تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 36

الموضوع: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    - فقد كان لمؤلفات أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى أثرٌ عظيمٌ بين العلماء وطلبة العلم ، تلقوها بالقبول ، وتناولوها بالتعليم والشرح والتلخيص ،وانتفع بها من شاء الله من الناس ، و أعظم ما ألفه كتابي (الموافقات) – في أصول الشريعة - و (الاعتصام) – في لزوم السنة والتحذير من البدع- ، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه ، فقد قيل إنه أول من تكلم في مقاصد الشريعة كعلمٍ مستقل وذلك في كتابه الأول ، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتابه الثاني، وليس المقصود هنا الكلام على ما تميز به الكتابان فقد ألف في ذلك مؤلفات و رسائل .
    ولما كان للشاطبي رحمه الله تعالى جهود في حرب البدعة ، وحرب البدع مما اشتهر به السلفيون ، فقد انتشر بين الناس أنه سلفي الاعتقاد حتى بين بعض طلبة العلم-، والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ كتابيه هذين أنه أشعري المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها ، ومرجعه في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
    وموقف الشاطبي رحمه الله تعالى من البدع العملية (وهي البدع في العبادات ) في تحذيره منها وبيان مفاسدها والتشديد على التمسك بالسنة فيها موقف جيد ، وعمل مشكور ، ولكنه مع ذلك وقع في بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية في الصفات والقدر وغيرها .
    ولم ينفرد الشاطبي رحمه الله تعالى بهذا الأمر بين العلماء ؛ فقد وقع فيه غيره كأبي بكرٍ الطرطوشي رحمه الله تعالى فإنه ألّف كتاب (البدع والحوادث ) في التحذير من البدع العملية ومع ذلك فقد وافق الأشاعرة في أصولهم ، و كأبي شامة الدمشقي رحمه الله تعالى فإن له كتاب (الباعث في إنكار البدع والحوادث ) في البدع العملية وهو أشعري المعتقد ، والسبب في ذلك – والله أعلم أن علماء الكلام لم يتطرقوا لمثل هذه الأمور ؛ لهذا لم يفسدوها بأصولهم فلم تلتبس على من أراد الحق وسعى إليه بخلاف الاعتقادات كالأسماء والصفات والقدر والإيمان وغيرها فإن المتكلمين أفسدوها بأصولهم المبتدعة وشبهوا على كثيرٍ من العلماء الفضلاء فيها فوافقوهم في أصولهم وبدعهم – عفا الله عن الجميع بمنه وكرمه -. والمقصود تقييد مخالفات (الموافقات ) و( الاعتصام - وبيان ان هذه المواضع مخالفة لمعتقد أهل السنة والجماعة ورأيت أن أخرجها نصيحة للأمة ،و إتماماً للمنفعة ، بحيث تحذر هذه المواضع من كتابيه هذين -------- قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما :(ليس منا إلا ويؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم ) وقال أيضاً:(يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله e وتقولون قال أبو بكر وعمر) وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: (إذا قلت قولاً كتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله )، قيل: (إذا كان قول رسول الله e يخالفه )، قال :( اتركوا قولي لخبر رسول الله e ) ، قيل: (إذا كان قول الصحابة يخالفه )، قال :(اتركوا قولي لقول الصحابة) ، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى : (لايحل لأحدٍ أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا ) ، وقال مالك رحمه الله تعالى :(إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) وقال أيضاً:( ما منا إلا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر e ) ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى :(أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله e لم يكن له أن يدعها لقول أحد) ، وقال أيضاً :(إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط) ، وقال أحمد رحمه الله تعالى :(من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال)، وقال أيضاً :( لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا) ، وكلامهم رحمهم الله تعالى في هذا الباب كثيرٌ جداً وفي ما مضى كفاية إن شاء الله تعالى لمن أراد الحق.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    مخالفات الشاطبي رحمه الله تعالى في التوحيد"

    الفصل الأول : مخالفته في توحيد الربوبية :
    ذهب أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى إلى ما ذهب إليه المبتدعة في إثبات الصانع وإثبات حدوث العالم باتباع طريقة الأعراض وهي طريقة جهمية معتزلية مبتدعة ، فقد نقل الشاطبي عن أبي بكرٍ الطرطوشي رحمه الله تعالى –كلاماً طويلاً وفيه قوله (لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض)اهـ ثم قال الشاطبي مقرّراً لجميع كلامه:( وهو حسن من التقرير )اهـ .
    وهذه الطريقة هي طريقة الجهمية والمعتزلة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع ، وأول من قال بها الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة وقد التزموا من أجلها لوازم أفسدوا بها الدين ،وأحدثوا البدع ، وحرفوا النصوص ، وخالفوا المنقول والمعقول ، وملخص طريقتهم هذهكما ذكروها في كتبهم الكلامية - أنهم قالوا :إن معرفة صدق الرسول متوقفة على معرفة المرسِل ، ومعرفة المرسِل متوقفة على معرفة قِدَمه ، و قدمه متوقف على معرفة حدوث العالم ، ومعرفة حدوث العالم متوقف على هذه الطريقة.
    وهي مبنية على أربع مقدمات:
    المقدمة الأولى:إثبات الأعراض.
    والمقدمة الثانية : إثبات حدوث هذه الأعراض.
    والمقدمة الثالثة:بيان امتناع خلو الأجسام عن هذه الأعراض.
    والمقدمة الرابعة:بيان أن ما لا يخلو عن هذه الأعراض فهو حادث ، وأن ما لا يخلو من جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ، وكل حادث فلا بد له من محدث.
    وهذه الطريقة فاسدة عقلاً ، ومحرمة شرعاً ، وهي من أعظم أصول المتكلمين الذين ذمهم السلف والأئمة، بل إن الأشعري نفسه حرمها وذكر أنه لا يحتج بها إلا أهل البدع والمنحرفين ، بل إنه قال:(وإنما صار من أثبت إحداث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل و إنكارهم لجواز مجيئهم) ، وفساد هذه الطريقة من وجوه:
    الوجه الأول:أن هذه الطريقة لم ترد في الكتاب ولا في السنة ولا ذكرها الصحابة ولا السلف، بل هي متلقاة عن أفراخ الفلاسفة والجهمية.
    الوجه الثاني: أنهم أرادوا إثبات حدوث الأعراض والحوادث والأجسام بطرقٍ عقليةٍ سقيمةٍ ، و حدوثها لا يحتاج إلى دليلٍ أصلاً فإننا نرى بأعيننا حدوث هذه الأشياء وزوالها فلا يحتاج الأمر إلى استدلال ، بل هو كمن أراد أن يستدل على أن الشمس مضيئة!!، والموجود في القرآن هو الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المخلوقات على وجود الله سبحانه ، وليس فيه استدلال على حدوثها لأن هذا أمر مسلّم ، وفرقٌ بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه ، لأن نفس حدوث الحيوان وغيره معلومٌ بالحس والضرورة ، فلا يحتاج الأمر إلى أن يستدل بمقارنة الأعراض أو الحوادث له على أنه حادث كما ذهب إليه هؤلاء.
