الحمدُ لله الذي مَنَّ علينا بالإسلامِ، وبصَّرنا من العَمَى، وهدانا من الضَّلالِ، ووفَّقنا لاتباعِ الْمِلَّةِ الحنيفيةِ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على مَنْ أَتمَّ اللهُ به النعمةَ على هذه الأُمةِ، وأكمَلَ به الدِّينَ، وجعَلَهُ خاتَماً للأنبياءِ والمرسلينَ، وجعَلَ شريعتَهُ ناسخةً لكُلِّ شِرْعَةٍ ودِينٍ، ورَفَعَ بشريعتهِ كُلَّ جَهَالَةٍ وبدْعةٍ، وَبَعَثَهُ داعياً أنْ لا يُعبدَ إلاَّ الله، وأنْ لا يُعبدَ اللهُ إلاَّ بمَا شَرَعَ.
أما بعد:
فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، وعظِّموا ما عظَّمَهُ اللهُ واحذَرُوا الظُّلمَ وخاصةً في الأَشْهُرِ الْحُرُمِ, فإنَّ يومَكُم هذا هوَ أولُ يوْمٍ من شهرِ رَجَبٍ، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْراً، منها أربَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثةٌ مُتوالياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجةِ، والْمُحرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بينَ جُمَادَى وشعبانَ) متفقٌ عليه.
وقال قَتَادَةُ رحمه الله: (أمَّا قولُه:(فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، فإنَّ الظُّلْمَ في الأشهُرِ الْحُرُمِ أعظمُ خطيئةً ووِزْراً من الظُّلْمِ فيما سِواها، وإنْ كانَ الظُّلْمُ على كُلِّ حالٍ عظيماً، ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ من أَمرِهِ ما شاءَ) رواه ابن جرير.
وقال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله: (لا شكَّ أن الذنوبَ في الأشهرِ الْحُرُمِ أعظم) انتهى.
ولقد اجتمَعَ أهلُ الجاهليةِ على تقديسِ شَهْرِ رَجَبٍ، وله ثمانيةَ عَشَرَ اسْمَاً، وكثرةُ الأسماءِ تدلُّ على شَرَفِ الْمُسمَّى، أظهَرُهَا: رَجَبٌ، قال ابنُ منظور: (رَجَبٌ شهرٌ سَمَّوْهُ بذلك لتعظيمهم إِيَّاه في الجاهلية عن القتالِ فيهِ) انتهى، وسُمِّي في الجاهلية أيضاً بِمُنصِّلِ الأسنَّةِ (رواه البخاري)، فكانت العَرَبُ إذا دَخَل رَجَبٌ لَم يَدَعُوا رُمْحَاً ولا سَهْمَاً فيه حديدةٌ إلاَّ نَزَعُوها، وكانت قبيلةُ مُضَرَ تُبالغُ في تعظيمهِ وتَحْرِيمهِ حتى أُضيف إليها في الحديث: (ورَجَبُ مُضَرَ) متفقٌ عليه.
أيها المسلمون:
من القواعدِ العامَّةِ في معرفةِ الْمُحْدَثاتِ في هذا الشهرِ لكي تُعْرَفَ فتُجْتَنب:
أولاً: لم يَرِدْ في فضلِ شَهْرِ رَجَبٍ حديثٌ صحيحٌ غير أنه من الأشهرِ الْحُرُم: قال الحافظُ ابنُ حَجَر: (لم يَرِدْ في فضلِ شهرِ رَجَبٍ ولا في صيامهِ ولا في صيامِ شيءٍ منهُ مُعيَّنٌ، ولا في قيام ليلة مخصوصةٍ فيه حديثٌ صحيحٌ يَصْلُحُ للحُجَّةِ) انتهى.
ثانياً: ليسَ للذبحِ للهِ في شهرِ رَجَبٍ مزيدُ فضلٍ على سائر الشهور، فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ عن النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: («لا فَرْعَ ولا عَتيرَةَ»، والفرعُ: أوَّلُ النِّتاجِ، كانوا يَذبحونَهُ لطواغِيتِهِم، والعتيرَةُ في رجَبٍ) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
ثالثاً: ليسَ لصلاةِ النافلةِ في رَجَبٍ مَزيَّةٌ على غيرهِ من الشهور، ومن الصلواتِ الْمُحْدَثةِ في شهرِ رَجَبٍ: صلاة الرغائب، قال أبو بكرٍ الطرطوشي: (وأمَّا صلاةُ رَجَبٍ فلم تَحْدُث عندنا في بيت المقدسِ إلا بعدَ سنةِ ثمانين وأربعمائة، وما كُنَّا رأيناها ولا سَمِعْنا بها قبل ذلك) انتهى.
