قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة (2 / 553 -557) _باختصار يسير_ :
تنبيه : ما وضعته بين - - ليس من كلام ابن القيم، لكنه من من حواشي الكتاب.
(ومن عجائب خَلقِه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهَد؛ كالقلب والكبد والطِّحال والرِّئة والأمعاء والمَثانة، وسائر ما في باطنه من الآلات العجيبة، والقُوى المتعدِّدة المختلفة المنافع.
فأما القلبُ، فهو الملكُ المستعمِلُ لجميع آلات البدن، المستخدِمُ لها، فهو محفوفٌ بها مَحْشودٌ مَخْدومٌ مستقرٌّ في الوسط، وهو أشرفُ أعضاء البدن، وبه قِوامُ الحياة، وهو منبعُ الرُّوح الحيوانيِّ والحرارة الغريزيَّة، وهو مَعْدِنُ العقل والعلم والحلم، والشجاعة والكرم والصَّبر والاحتمال، والحُبِّ والإرادة، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال.
فجميعُ الأعضاء الظَّاهرة والباطنة وقُواها إنما هي جُندٌ من أجناد القلب؛ فإنَّ العينَ طليعتُه ورائدُه الذي يكشفُ له المرئيَّات، فإن رأت شيئًا أدَّتهُ إليه، ولشدَّة الارتباط الذي بينها وبينه إذا استقرَّ فيه شيءٌ ظهر فيها، فهي مرآتُه المترجِمةُ للناظر ما فيه، كما أنَّ اللسانَ تَرْجُمانُه المؤدِّي للسَّمع ما فيه.
ولهذا كثيرًا ما يَقْرنُ سبحانه في كتابه بين هذه الثَّلاث، كقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26]، وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقد تقدَّم ذلك.
وكذلك يَقرنُ بين القلب والبصر، كقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } [الأنعام: 110]، وقوله في حقِّ رسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11] ثمَّ قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17].
وكذلك الأذنُ هي رسولُه المؤدِّي إليه، وكذلك اللسانُ تَرْجُمانُه.
وبالجملة؛ فسائر الأعضاء خَدَمُه وجنودُه، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فسَدت فسَد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب" -في الصحيحين-
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "القلبُ مَلِكٌ، والأعضاءُ جنودُه، فإن طابَ المَلِكُ طابت جنودُه، وإذا خَبُثَ المَلِكُ خَبُثَت جنودُه" -
أخرجه معمر في "الجامع" (11/ 221)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (1/ 350) بإسنادٍ جيد، ورُوِيَ مرفوعًا، ولا يصح. انظر: "الكامل" (2/ 215)-.
وجُعِلَت الرئةُ له كالمِرْوَحة تُروِّحُ عليه دائمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً، بل هو منبعُ الحرارة.
وأما الدِّماغُ- وهو المُخُّ-، فإنه جُعِل باردًا، واختُلِفَ في حكمة ذلك:
فقالت طائفة: إنما كان الدِّماغُ باردًا لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردَّها عن الإفراط إلى الاعتدال.
وردَّت طائفةٌ هذا وقالت: لو كان كذلك لم يكن الدِّماغُ بعيدًا عن القلب، بل كان ينبغي أن يحيط به كالرِّئة، أو يكون قريبًا منه في الصَّدر؛ ليكسِرَ حرارتَه.
قالت الفرقةُ الأولى: بُعْدُ الدِّماغ من القلب لا يمنعُ ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قَرُبَ منه لغلبَته حرارةُ القلب بقوَّتها، فجُعِلَ البُعدُ بينهما بحيثُ لا يتفاسَدان، وتعتدل كيفيةُ كلِّ واحد منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرِّئة، فإنها آلةٌ للتَّرويح على القلب لم تُجْعَل لتعديل حرارته.
وتوسَّطت فرقةٌ أخرى وقالت: بل المخُّ حارٌّ لكنه فاترُ الحرارة، وفيه تبريدٌ بالخاصيَّة، فإنه مَبدأٌ للذهن، ولهذا كان الذِّهنُ يحتاجُ إلى موضعٍ ساكنٍ قارٍّ، صافٍ عن الأقذاء والكَدَر، خالٍ من الجَلَبة والزَّجَل -وهو رفع الصوت-.
ولذلك تكونُ جودةُ الفِكْر والتذكُّرُ واستخراجُ الصَّواب عند سكون البدن، وفُتور حركاته، وقلَّة شواغله ومزعجاته، ولذلك لم يصلُح لها القلب، وكان الدِّماغُ معتدلًا في ذلك صالحًا له.
ولذلك تجودُ هذه الأفعالُ في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسُد عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهمِّ الشديد، ومع التَّعب والحركات القوية البدنية والنفسانية.
وهذا بحثٌ متصلٌ بقاعدةٍ أخرى، وهي: أنَّ الحواسَّ والعقل، مبدؤها القلبُ أو الدِّماغ؟
والصوابُ أنَّ القلب ينبعثُ منه قوَّةٌ إلى هذه الحواسِّ، وهي قوَّةٌ معنويةٌ لا تحتاجُ في وصولها إليها إلى مَجَارٍ مخصوصةٍ وأعصابٍ تكونُ حاملةً لها؛ فإنَّ وصول القُوى إلى هذه الحواسِّ والأعضاء لا تتوقَّفُ إلا على قبولها واستعدادها وإمداد القلب، لا على مَجَارٍ وأعصاب.
والمقصودُ التنبيهُ على أقلِّ القليل من وجوه الحكمة التي في خَلْقِ الإنسان، والأمرُ أضعافُ أضعاف ما يخطرُ بالبال، أو يجري في المقال، وإنما فائدةُ ذكر هذه الشَّذْرَة- التي هي كَلا شيءٍ بالنسبة إلى ما وراءها- التنبيه).