    الوجه الثالث:أنهم جعلوا إثبات العالم وإثبات الصانع غير ممكن إلا باتباع هذه الطريقة السقيمة ، فكانوا كما قال شيخ الإسلام:( فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم ، فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون، وتركوا واحداً ، ظناً أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم ، ثم إنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بازاء العدو أحد )اهـ ، وذلك لأن إثبات الصانع ممكن بطرقٍ كثيرةٍ ، كالاستدلال بحدوث الإنسان أو غيره من المحدثات على وجود المحدِث ، فإنه يعلم بالحس والضرورة حدوث الإنسان وغيره ، ويعلم بالضرورة أن كل حادث فلا بد له من محدِث .
    الوجه الرابع:أن مسألة إثبات وجود الله سبحانه لا ينازع فيها إلا شواذ من الناس ، فإن معرفته فطرية لا تحتاج إلى دليل ، لهذا تجد الرسل صلوات الله عليهم إنما يدعون الناس إلى توحيد العبادة لما استقر في فطر الناس من معرفة الصانع ،وهؤلاء المتكلمون قد ملئوا كتبهم الكلامية بمحاولة إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع ، ومع كثرة الأدلة على هذه المسألة فقد استدلوا بدليلٍ باطلٍ وزعموا أنه الدليل الوحيد!!.
    الوجه الخامس: أنهم التزموا لأجل هذا الدليل لوازم فاسدة ، فإنهم لما استدلوا بالأعراض على الحدوث ، التزم الجهم بن صفوان لأجل هذا الدليل نفي الأسماء والصفات لأنها أعراض بزعمه ، والتزم أيضاً القول بفناء الجنة والنار لامتناع دوام الحوادث في دليلهم هذا ، والتزم أبو الهذيل العلاف لأجلها انقطاع حركات أهل الجنة والنار ، والتزم المعتزلة نفي الصفات لأنها أعراض ، والتزم الكلاّبية ومن تبعهم من الأشعرية ومن تأثر بهم نفي الصفات الفعلية كالكلام والنزول والمجيء ونحوها لأنها حوادث بزعمهم وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، والتزموا كلهم مع الكرّامية وغيرهم تعطيل الله سبحانه وتعالى عن الفعل في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها ولو قالوا بأن الله قادرٌ على الفعل في الأزل للزم منه قدم العالم ، وغيرها من اللوازم التي أفسدوا بها الدين ونشروا لأجلها البدع ولبّسوا بها على المسلمين .
    الوجه السادس:أن هذا الدليل يدل على نقيض مقصودهم ، فإنهم استدلوا في مقدمتهم الرابعة في دليلهم هذا على أن كل حادث فلا بد له من محدث لأن كل حادث فلابد له من سبب، ثم إنهم عطلوا الله سبحانه عن الفعل في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها، وقالوا بحدوث هذا العالم من غير تجدد سبب حادث لأنهم ينفون أن يقوم بذات الله الصفات الفعلية لأنها حوادث بزعمهم ، فقد أجازوا الحدوث بلا سبب وهذا ينقض أصلهم ، لهذا استطال عليهم الفلاسفة وألزموهم بالقول بقدم العالم ، لأنهم –أي الفلاسفة-قالوا إنه يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ويمتنع تقدير ذاتٍ معطلةٍ عن الفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب ، ولم يستطع المتكلمون أن يجيبوا لفساد أصلهم، والصحيح في ذلك التفريق بين عين الحوادث وجنس الحوادث ، فإن كل حادثٍ معينٍ له أول وهو مسبوق بالعدم كما هو مشاهد ، أما جنس الحوادث فإنها لا أول لها لأن الله سبحانه لم يزل فعالاً غير معطلٍ عـن الفعل كما يزعم المبتدعة ، وهذا لا يدل على قدم شئ من الحوادث بعينه كما تزعم الفلاسفة ، بل يدل على تجدد الحوادث حادثاً بعد حادث .
    واعلم أن دليلهم هذا هو من أصولهم الكبار والتي بنوا عليها اعتقاداتهم وضللوا من خالفهم فيها ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(أما قولكم إن هذه الطريق هي الأصل في معرفة دين الإسلام ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام ، فإنه من المعلوم لكل من علم حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما جاء به من الإيمان والقرآن أنه لم يدع الناس بهذه الطريق أبداً ، ولا تكلم بها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، فكيف تكون هي أصل الإيمان؟! والذي جاء بالإيمان وأفضل الناس إيماناً لم يتكلموا بها البتة ، ولا سلكها منهم أحد إلى أن قال بل هذه الطريقة باطلة في نفسها ، ولهذا ذمها السلف وعدلوا عنها ، وهذا قول أئمة السلف كابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي يوسف ، ومالك بن أنس ، وابن الماجشون عبدالعزيز ، وغير هؤلاء من السلف ، وحفص الفرد لما ناظر الشافعي وقال القرآن مخلوق وكفّره الشافعي كان ناظره بهذه الطريقة ، وكذلك أبو عيسى محمد بن عيسى بن برغوث كان من المناظرين للإمام أحمد بن حنبل في مسألة القرآن بهذه الطريقة –إلى أن قال –وكلام السلف في الرد على هؤلاء كثير ، وقال لهم الناس: إن هذا الأصل الذي ادعيتم إثبات الصانع به وأنه لا يعرف أنه خالق المخلوقات إلا به ، هو بعكس ما قلتم ، بل هذا الأصل يناقض كون الرب خالقاً للعالم ، ولا يمكن مع القول به القول بحدوث العالم ولا الرد على الفلاسفة ، فالمتكلمون الذين ابتدعوه وزعموا أنهم به نصروا الإسلام وردوا به على أعدائه كالفلاسفة ، لا للإسلام نصروا ، ولا لأعدائه كسروا ، بل كان ما ابتدعوه مما أفسدوا به حقيقة الإسلام على من اتبعهم ، فأفسدوا عقله ودينه واعتدوا به على من نازعهم من المسلمين ، وفتحوا لعدو الإسلام باباً إلى مقصوده)اهـ

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات"

    تعددت مخالفات الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا التوحيد تبعاً لمخالفات الأشاعرة ، فإنه إنما ينقل الاعتقادات من كتبهم الكلامية، فكان إذا أراد عرض معتقد الصحابة والسلف في الصفات عرضها بما يتوافق مع عقيدة المفوّضة وهو نفس فهم الأشاعرة لمعتقد السلف - ، ويبني أحكامه في الصفات تبعاً لألفاظٍ مجملة ، وإذا تكلم عن بعض الصفات أوّلها كتأويلات الأشاعرة والمبتدعة ، وإذا تعرض للخلاف بين المذهبين – يعني مذهب السلف ومذهب الخلف في الصفات – هـوّن الخلاف بينهم وجعله شبيهاً بالخلافات الواقعة في الفروع ، ولكثرة مخالفاته هذه فقد رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث وهي كما يلي:
    المبحث الأول : في عقيدة التفويض :
    المبحث الثاني : اتباعه للألفاظ المجملة :
    المبحث الثالث : في تأويلاته لبعض الصفات :
    المبحث الرابع : في تهوينه الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الخلف :
    وفيما يلي ذكر هذه المباحث ومنا قشتها على وجه التفصيل :
    "في عقيدة التفويض"

    يظهر جلياً واضحاً من كلام الشاطبي رحمه الله تعالى عند تعرضه لمذهب السلف في نصوص الصفات ومدحه له وحثه على اتباعه أنه إنما يقصد به مذهب التفويض – تفويض المعنى والكيفية – أو مذهب (التجهيل للرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم) وهو أن نصوص الصفات لا تعقل معانيها ولا يفهم منها شئ بل هي بمنزلة الكلام الأعجمي ، لذلك جعل نصوص الصفات من قسم المتشابه الحقيقي الذي لا سبيل لنا إلى معرفة معناه والمراد منه .
