هل توجد علاقة بريئة وأخرى غير بريئة؟!

أبو علي طه بن حسين



بين الفتاة والشاب..


بين المرأة والرجل..



قيل... العلاقة البريئة تواصل بين رجل وامرأة أو فتى وفتاة، يفترض أن تحدها حدود وأن لا تتطور، يشملها الأدب العام والعرف، ويصل الأمر إلى المصارحات والصدق، الألفة والثقة بين الطرفين، ولا بأس بمعرفة الأهل بهذه العلاقة إلى حد ما، وقد تتعدى الصداقة إلى الأخوية، وكلا الطرفين يحرص على مصلحة الآخر، وذلك دون الوصول إلى ما حرمه الله , وقد يكون أحد الطرفين متزوجا.. ولكن لا بأس فإنها علاقة بريئة، ويكون الحديث فيها بالأمور الحياتية العادية أو المشاكل الشخصية العادية ومناقشتها, ومن أكبر مميزات هذه العلاقة أن المجتمع يرعاها ويعترف بها...

والخلاصة أن أصحاب هذه العلاقة على قناعة بصحتها وبراءتها من الفحش، وأنها علاقة طبيعية مادامت لا تصل إلى ما حرمه الله، ومادامت هذه العلاقة في العلن!!!

ولكن.. ما حقيقة هذه العلاقة؟ وما مدى صحة ما يقولونه؟..

لحل هذا الإشكال نوضح لب وأساس هذه العلاقة بكل صراحة من زاويتين: أولاً: الواقعية. ثانياً: الشرعية.

1ـ إن المصارحة والصدق والثقة في هذه العلاقة كالسم في العسل, إذ إن هذا الصدق ما هو إلا قناع لعملية تمثيلية يصور كل واحد منهم نفسه في أحسن صورة ويزين مظهره ويتزين في كلامه ولا يقبل أن يتعرف الطرف الأخر على عيوبه, فهلا ذكر عيباً من نفسه حتى يكون صريحاً؟ ولو حدث فإنه يمدح نفسه في صورة الذم كأن تقول أو يقول: أكبر عيب عندي أنى صريح، وإني أعيب على نفسي قول الحق بدون مجاملة... فأين الصدق والصراحة؟ بل على العكس أوضح ما في هذه العلاقة الكذب والمخادعة، سواء على نفسه أو على الآخر. ومن أوضح ما يبين مسألة التظاهر الكاذب طرح كلا الطرفين في بعض الأحيان موضوعات تبدو مهمة، كأن تكون قضية سياسية أو نفسية أو دينية، ويتنافس كلا الطرفين بإبداء رأيه في هذه القضية ووجهة نظره لا لشيء إلا ليظهر أنه على دراية وإلمام بشتى العلوم والثقافات، وهذا أمر واضح جداً.

2ـ هذه العلاقة يفترض أنها لا تتعدى الصداقة والزمالة البريئة, ولكن ما يُدرى كلا الطرفين أن الآخر طور أو يطور هذه العلاقة ولو من طرف واحد؟

3ـ يجد الرجل في هذه العلاقة الراحة والتسلية, فينشرح صدره وينسى همومه ويأنس بهذه المحادثات والمناقشات, هو لا يبحث عن حل أو يريد أن يحقق غرضا وإنما يريد أن يفرغ همه، وهذا حاصل في هذه العلاقة, فليس مهماً أن تكون الفتاة جميلة المنظر، وإنما هي كفتاة تحمل مراده وتحقق غايته من تسلية النفس وانشراح الصدر أثناء المجالسة، سواء عياناً أو هاتفياً، وهذا الأنس مركب في طبع الرجل تجاه المرأة لا ينكره عاقل, ويقابل ذلك عند المرأة زيادة على هذا تحقيق الشعور بالذات والأهمية وزيادة الثقة بالنفس نتيجة لطلب الفتى أو الرجل إياها والتظاهر باحترامها, وكما ذكرنا أنه لا يتورع عن المخادعة والتمثيل فهي تحكمه بدلالها وهو يحكمها بدهائه.