وقال الإمامُ ابنُ تيمية: (صلاةُ الرغائبِ بدعةٌ باتفاقِ أئمةِ الدينِ، لَم يَسُنَّها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ولا أحَدٌ من خُلَفائهِ، ولا استحبَّها أحَدٌ من أئمةِ الدِّينِ) انتهى.
رابعاً: ليسَ لصيامِ النافلةِ في شهرِ رَجَبٍ مزيدُ فضلٍ على سائرِ الشهورِ، فعن خَرَشَةَ بنِ الْحُرِّ قالَ: (رأيتُ عُمَرَ يَضرِبُ أَكُفَّ الناسِ في رجَبٍ حتى يَضَعُوها في الجِفانِ، ويقُولُ: كُلُوا فإنما هُوَ شهرٌ كانَ يُعظِّمُهُ أهلُ الجاهليةِ) رواه ابن أبي شيبة وصحَّحه الإمامُ ابنُ تيميَّةَ وقال: (وأمَّا صَوْمُ رجَبٍ بخُصُوصِهِ فأحاديثُهُ كُلُّها ضعيفةٌ بلْ موضُوعةٌ لا يَعتَمِدُ أهلُ العلمِ على شيءٍ منها) انتهى.
خامساً: ليسَ لإخراجِ الصدقةِ والزكاةِ في رَجَبٍ مزيَّةُ فضلٍ على غيرهِ من الشهورِ، قال ابنُ العطَّار: (وما يفعلُه الناسُ في هذه الأزمانِ من إخراجِ زكاةِ أموالِهم في رَجَبٍ دون غيرِه من الأزمانِ لا أصلَ له، بل حكمُ الشرعِ أنه يَجبُ إخراجُ زكاةِ الأموالِ عندَ حَوَلان حولِها بشرطهِ) انتهى.
سادساً: هل للعمرة في شهر رجب مزيد فضل؟ عن عطاءٍ قال: (أخبَرَني عُروةُ بنُ الزبيرِ قالَ: كُنتُ أنا وابنُ عُمَرَ مُسْتَنِدَيْنِ إلى حُجْرةِ عائشةَ، وإنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا بالسواكِ تَسْتَنُّ، قالَ: فقلتُ: يا أبا عبدِ الرحمنِ، اعتَمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في رَجَبٍ؟ قالَ: نَعَمْ، فقلتُ لعائشةَ: أيْ أُمَّتاهُ ألا تَسمعينَ ما يقولُ أبو عبدِ الرحمنِ؟ قالتْ: وما يقولُ؟ قُلتُ يقولُ: اعْتَمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في رجَبٍ، فقالت: «يَغفِرُ اللهُ لأبي عبدِ الرحمنِ، لَعَمْرِي ما اعْتَمَرَ في رَجَبٍ، وما اعْتَمَرَ مِنْ عُمْرَةٍ إلاَّ وإنهُ لَمَعَهُ»، قالَ: وابنُ عُمَرَ يَسْمَعُ، فمَا قالَ لا ولا نَعَمْ، سَكَتَ) رواه مسلم.
فالعمرةُ جائزةٌ في أيِّ وقتٍ وفي أيِّ يومٍ وفي أيِّ شَهْرٍ، وأفضَلُهُ في رمضانَ وأشهرِ الحج.
سابعاً: ليسَ لتخصيصِ رَجَبٍ بزيارةِ المقابرِ مزيَّةُ فضْلٍ، بلْ زيارةُ المقابرِ سُنَّةٌ للرِّجالِ في أيِّ وقتٍ وفي أيِّ يومٍ وفي أيِّ شهرٍ.
ثامناً: ليسَ لتخصيصِ رَجَبٍ بزيارةِ مسجدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَزِيَّةُ فضلٍ على غيرهِ من الشهورِ، فالسَّفَرُ للصلاةِ في مسجدهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مشروعٌ في أيِّ وقتٍ.
الخطبة الثانية
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسُولُهُ.
أمَّا بعدُ:
(فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و (لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
أيها المسلمون:
ومن القواعدِ العامَّةِ في معرفةِ الْمُحْدَثاتِ في هذا الشهرِ لكي تُعْرَفَ فتُجْتَنب:
تاسعاً: لم يصحَّ حديثٌ في فضلِ الدُّعاءِ في رَجَبٍ، وأما ما رواه ابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خَمْسُ لَيالٍ لا تُرَدُّ فيهِنَّ الدَّعْوَةُ: أوَّلُ ليلَةٍ منْ رَجَبٍ، وليلَةُ النِّصْفِ من شَعْبانَ، وليلَةُ الجُمُعَةِ، وليلَةُ الفِطْرِ، وليلَةُ النَّحْرِ)، قال الألبانيُّ: (موضوعٌ).