    وإليك نصوصه في هذا :
    1-قال في (الاعتصام) 1/304،305:(وقد علم العلماء أن كل دليلٍ فيه اشتباه وإشكال فليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه ، ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه فليس بدليل لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه و دالاً على غيره و إلا احتيج إلى دليل عليه)اهـ.
    2-وقال في (الاعتصام) 2/586:(جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما )اهـ.
    3-وقال في (الاعتصام)2/736:(ومعنى المتشابه ما أشكل معناه ولم يبين مغزاه ، كان من المتشابه الحقيقي كالمجمل وما يظهر من التشبيه)اهـ.
    4-وقال في (الاعتصام) 2/840-بعد كلامٍ طويلٍ-:(وهو ظاهر قوله تعالى:(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو للزم العلم به لجعل طريقاً إلى معرفته ، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق –ثم مثّل على ذلك بالصفات-)اهـ.
    5-وقال في (الاعتصام) 2/850:(فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء من السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه –إلى أن قال – وقال الأوزاعي: كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها، ومثله عن مالك و الأوزاعي وسفيان بن سعيد –هو الثوري- وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت ، نحو حديث النزول ، وخلق آدم على صورته، وشبههما ، وحديث مالك في السؤال عن الاستواء المشهور ، وجميع ما قالوه مستمد من معنى قوله تعالى :(فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..الآية ، ثم قال:(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فإنها صريحة في المعنى الذي قررناه ، فإن كل ما لم يجر على المعنى المعتاد في الفهم متشابه ، فالوقوف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله e)اهـ.
    6- وقال في (الموافقات) 3/323-326 –تحت مسألة التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما يقع في الفروع الجزئية-:(فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع علم القرآن)اهـ.
    7-وقال في (الموافقات) 3/328-في مسألة تسليط التأويل على المتشابه-:( فإن كان –أي المتشابه – من الإضافي فلابد منه –إلى أن قال –وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويلهوأيضاً فإن السلف الصالح والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين تأويلٍ من غير دليل وهم الأسوة و القدوة)اهـ.
    8-وقال في (الموافقات) 4/137:(إن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه –إلى أن قال –ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله تعالى:(الرحمن على العرش استوى) ، وفي الحديث (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) وأشباه ذلك هذا معنى لا يتعلق به تكليف)اهـ.
    9-وقال في (الموافقات) 3/318،319-في التشابه-:(وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف فلم يتكلموا فيه بغير التسليم والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك ، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها وهو ظاهر القرآن لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ، ولا تكليف يتعلق بمعناها)اهـ.
    10-وقال في (الموافقات) 5/143:(والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه…)اهـ
    قلت: والكلام على هذه النصوص من ثلاثة وجوه :
    الوجه الأول: أن ما ذكره من كون نصوص الصفات من المتشابه الحقيقي الذي لايفهم منه شئ ولا يعقل له معنى وأن الصحابة والسلف كانوا لا يخوضون في معانيها وهم جاهلون بهذه المعاني هي عقيدة المفوّضة وهي عقيدة الأشاعرة إذا أحالوا لمذهب السلف ، وهو المراد بقولهم (مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم) فمقصودهم بمذهب السلف هنا هو نفس ما ذهب إليه الشاطبي وهو الإيمان بهذه النصوص مع الجهل بمعانيها وجعل نصوص الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يعقل ، ونصوص الأشاعرة في هذا كثيرة ، فمن ذلك ما ذكره الرازي في كتابه (أساس التقديس)حيث عقد فصولاً في آخر كتابه هذا مقرراً فيه لعقيدة السلف فقال:(الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف ، حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها أن مراد الله منها شئ غير ظواهرها ، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها) ، وقال الغزالي:(وقد يطلق –أي المتشابه- على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله).
    الوجه الثاني: أن هذا المذهب من أفسد المذاهب وأبعدها عن مذهب السلف ، إذ فيه تجهيل لخير الأمة وأنهم كانوا يقرأون ما لا يفهمون معناه ، بل إن فيه رمي للرسول e بالجهل في أعظم أصول الدين وهو معرفة الله سبحانه وما يستحقه من أوصاف الكمال ، فإن حقيقة هذا المذهب أن الرسول e كان يقرأ آيات الصفات ولا يفهم معناها ، بل ويتكلم بأحاديث الصفات كالنزول والفرح والغضب والقدم والساق والوجه واليدين وبمقتضى كلامهم فهو لا يفهم معنى ما يتكلم به!! بل إن فيه قدح في الله سبحانه وتعالى ، فإنه أنزل علينا كتابه وأمرنا بتدبره فقال تعالى:(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا) وقال تعالى:(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها) وقال تعالى:(كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) وقال تعالى :(أفلم يدّبروا القول) وغيرها ، فيلزم من كلامهم أنه أمرنا بتدبر القرآن ثم جعل أعظم أصول الدين وهو معرفة الله سبحانه بصفات الكمال طلاسم لا نعقل منها شيئاً بمنزلة أصوات البهائم ورطانة الأعاجم ونحوها وكفى بهذا دليلاً على إبطال هذا المذهب ، وقد كان السلف يقرأون القرآن ويعقلون هذه المعاني كما قال أبو عبدالرحمن السلمي قال: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي e عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً) وقال مجاهد :(عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته ، أقف عند كل آية وأسأله عنها) .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى–في أصناف المنحرفين عن مذهب السلف
    (وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول e لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات و لا جبريل يعرف معاني الآيات ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك ، وكذلك قولهم في أحاديث الصفات إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول e تكلم بها ابتداءً فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه )اهـ.
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
    (والصنف الثالث : أصحاب التجهيل : الذين قالوا نصوص الصفات ألفاظ لا نعقل معانيها ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها ، ولكن نقرأها ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله ، وهي عندنا بمنزلة (كهيعص) و (حم عسق) و (المص) فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيها تمثيلاً و لا تشبيهاً ولم نعرف معناه وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله ، وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات ، و لا يفهمون معنى قوله:(لما خلقت بيديّ) وقوله:(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وقوله:(الرحمن على العرش استوى) وأمثال ذلك من نصوص الصفات ، وبنوا هذا المذهب على أصلين :
    أحدهما:أن هذه النصوص من المتشابه.
    والثاني:أن للمتشابه تأويلاً لا يعلمه إلا الله .
    فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأنهم كانوا يقرأون (الرحمن على العرش استوى) و (بل يداه مبسوطتان ) ويروون (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) و لا يعرفون معنى ذلك و لا ما أريد به ، ولازم قولهم أن الرسول e كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه ، ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا : تجرى على ظواهرها وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل ، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله ، فكيف يثبتون لها تأويلاً ويقولون تجرى على ظواهرها ، ويقولون الظاهر منها غير مراد ، والرب منفرد بعلم تأويلها؟ وهل في التناقض أقبح من هذا؟ .