4ـ إذا كانت هذه العلاقة لا تدعو إلى الفاحشة؛ فهذا ليس دليلاً على صحتها وشرعيتها، فقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يقولون: (الحب يطيب بالنظر ويفسد بالغمز)، وكانوا لا يرون بالمحادثة والنظر للأجنبيات بأساً مادام في حدود العفاف. وهذا كان من دين الجاهلية، وهو مخالف للشرع والعقل؛ فإن فيه تعريضاً للطبع لما هو مجبول على الميل إليه، والطبع يسرق ويغلب. والمقصود أن أصحاب هذه العلاقة رأوا عدم العفاف يفسد هذه العلاقة فغاروا عليها مما يفسدها فهم لم يبتعدوا عن الفاحشة تديناً![2]

5ـ و منذ متى واعتراف المجتمع يعد معياراً فهل اعترافه بعلانية بيع الخمور يبيح الخمر؟!

إن معيار المجتمع معيار ناقص، وكذلك معيار كثرة المترددين على الأمر لا يعد دليلاً على صحته، يقول الله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة100).

6ـ من أوضح ما يلاحظ في هذه العلاقة أن كلا الطرفين يرى الآخر في أحسن صورة، حتى لو كان عكس ذلك، بمعنى أنه قد يكون الشاب أو الرجل تافها وسمجا وغير متزن، والفتاة التي معه قد لا تقبله زوجاً، ولكن مع ذلك فهي تراه في صورة محببة إلى نفسها، بدليل استمرار هذه العلاقة بينهما. وكذلك الفتاة أو المرأة قد تكون لها من التفاهة نصيب كبير وأفكارها ساذجة وليس لها همة في عمل شيء مفيد وموضوعاتها المطروحة تنم عن فراغ في العقل، بل زد على ذلك أنها قد تكون غير جميلة وأيضاً لا يقبلها الشاب زوجة، ومع كل هذا يشعر تجاهها بارتياح وقبول، وقد يتفقدها ويسأل عنها إذا غابت بل قد يغار عليها.. إذاً ما سر هذا الترابط واستمرار هذه العلاقة على الرغم من علم كلا الطرفين بنقائص الآخر؟!

وجواب هذا : أنه من تزيين الشيطان؛ إذ يزين كل طرف للآخر، فإذا رأى أحدهما من الآخر عيباً أو نقصاً يستحسنه ويقبله، والدليل على ذلك أن صاحب هذه العلاقة لا يقيمها مع أخته أو زوجته إن كان متزوجاً، بل قد تكون أخته أكثر اتزاناً وعقلاً من التي يبني معها هذه العلاقة، بل إنه لا يقبل من أخته ما يقبله منها، وكذلك الفتاة صاحبة هذه العلاقة قد يكون لها أخٌ شقيق هو أفضل من هذا الذي تبني معه هذه العلاقة، ولكن مع هذا فهو لا يغنيها عن هذا الشاب أو الرجل، فهكذا يتضح جلياً مدى تزيين الشيطان، ويكثر في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ..}. .. والمقصود أن الشيطان لا يدعو إلى الشيء ويسميه باسمه أو بصفته، بل يبسط الصعب ويهون العظيم، حتى إذا دعا إلى الفاحشة يقول: هذا أمر طبيعي وعادي، إن فلان وفلان يفعلونه، إن كثيراً من الناس يقومون به، إنه ليس بالأمر الكبير، قد يكون خطأ ولكنه ليس جريمة... وهكذا، ولا ينتبه إلى هذا إلا من أنار الله قلبه بالإيمان به، والوقوف على أوامره ونواهيه.

7ـ هذه العلاقة تقوم على الاستغلال , وذلك من قبل الرجل أكثر منه من قبل المرأة , فالمرأة عاطفية أكثر من الرجل بكثير؛ لذا فهي ترى أن أهم مكسب لها من هذه العلاقة هو الإشباع العاطفي المتمثل في وجود شخص يهتم بها ويحترمها, والمكسب الآخر الذي لا يقل أهمية عنه هو المشاركة الوجدانية، وذلك متمثل في وجود شخص ينصت إلى مشاكلها وآلامها ويبادلها الرأي باهتمام, هذه هي المرأة وهذه هي تركيبتها عموما، ولا محل هنا للبيئة أو التربية أو الالتزام , فأي امرأة يكفيها أن تجد من يهتم بها، وفى الوقت نفسه ينصت إليها ويشاركها مشاكلها, ولا يشترط أن يجد لها حلا, ثم يأتي دور الرجل أو الصديق فالرجل لا ينظر للأمور بنظرة عاطفية كالمرأة مما يؤهله أن يكون هو الطرف المستغل لهذه العلاقة فيأتى هنا دوره التمثيلي, فيتفنن في إظهار الاحترام والتقدير لهذه الفتاة ويعطيها الثقة في نفسها. ثم ينفذ المرحلة الثانية باقتدار أيضا , فينصت إلى ما تطرحه من مشاكل أو أفكار ثم يشعرها بأنه كالطبيب المعالج وكالفقيه الحكيم , فإذا كان غرض الفتاة من هذه العلاقة ـ كما ذكرنا ـ هو الإشباع العاطفي والمشاركة الوجدانية.. فهل يمنحها هذا الشاب كل هذا من غير مقابل, لوجه الله مثلا! أبدا, فكما ذكرت سابقا أن الرجل يكفيه من المرأة ولو حتى سماع صوتها أو رؤيتها والأنس بها والتسلي, هذا في إطار العلاقة البريئة! وغالبا ما ينفلت الزمام من أيديهما.

