه ويقيمون له المؤتمرات وينشرونه في الكتب والمجلات ويؤسسون له المعاهد والجامعات إلا إذا كان ديناً - مقصوص الجناحين - بعيداً عن واقعهم وعن موالاة المؤمنين والبراءة من أعداء الدين وإظهار العداوة لهم ولمعبوداتهم ومناهجهم الباطلة.
من كتاب / ملة إبراهيم