    وهؤلاء غلطوا في المتشابه ، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه ، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ، فأخطئوا في المقدمات الثلاث ، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين ، وسدوا على نفوسهم الباب ، وقالوا لا نرضى بالخطأ ولا وصول لنا إلى الصواب ، فهؤلاء تركوا المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين ، وأعرضوا عنه بقلوبهم ، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك ، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها)اهـ.
    الوجه الثالث : أن مذهب السلف إنما هو تفويض الكيفية دون المعنى ، بمعنى أنهم يفهمون آيات الصفات وأحاديثها ويدركون معناها ، فيعلمون معنى الاستواء والنزول والفوقية والوجه والعين والقدم ونحوها ، ويفرقون بينها فيعلمون أن معنى الوجه غير معنى العين وأن معنى العين غير معنى النزول وهكذا ، ولكنهم يفوضون كيفية هذه الصفات إلى الله فلا يعلمونها ، وهذا كما ثبت عن الأوزاعي وسفيان ومالك والليث بن سعد وغيرهم من السلف أنهم كانوا في نصوص الصفات : (أمروها كما جاءت بلا كيف) فهنا التفويض في الكيف لا في المعنى ، وكما قال ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك لمن سأل عن الاستواء :( الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول) فذكر هنا أن معنى الاستواء غير مجهول بل هو معلوم ، وإنما المجهول هو الكيف .
    وقد قرّر علماء السنة هذا الأمر في كل زمانٍ ومكانٍ ، فقد قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى في رده على بشر المريسي :(أما قولك إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ ، فإنا لا نقول إنه خطأ بل هو عندنا كفر ، ونحن لتكييفها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفاً منكم ، غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذب بها ولا نبطلها بتأويل الضلال –إلى أن قال- فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم ولا نفسرها كتفسيركم)اهـ.
    وقال شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبدالملك الكرجي –رحمه الله تعالى-في كتابه (الفصول في الأصول): (-بعد أن ذكر نصوص الصفات- إلى غيرها من الأحاديث ، هالتنا أو لم تهلنا ، بلغتنا أو لم تبلغنا ، اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولا نتأولها وعلى العقول لا نحملها وبصفات الخلق لا نشبهها ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها ولا نزيد عليها و لا ننقص منها بل نؤمن بها ، ونكل علمها إلى عالمها كما فعل السلف الصالح وهم القدوة في كل علم)اهـ.
    وكما قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى :(- في الكلام على حديث النزول- فلما صح خبر النزول عن الرسول e أقرّ به أهل السنة ، وقبلوا الخبر ، وأثبتوا النزول على ماقاله الرسول e ، ولم يعتقدوا فيه تشبيهاً له بنزول خلقه ، ولم يبحثوا عن كيفيته إذ لاسبيل إليها بحال)اهـ.
    وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(- تعليقاً على كلام مالك في الاستواء- وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته ، ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب فنعلم معنى الاستواء ولا نعلم كيفيته ، ونعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته ، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة ولا نعلم كيفية ذلك ، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك)اهـ.
    وكما قال الذهبي رحمه الله تعالى :(-تعليقاً على كلام مالك رحمه في الاستواء- وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها ، بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً و لا إثباتاً ، بل نسكت ونقف كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه ، ونعلم يقيناً أن الله جل جلاله لا مثيل له في صفاته ، ولا في استوائه، ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً)اهـ.
    وكلام الأئمة في هذا الباب كثير وكله متفق على العلم بمعنى الصفة والجهل بكيفيتها وأن هذا هو تفويض السلف ، لا كما يزعم المبتدعة أن السلف كانوا يؤمنون بألفاظٍ لا يعلمون معانيها والله تعالى أعلم.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "اتباعه للألفاظ المجملة"

    يذكر الشاطبي رحمه الله تعالى عند كلامه على نصوص الصفات ألفاظاً مجملة ثم يبني عليها أحكاماً تتفق مع بدع الأشعرية ، وأكثر هذه الألفاظ ذكراً عنده لفظ (الظاهر) ولفظ (التشبيه) ، وإليك نصوصه في هذا :
    1-قال في (الموافقات) 4/223:(كما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله تعالى:(تجري بأعيننا)(مما عملت أيدينا)(وهو السميع البصير)(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا).
    2-وقال في (الموافقات) 4/10-تحت قاعدة إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان-:( كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كلياً عاماً ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمرٍ خاصٍ يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة)اهـ.
    3-وقال في (الموافقات) 5/216- تحت مسألة من الخلاف ما يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك،وذكر من أسبابه-:( التاسع:أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجهٍ يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل ، وجميع التأويلات في ذلك سواء ، فلا خلاف في المعنى المراد ، وكثيراً ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه)اهـ.
    4- وقال في (الاعتصام) 1/306:(إن المشابه للمخلوق في وجهٍ ما مخلوق مثله)اهـ.
    5- وسبق ذكر قوله – في المبحث السابق – (كظهور تشبيه) و(الموهمة للتشبيه) وغيرها.
    قلت: والكلام على هذا من وجهين :
    الوجه الأول :وهو في الكلام عن لفظ (الظاهر) ، فإنه لفظٌ مجمل إذ قد يراد به المعنى الظاهر المعروف من الصفة –على ما يليق بالله عز وجل - ، وقد يراد به الظاهر المشاهد من صفات المخلوقين ، فهذا اللفظ يحتمل المعنيين ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون المعنى الثاني ظاهراً ولا يرتضون أن يكون النصوص كفراً وباطلاً ، والله سبحانه أعلم وأحكم من أن يجعل كلامه لا يظهر منه إلا ماهو كفرٌ و ضلال ، وأما المعنى الأول فهو الحق ، و الشاطبي إن كان يريد المعنى الأول فهو حق ولا يوهم تشبيهاً لأنه يثبت معناه على ما يليق به سبحانه ، وإن كان يريد الثاني فهو باطل ولا يقتضي إثبات الصفات ذلك ، بل يلزمه أن ينفي جميع الصفات بل والأسماء أيضاً لأن ظواهرها واحدة ،فإن قد كان نفى بعض الصفات لأن ظواهرها موهمة للتشبيه فلينف الباقي لأنها من بابةٍ واحدة ، وإن ادعى أن ما أثبته من صفات على ما يليق بالله ولا تقتضي تشبيهاً فكذلك باقي الصفات، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى[4]: (وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها والظاهر هو المراد في الجميع فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شئ عليم ، وأنه على كل شئ قدير ، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره ، وأن ظاهر ذلك مراد ، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا ، وكذلك لما اتفقوا أنه حي حقيقة ، عالم حقيقة ، قادر حقيقة ، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير ، كذلك إذا قالوا في قوله:( يحبهم ويحبونه)(رضي الله عنهم ورضوا عنه) وقوله(ثم استوى على العرش) إنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق ولا حباً كحبه ولا رضا كرضاه ، فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيئاً من ظاهر ذلك مراداً ، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي ، وليس في العقل و لا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفى به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحداً)اهـ.
    وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى [5]-بعد كلامٍ طويلٍ- :( وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معانٍ قبيحةٍ غير لائقة ، والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك ، وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر الكتاب وسنة رسوله e هو عدم معرفة مدعيها ، ولأجل هذه البلية العظمى والطامة الكبرى زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه –ثم قال – وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله e والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه ، ولا بد أن نتساءل هنا فنقول : أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟ والجواب الذي لا جواب غيره : بلى ، وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال : إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة خلقه ؟ والجواب الذي لا جواب غيره : لا ، فبأي وجهٍ يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفةٍ من صفات الله أثنى بها على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال أيضاً:(الأمر الثالث : في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات كالاستواء واليد مثلاً : اعلم أولاً أنه غلط خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث ، وقالوا : يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً لأن اعتقاد ظاهره كفر لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر ، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا ، والنبي e الذي قيل له :(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه e لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، وأحرى في العقائد و لا سيما ما ظاهره المتبادر منه ما لا يليق ، والنبي e كتم أن ذلك الظاهر المتبادر منه كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه ، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتابٍ أو سنةٍ ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله e ، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله e فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شئ من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شئ من صفات الحوادث ، فمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة تلك الصفة الموصوف بها الخالق وبين شئ من صفات المحدثين)اهـ.
    الوجه الثاني: وهو في الكلام على لفظ (الشبه) ، فنفي المشابهة أيضاً لفظٌ مجمل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً :
    أما الحق الذي يحتمله فهو أن يكون بمعنى مشابهة الخلق وهو مرادف للتمثيل ، وهذا هو الذي يعنيه السلف دائماً عند ذكرهم نفي التشبيه نحو قول نعيم بن حماد رحمه الله تعالى : (من شبه الله بخلقه كفر ، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه)
    وأما الباطل الذي قد يراد به فهو نفي المشابهة مطلقاً حتى في المعنى المشترك الكلي للصفات كمعنى الاستواء والنزول واليد والوجه ونحوها ، فإن المعنى الكلي الموجود في الذهن لهذه الصفات تشترك فيها جميع الموجودات ، ولولا هذا المعنى الكلي لما عقلنا معنى الاستواء ، ولا معنى النزول ، ولا معنى اليد و لا معنى الوجه و لا معاني غيرها من الصفات ، إذ خاطبنا الله سبحانه بما نفهمه ونعقله من المعاني ، وهذا المعنى المشترك الكلي إنما يوجد في الذهن ولا يوجد في الخارج إلا مخصصاً مقيداً ، فنزول الله سبحانه يليق بجلاله لا يشبه نزول المخلوق ، ونزول المخلوق يليق به لا يشبه نزول الخالق ، ولكنهما يشتركان في معنىً كلي موجود في الذهن منه نعقل ونعلم معنى النزول ونفهمه ، ولكن هذا الاشتراك في المعنى الكلي لا يقتضي تمثيلاً ولا تكييفاً ، فمن نفى هذا المعنى المشترك الكلي فقد نفى معاني الصفات وهذه عقيدة المفوضة كما سبق بيانه وتفصيل القول فيه في المبحث السابق .
    و الشاطبي رحمه الله تعالى من الواضح جداً أنه يريد في نفيه للتشبيه إدخال هذا المعنى الباطل بدليل تفويضه للمعنى ، وقوله ( إن المشابه للمخلوق في وجهٍ ما مخلوق مثله) فإن هؤلاء يجعلون الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الذهن تشابهاً.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(إن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة ، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا ، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وماءاً وخمراً ونحو ذلك ، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى ، ولكن ليس هو مثله ، ولا حقيقته كحقيقته ، فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ، ولا حقيقته كحقيقته ، والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم تعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد ، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد ، مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد) وقال رحمه الله تعالى :( وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب ، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال )اهـ.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    في تأويلاته لبعض الصفات"

    وقـع الشاطبي رحمه الله تعالى في تحـريـفات لبعض الصفات ، وذلك لأنه يستقي معتقده –كما سبق بيانه-من كتب الأشاعرة وأهل الكلام ويحيل عليها في مواضع كثيرة ، وفي هذا المبحث سوف أذكر الصفات التي حرفها عن موضعها وهي كما يلي :
    أولاً: صفة العلو:
    1-قال في (الاعتصام) 1/305-بعد كلام-:( ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية[2] في إثبات الجوارح للرب –المنزه عن النقائص – من العين ، واليد ، والرجل ، والوجه ، والمحسوسات ، والجهة ، وغير ذلك من الثابت للمحدثات)[3].
    2- وقال في (الاعتصام) 2/707:(لا يشك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة).
    3-وقـال في (الموافقات) 4/154- تحت مسألة مالا بد من معرفته لمن أراد علم القرآن- : ( ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علوم القرآن منه ، وإلا وقع في الشُبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة – ثم ذكر أمثلةً على ذلك ومنها قوله-:
    والثالث: قوله تعالى(يخافون ربهم من فوقهم)(ءأمنتم من في السماء) وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق ، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض ، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة).
    والكلام على هذا من وجوه:
    الوجه الأول : أن مذهب الشاطبي – كما يتبين من مجموع النصوص السابقة- يدل على نفيه للعلو ، ونفي العلو إنما ذهب إليه متأخرو الأشاعرة بعد أن غلب عليهم التجهم والاعتزال، وإلا فالأشعري نفسه كان يثبت صفة العلو[4] ، و الباقلاني شيخ الأشاعرة كان يثبتها أيضاً[5]، وابن كلاب الذي اقتفى الأشعري ومتقدمو الأشاعرة أثره كان يثبتها أيضاً[6] ، بل إن الجهمية الأوائل والمعتزلة الذين امتحنوا الأئمة بخلق القرآن كانوا لا يجرءون على التصريح بهذه العقيدة وإنما يلمحون إليها،كما قال حماد بن زيد و عباد بن العوام ووهب بن جرير وأبو بكر بن عياش وغيرهم رحمهم الله تعالى : (إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شئ [7]) .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى[8] -مخاطباً الأشاعرة-:( ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ، وأنه ليس فوق السماوات رب ، ولا على العرش إله ، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى[9] لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها ، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم)اهـ.
    وقال ابن رشد الفيلسوف في كتابه (مناهج الأدلة) :(القول في الجهة : وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله ، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة)[10]اهـ.
    الوجه الثاني : أن في الكتاب والسنة من الأدلة على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى ما يفوق الألف دليل[11] ، فآيات الفوقية والاستواء والصعود والعروج إليه وأنه في السماء وأنه العلي والأعلى وغيرها ، وأحاديث المعراج والعرش والنزول والرؤية ورفع اليدين والإشارة بالإصبع وأنه في السماء وغيرها كلها تدل على العلو[12] ، فكل هذه النصوص والأدلة – مع أدلة العقل والفطرة – تفيد العلم القاطع الضروري حتى على أصول المبتدعة الذين يجحدون إفادة خبر الآحاد المحتف بالقرائن للعلم ، وقد قال الشاطبي نفسه[13] -عن اجتماع الأدلة وإفادتها للقطع-:(وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع ، فإن للاجتماع ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع ) .
    وإذا جاز تأويل هذه النصوص على خلاف ظاهرها – كما ذهب إليه الشاطبي – لم يعد هناك ثقة بالأدلة الشرعية ، وهذا ما جعل الباطنية يتأولون نصوص الأحكام كالصلوات والزكاة والصيام والحج وغيرها ويحتجون على هؤلاء بتأويلاتهم لنصوص الصفات ، وهو ما جعل الفلاسفة يتأولون نصوص المعاد والجنة والنار ويحتجون على هؤلاء بتأويلاتهم لنصوص الصفات ، كما قال ابن رشد الحفيد – وهو من كبار الفلاسفة الباطنية-حين ذكر نصوص إثبات العلو في كتابه (مناهج الأدلة):(إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً ، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهاً ، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة…وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع في ذلك )[14] .