هذه هي العلاقة بين الرجل والمرأة أو الفتى والفتاة، وهذا ـ بكل صراحة ـ هو ما يقوم به الرجل أو الشاب من استغلال واستغفال للفتاة أو المرأة في هذه العلاقة المسماة بالبريئة.

1ـ إنه من المعلوم يقيناً أن أصحاب هذه العلاقة يتبادلان النظر ولو بعفوية أو حسن نية، أليس كذلك؟..

يقول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِين َ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَات ِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ.. } وهذا أمر من الله يقتضي الوجوب للمؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وهنا ليس لحسن النية أو سوء النية محل, وإنما استثنى نظرة الفجأة فقط، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى".

2ـ يقول صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير الصفوف النساء آخرها وشرها أولها" هذا بشأن الصلاة في المسجد، فوصف المتأخرات بالخير لبعدهن عن رؤية الرجال وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم. يا الله.. هذا بشأن المسجد الذي هو مكان العبادة وبحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فما بال من تتجرأ وتقول هذا زميلي في الجامعة أو العمل أو تقول إنها علاقة بريئة أو إن نيتها سليمة؟!

هل أنت نيتك سليمة، ومن أمرهن النبي بتجنب مخالطة الرجال نيتهن سوء، أم أنه أمر واجب التنفيذ على الفور؟!

3ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدى فتنة هي أضر على الرجال من النساء" (رواه البخاري ومسلم), فقد وصف النبي النساء بأنهن فتنة على الرجال فكيف يجلس الفاتن مع المفتون؟ أم كيف تكون هناك صداقة بين الفاتن والمفتون.

4ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له". فأين الذين يتجرؤون على المصافحة - وما شابهها - من أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟!

ومن هذا كله يتضح أنه لا توجد علاقة بريئة أو صداقة بين الرجل والمرأة أو الفتى والفتاة سواء في الجامعة أو العمل أو أي مكان, أما كلمة علاقة بريئة فقد أطلقها كل مخادع لنفسه وغيره على علاقة لا ترضي الله ورسوله.

وبعيداً عن هذا كله نهمس في أذن من كان مقتنعا بهذه العلاقة ونسأله ونسألها:

إن الوقت والأعمال تسجل إما في ديوان الحسنات أو ديوان السيئات، ففي أي الديوانين يسجل الوقت الذي قضيتَه أو قضيتِه تحت عنوان العلاقة البريئة.. أفي الحسنات أم السيئات؟!

إذاً البدار البدار إلى التوبة والرجوع، وعدم الإصرار والمكابرة و التجرؤ على ما نهى الله عنه, فإنه من أعظم العقوبات في الدنيا على المعاصي ألا يشعر العاصي بها بل يصر عليها.

وأخيراً لا تنخدعي بمن يدعى أن بناء علاقة بين الرجل والمرأة أو الفتى والفتاة ـ خاصة في الجامعات وغيرها ـ هي الحضارة والمدنية، وما يحدث في الغرب لهو دليل على صحة ما نقوله؛ فالمرأة عندهم ممتهنة في عقر دارها، تربح المال من لديها جمال، فإن ذهب جمالها رموها كما ترمى ليمونة امتص ماؤها, لكن البعض منا تبع خطاهم، تركنا الحسن فيهم وأخذنا القبيح.

وهذا ما قاله المستشرق شاتليه: (إذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضدوا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين بشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافاتكم وتاريخكم ونشر روح الإباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها).[3]




[2] روضة المحبين ونزهة المشتاقين، للعلامة ابن القيم.

[3] هويتنا أو الهاوية، للشيخ محمد إسماعيل المقدم.