وقد كان أهل الجاهلية يُؤَخِّرون الدُّعاءَ على الظالم إلى شهر رجب، فإذا دخلَ رجبٌ أتوا الكعبةَ ودَعَوا على الظالمِ فلا تتأخرُ عقوبتُه، وقال المظلوم للظالم: (عِشْ رَجَبَاً تَرَى عَجَبَاً) انتهى.
وأما ما يُروى عن أنسٍ رضي الله عنه: (أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ إذا دَخَلَ رجَبٌ قالَ: «اللهُمَّ باركْ لنا في رجَبٍ وشعبانَ وبَلِّغْنا رمَضَانَ»، وكانَ إذا كانَ ليلَةُ الجُمُعةِ قالَ: «هذهِ ليلَةٌ غَرَّاءُ ويَوْمٌ أَزْهَرُ)، فقد قال الهيثميُّ: (رواهُ البزَّارُ وفيهِ زائدةُ بنُ أبي الرُّقادِ، قالَ البُخاريُّ: «مُنكَرُ الحديثِ») انتهى.
عاشراً: ذكَرَ ابنُ رَجَبٍ أن جُمهورَ العلماءِ ذهبُوا إلى أنَّ تحريمَ القتالِ في الأشهرِ الحرم منسوخٌ، لأن الصحابةَ ومَن اهتدى بهديهم استمرُّوا في مواصلةِ الجهادِ بعدَ وفاتهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ولم يتوقفوا في الأشهر الْحُرُمِ، ففي رجَبٍ من السنةِ التاسعةِ للهجرة وقَعَت غزوةُ العُسْرة، وفي رَجَبٍ من السنةِ الرابعةِ عشرة فُتِحَت دمشق، وفي رجَبٍ من السنةِ 479 وقَعَت معركةُ الزلاقة بالأندلس والتي نَصَرَ اللهُ فيها المسلمين بقيادة أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين رحمه الله، وفي يوم الجمعة 27 من شهر رجبٍ من السنة583 حَرَّرَ المسلمون بيت المقدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
الحادي عشر: قال ابنُ رَجَبٍ: (رُويَ أنه في شهرِ رجب حوادث عظيمة ولم يصحَّ شيءٌ من ذلك، فرُويَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وُلدَ في أول ليلةٍ منه، وأنه بُعثَ في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصحُّ شيءٍ من ذلك، ورُويَ بإسنادٍ لا يَصحُّ عن القاسم بن محمد أن الإسراءَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره) انتهى.
قال ابنُ تيمية: (لا يُعْرَفُ عن أحَدٍ من المسلمينَ أنه جَعَلَ للَيْلَةِ الإسراءِ فضيلَةً على غيرِها) انتهى.
فمن البدع والمنكرات إذنْ: قراءة قصة المعراج والاحتفال بها في ليلة السابع والعشرين من رجب، وتخصيص تلك الليلة بقيام أو نهارها بصيام، وتزداد البدعة قُبحاً بما يُقام من احتفالات تصاحبها المحرَّمات المجمع على تحريمها من اختلاط النساء بالرِّجال، والتبرُّج، والموسيقى، وهذا كُلُّه لا يجوز في العيدين الشرعيين فضلاً عن الأعيادِ الْمُبْتَدَعة.
والمؤمنُ يكفيهِ قول الله تبارك تعالى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وقولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليسَ فيهِ فهُوَ رَدٌّ) متفقٌ عليه، وقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (مَن عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليهِ أمْرُنا فهوَ رَدٌّ) متفق عليه.
ولقد اعتنى العلماءُ قديماً في بيان ما يحدث في هذا الشهر من بدعٍ ومُحْدَثات، فألَّف الإمامُ ابنُ دِحيةَ الكلبي كتابه: (أداءُ ما وَجَبَ من بيانِ وَضْعِ الوضَّاعينَ في رجب)، وألَّف الحافظُ ابن حجر كتابه: (تبيينُ العَجَبِ فيما وَرَدَ في فضلِ رجب).
رزَقَنا اللهُ جميعاً البصيرةَ في دينهِ القويم، وكفانا شِرارَ خلقهِ أجمعين، ولا حولَ ولا قوة إلاَّ باللهِ العزيز الحكيم.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/133132/#ixzz5hh2jVhMd