    وقد ألف ابن سينا (الرسالة الأضحوية) في إنكار المعاد وتأويل النصوص الواردة في ذلك، واحتج على صحة ما ذهب إليه بما ذهب إليه هؤلاء في نفيهم للصفات وتأويلاتهم لنصوصها، فقال:(فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقرباً ما لا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب؟!-يعني أمور المعاد-)[15] .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( إن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري فالقدح فيه من جنس القدح فيما دل عليه القرآن من خلق السماوات والأرض ، ومن نعيم الجنة والنار ، ولا ريب أن دلالة القرآن على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر ومسألة منكر ونكير ، وأعظم دلالة على أن محمداً خاتم الأنبياء وأنه أفضل الخلق وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة ، وأعظم دلالة من تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص).
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى [17]:( وكذلك سطا على تأويل المعاد قوم وقالوا: فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات ، بل نحن أعذر ، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير ، فإذا ساغ لكم تأويلها ، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟ .
    وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر والنهي وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها وتنوعها ، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية)اهـ.لذا اشتد إنكار السلف لما ظهرت مقولة إنكار العلو ، فقد روى الحاكم في (معرفة علوم الحديث)[18]قال : سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول:( من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر به ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وأُلقي على بعض المزابل حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن جيفته ، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال e )اهـ.
    الوجه الثالث: أن قوله (فلا يكون فيه على إثبات جهة البتة) وقوله (ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة) وقوله (والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات ) يفيد إنكار العلو، وقد سبق الإجابة على ذلك في الوجوه السابقة ، والمقصود هنا الكلام على قوله (جهة) ، فإن هذا اللفظ مجمل لا يثبت ولا ينفى ، فإن ما يوصف به الله سبحانه توقيفي طريقه الكتاب والسنة ، فما أثبتته النصوص أثبتناه ، وما نفته نفيناه ، وما لم يرد نفيه ولا إثباته لم نثبته ولم ننفه ، بل نستفصل عن المراد به ، فإن كان حقاً قبلناه ، وإن كان باطلاً رددناه ، مع توقفنا في نفس اللفظ فلا يثبت ولا ينفى ، ومن هذه الألفاظ لفظ (الجهة) فإنه لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته ، لذلك لا يطلق نفيه ولا إثباته ولكن يستفصل عن مراد قائله ، فإن أراد به أن الله سبحانه في جهة مخلوقة تحويه فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل من أن تحويه جهة مخلوقة فينفى هذا المعنى عنه ، وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فهذا الأمر نثبته لله سبحانه وقد دلت النصوص عليه[20] ، وكل من نفى الجهة عن الله سبحانه فإنما يريد بذلك نفي العلو والفوقية وقد سبق الرد على ذلك .
    الوجه الرابع: أن قوله (إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض) منقوض بأن المشركين كانوا حال شركهم يقرون بأن الله تعالى في السماء وهو إلهٌ لهم ، فقد روي من طريق شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين (أن الرسول e قال لأبيه حصين : كم تعبد؟ قال: سبعة ، ستاً في الأرض وواحداً في السماء ، قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء )[21] ، فهذا قبل أن يسلم كان مقراً بأن الله تعالى في السماء ، ولم ينازع المشركون في ذلك كالجهمية ، قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى [22]:( فحصين الخزاعي كان يومئذٍ في كفره أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام ، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام التي في الأرض المخلوقة ، وقد اتفقت الكلمة بين المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه )اهـ.
    وقـد ورد في أشعار الجـاهليين الإقرار بأن الله تعالى في السماء، كقول عنترة بن شداد العبسي :
    يا عبلُ أين من المنية مهربي إن كان ربي في السـماء قضاها[23]وقال أوس بن حارثة بن ثعلبة-وهو جاهلي-:فإن تكن الأيام أبلين أعظمي وشيبن رأسي والمشيب مع العمرفإن لنا رباً علا[24] فوق عرشه عليماً بما نأتي من الخير والـشر[25]و كقول أمية بن أبي الصلت :
    مجدوا الله فهو للمجد أهـل ربـنا في السماء أمسى كبيراوقوله أيضاً :فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فردٌ موحد[26] فالقرآن لما نزل بإثبات الفوقية لله سبحانه كان مقرّراً أصلاً لما عليه العقول والفِطر ولما عليه اعتقاد المشركين أيضاً، فإنهم لم يكونوا ينازعون في ذلك حتى يكون إثبات العلو قد جاء لينفي ما عليه اعتقادهم من أن الآلهة في الأرض .
    الوجه الخامس: أن قوله (فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة) لو قلنا بتسليم ذلك – جدلاً- فإنما يكون هذا لو أن العلو لم يثبت إلا بالأدلة السمعية فقط ، كيف وقد دل العقل ودلت الفطرة الصحيحة عليه؟ كما قال عثمان الدارمي رحمه الله تعالى:( حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك – أي بالعلو – إذا حزب الصبي شئ يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحدٍ بالله وبمكانه أعلم من الجهمية)[27] .
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى[28]:(وأما كونه عالياُ على مخلوقاته بائناً منهم فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم )اهـ.
    كما في الحكاية المشهورة أيضاً عن أبي جعفر الهمداني وأبي المعالي الجويني حين قال أبو المعالي على المنبر : كان الله ولا عرش –يريد به نفي العلو والاستواء- ، فقال الهمداني: يا أستاذ دعنا من ذكر العرش – يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع- أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارفٌ قط (يا الله) إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع هذه الضرورة من قلوبنا؟ قالوا : فلطم الجويني على رأسه وقال : حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ، ونزل.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    ثانياً: الاستواء :
    1-قال في (الاعتصام) 2/787:(بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقومٍ حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى(على العرش استوى) : قاعد ، قاعد ، وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ).
    2- وسبق ذكر تفويضه للاستواء في موضعين عند الكلام على عقيدة التفويض .
    والكلام على هذا من ثلاثة وجوه :
    الوجه الأول : أن معتقد أهل السنة في الاستواء سبق ذكره عند ذكر كلام ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك فيه، وهو أن معنى الاستواء معلوم لنا ولكن الكيفية مجهولة ، وقد كان نفي الاستواء علامة من علامات الجهمية يُستدل بها عليهم ، كما روى عبدالله بن أحمد عن يزيد ابن هارون أنه سئل : من الجهمية؟ قال : من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف ما يقر ذلك في قلوب العامة فهو جهمي .
    الوجه الثاني: أن قوله (الظاهرية ) إنما يعني بهم الحنابلة لأنهم يأخذون بظاهر نصوص الصفات، وقد أورد الشاطبي قصتهم هذه نقلاً عن أبي بكر بن العربي –وهو أشعري جلد عفا الله عنه- فقال:( حكى ابن العربي في (العواصم) قال: أخبرني جماعة من أهل السنة – ويعني بهم الأشاعرة – بمدينة السلام أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ (الرحمن على العرش استوى) قال لي أخصهم : من أنت –يعني الحنابلة – يقومون في أثناء المجلس ويقولون : قاعد ، قاعد ، بأرفع صوتٍ وأبعده مدى ، وثار بهم أهل السنة – يعني الأشاعرة – من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان ..الخ)اهـ ، ويطالب هنا أولاً بتصحيح هذه القصة فإنه نقله عن أشاعرة مجهولين ، وابن العربي له نقولات من هذا الجنس تحتاج إلى تصحيح[7]، والفتنة قد حصلت فعلاً في بغداد بين القشيري وأتباعه من الأشعرية وبين أتباع أبي يعلى من الحنابلة ، ولكن الحق كان مع الحنابلة في ذلك في الجملة ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(وأكثر الحق فيها – أي في هذه الفتنة – كان مع الفرائية-يعني أتباع أبي يعلى بن الفراء- مع نوع من الباطل ، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل )اهـ.
    الوجه الثالث : في الكلام على وصف الله سبحانه بالقعود والجلوس ، فهل يوصف بهما؟.
    فقد ورد من حديث عبدالله بن خليفة عن عمر بن الخطاب t أنه قال (إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد ) وروي مرفوعاً بألفاظٍ أخرى.
    وقال عبدالله بن أحمد : (سئل أبي عما روي في الكرسي وجلوس الرب عليه جل ثناؤه ، رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث) وروى عبد الله أيضاً قال[11]: حدثني أبي ثنا وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالله بن خليفة عن عمر (إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي) فاقشعر رجل سماه –أي عند وكيع- فغضب وكيع وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها اهـ.
    و قد روي عن عبدالله بن مسعود والحسن وعكرمة تفسير الاستواء بالجلوس-وفيهـا ضعف- ولكن ثبت عن بعض السلف تفسيره بذلك ، وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن ، فما جاء في الآثار عن النبي ثلى الله عليه وسلم من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب وحديث عمر بن الخطاب وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد)اهـ.
    فالحاصل أن صفة القعود والجلوس كان السلف يذكرونها ولا ينكرونها لأن هذا سبيل الصفات كلها فإنها تثبت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى ، والله تعالى أعلم

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    ثالثاً : صفة الكلام :
    1-قال في (الاعتصام) 1/307:( وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناءً على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأصول).
    2-وقال في (الاعتصام) 2/843،844:(كلام الباري إنما نفاه من نفاه وقوفاً مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال ، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجاً عن مشابهة المعتاد على وجهٍ صحيحٍ لائقٍ بالرب ، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلاً ، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال ، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجرداً).
    3- وقال في (الموافقات) 2/482 –في التمثيل على الخوارق التي لا تسوغ لمخالفتها لأحكام الشريعة إذا عُرِضت عليها-:(أو يسمع نداءً يحس فيه بالصوت والحرف وهو يقول أنا ربك).
    4- وقال في (الموافقات) 4/274:(إن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجهٍ و لا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام ).
    والكلام عل هذا من وجهين :
    الوجه الأول: أن القول بأن كلام الله سبحانه معنى نفسي وهو واحد لا تعدد فيه وليس بحرفٍ ولا صوت قول محدث مبتدع في الإسلام لم يعرف إلا في القرن الثالث وأول من قاله ابن كُلاّب وتبعه على ذلك الأشعري و الأشاعرة وهو مما اختص به الأشاعرة و الكلاّبية دون بقية المبتدعة .
    ومن قولهم في ذلك : إن كلام الله معنى واحد هو الأمر بكل مأمور ، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه ، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وأن معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد ، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين إلى غير هذا من العجائب
    وجميع العقلاء يقولون بأن فساد هذا الكلام معلوم بالضرورة ، لذلك فالأشاعرة يقولون بأن الألفاظ والحروف التي بين أيدينا-في المصحف- مخلوقة –وهو نفس كلام المعتزلة- وقد اعترف علماؤهم بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي ، كما قال الرازي في (المحصل):(فالحاصل أن الذي ذهبوا إليه –يعني المعتزلة – فنحن لا ننازعهم فيه) وقال:(واعلم أننا لا ننازعهم في المعنى)، ولهذا قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى :(ومدار القوم –يعني الأشاعرة - على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة ، ولكنهم أحبوا أن لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان ، وجحد الحقائق ، ومخالفة الإجماع ، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم ، والقول بشئ لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر ، ومن العجب أنهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى-مخاطباً الأشاعرة-:(وكذلك قولكم في القرآن ، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم من الذين قالوا القرآن مخلوق حتى كفروهم ، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة ، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة ، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك .
    وعند التحقيق : فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه ، ومخالفوهم من وجه ، وما اختلفتم فيه أنتم وهم فأنتم أقرب إلى السنة من وجه ، وهم أقرب إلى السنة من وجه ، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه ، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه .ذلك أن المعتزلة قالوا : إن كلام الله مخلوق منفصل عنه ، والمتكلم من فعل الكلام ، وقالوا : إن الكلام هو الحروف والأصوات ، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله ، وقالوا : الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع الكلام لا صفاته ، والقرآن غير التوراة ، والتوراة غير الإنجيل ، وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء .وقلتم أنتم : إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر ، وهذه صفات الكلام لا أنواعه ، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً ، والحروف المؤلفة ليست من الكلام ، ولا هي كلام ، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله ، كما قاله ابن كُلاّب ، أو عبارة عنه كما قاله الأشعري .ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام…لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله – كما يقوله سائر المسلمين- وأنتم جعلتموه كلاماً مجازاً …إلى أن قال:فالمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون لأن حروف القرآن ليس هو عندكم كلام الله ، بل ذلك مخلوق إما في الهواء وإما في نفس جبريل وإما في غير ذلك ، فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق ، لكن قالوا هم : ذلك كلام الله ، وقلتم أنتم : ليس كلام الله ..فصارت المعتزلة خير منكم في هذا الموضع،إلى أن قال : ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحداً مفرداً هو الأمر بكل ما أمر الله به ، والخبر عن كل ما أخبر الله به، وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه ، وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح العقول).
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:(فتأمل الأخوّة التي بين هؤلاء – يعني الأشاعرة- وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم ، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل ، فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه وهو كلام الله وإنه مخلوق)اهـ.
    الوجه الثاني:أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء ، وكيف شاء ، وأن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته ، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه يتكلم بصوت ، وأن القرآن كلام الله تعالى ألفاظه ومعانيه .
    وقد ثبت أن الله سبحانه يتكلم بصوت ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري t قال قال رسول الله e :( يقول الله تعالى : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ، فينادي بصوت :إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ) وفي الصحيح من حديث أبي هريرة t أن رسول الله e قال:(إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان) وفي رواية لعبدالله بن مسعود t (إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان)، وثبت عن الصحابة ومن بعدهم إثبات الصوت لله سبحانه.
    قال عبدالله بن أحمد:(سألت أبي رحمه الله عن قومٍ يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ، قال أبي : بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت ، وقال أبي رحمه الله :حديث ابن مسعود t (إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان) قال أبي : وهذا الجهمية تنكره).
    وقال البخاري رحمه الله تعالى[12]:(وأن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل ، وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته)اهـ.
    والله سبحانه تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه ، وقد ورد إثبات الحروف للقرآن مرفوعاً، فقد روى الترمذي وصححه من حديث عبدالله بن مسعود t أن رسول الله e قال:( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول (الم) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف، وميم حرف) ، قال أبو نصر السجزي رخمه الله تعالى:(فقول خصومنا إن أحداً لم يقل إن القرآن كلام الله حرف وصوت كذب وزور ، بل السلف كلهم كانوا قائلين بذلك)اهـ.
    وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى:( وأما إثبات حروف القرآن فإن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنزل على محمد e الذي هو سور وآيات ، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ، فمن أقر بهذا وعلمه فقد أقر بالحروف ، فلا وجه لإنكاره ولمجمجته ، ومن أنكر هذا ففي القرآن أكثر من مائة آية ترد عليه ، فإجماع المسلمين يكذبه وسنة رسول الله e وقول أصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم يكفره –إلى أن قال-مع أن لفظ الحروف قد نطق به النبي e في أخباره ، وجاء عن أصحابه كثيراً وعن من بعدهم ، وأجمع الناس على عد حروف القرآن وآيه وكلماته ، وأجمعوا على أن من جحد حرفاً متفقاً عليه فهو كافر ، فما الجحد له بعد ذلك إلا العناد) ، وقال أيضاً رحمه الله تعالى[15]-عن الحروف-:(ولم تزل هذه الأخبار، وهذه اللفظة-يعني الحروف- متداولة منقولة بين الناس ، لا ينكرها منكر ، ولا يختلف فيها أحد، إلى أن جاء الأشعري فأنكرها ، وخالف الخلق كلهم مسلمهم وكافرهم ، ولا تأثير لقوله عند أهل الحق، ولا تترك الحقائق وقول رسول الله e وإجماع الأمة لقول الأشعري إلا من سلبه الله التوفيق ، وأعمى بصيرته ، وأضله عن سواء السبيل –ثم تكلم رحمه الله على إثبات الصوت والرد على الأشاعرة في ذلك-)اهـ ، والله تعالى أعلم.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    رابعاً: الرؤية:
    قال في (الاعتصام) 2/843:( رؤية الله في الآخرة جائزة ، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا ، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجهٍ صحيحةٍ ليس فيها اتصال أشعةٍ ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك ، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة ، وهو إلى القصور في النظر أميل ، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق).
    قلت:
    وهذا مبني على مذهب متأخري الأشاعرة الذين جمعوا بين نفي العلو وإثبات الرؤية ، فوافقوا أهل السنة في إثبات الرؤية ، ووافقوا الجهمية في نفي العلو ، فتناقضوا في إثبات الرؤية بناءً على ذلك من غير مقابلة ولا مواجهة ولا اتصال أشعة !!كما يقولون، وهو أمر انفردوا به بين المسلمين سنيهم وبدعيهم كما اعترف بذلك الرازي.
    ولقولهم هذا ألزمهم المعتزلة بأن ينفوا الرؤية لنفيهم العلو والمواجهة والمقابلة، وهذا الإلزام لا محيد عنه فإن العقل لا يتصور رؤية كهذه التي يثبتها الأشاعرة ، فحقيقة قولهم نفي الرؤية ، ولهذا فسرها الشهرستاني بالعلم ، وفسرها الرازي بالكشف التام ، واعترف حذاقهم بأنه لا خلاف بينهم وبين المعتزلة في هذا ، وإنما الخلاف لفظي ، كما قال أبو نصر السجزي رحمه الله تعالى:(فهو إذا قال إنه يرى بالأبصار لم يجز في العقل أن تكون الرؤية عن غير مقابلة ، وإن قال إن الرؤية لا تخص البصر عاد إلى قول المعتزلة، وصارت الرؤية في معنى العلم الضروري ، وقد حكي عن بعض متأخريهم أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية هي العلم لا غير)اهـ .
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(ولهذا صار الحذاق من متأخري الأشاعرة على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة ، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة ، وقالوا : النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي) وقال:(والأشاعرة فسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة ، وقالوا : ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى ، وإنما خلافهم مع المجسمة)اهـ.
    ويكفي في إبطال هذا المذهب مخالفته للمعقول –الذي يدعون اتباعه- ومخالفته للمنقول، أما مخالفته للمعقول فقد اعترف حذاق الأشاعرة كما سبق أن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي وأنهم متفقون على إنكار الرؤية –لأن إثبات الرؤية على قولهم مستحيل-، وأما المنقول فما تواتر عن النبي e من أحاديث الرؤية الجامعة بين إثباتها وإثبات العلو ، فمنها الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة t (أن ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنكم ترونه كذلك) وفي الصحيحين أيضاً عن جرير بن عبدالله البجلي t قال :(كنا جلوساً مع النبي e فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة ، فقال : إنكم سترون ربكم عياناً ، كما ترون هذا ، لا تُضامُّون في رؤيته) وغيرها من الأحاديث .
    وهذه الأحاديث جمعت بين إثبات الرؤية وإثبات العلو ، حيث شبّه الرسول e رؤية الله سبحانه وتعالى برؤية القمر ورؤية الشمس – وقد جمعت رؤية هذين العلو والظهور- وهو تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ، ورؤية هذين إنما تحدث بمعاينة ومواجهة ، أما رؤية ما لا نعاين ولا نواجه فغير متصورة في العقل مطلقاً.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    خامساً:صفات (الاستهزاء) و (المكر) و (الكيد) ونحوها:
    قال في (الموافقات) 2/257:(تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداءً مجازٌ معروف مثله في كلام العرب ، وفي الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى (الله يستهزئ بهم) (ومكروا ومكر الله) (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) إلى أشباه ذلك).
    قلت:
    وحمل هذه الصفات على المجاز تأويل لها ، والصحيح في هذه الصفات إثباتها على الوجه اللائق بالله سبحانه ، وكون الاستهزاء والمكر والكيد ونحوها صفات مذمومة من البشر لا يقتضي هذا نفيها عن الله سبحانه لأمرين :
    الأمر الأول: أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له في ذاته و لا في صفاته ولا في أفعاله ، فلا يقاس بخلقه –كقياسات المعتزلة مشبهة الأفعال- فيجعل كل ما حسن من البشر حسن منه ، وما قبح منهم قبح منه ، فإن هذا لا يكون إلا للنظيرين ، والله سبحانه لا نظير له ، فقد يحسن منه ما لا يجوز للبشر الاتصاف به كالعظمة والكبرياء ، وقد يحسن من خلقه ما ينزه عنه سبحانه كالعبودية .
    الأمر الثاني :إن كون الاتصاف بهذه الصفات مذموم ليس على الإطلاق ، لأن هذه الصفات ونحوها لها حالتان :
    الحالة الأولى :يكون الاتصاف بها مذموماً وهو إذا ما تضمن ذلك للظلم والكذب والغش ونحوها .
    الحالة الثانية: يكون الاتصاف بها محموداً وهو ما كان بحقٍ وعدلٍ ومجازاةٍ ، فمن مكر بظلم فيحسن أن يمكر به بحقٍ و بعدلٍ .
    فمثل هذه الصفات ليست كمالاً على الإطلاق ، وليست نقصاً على الإطلاق ، بل فيها تفصيل ، ومثلها يرد إطلاقها على الله سبحانه في حالة كونها كمالاً وهي التي تكون على سبيل المقابلة ، لذلك فليس من أسمائه سبحانه (المستهزئ) و لا (الماكر) و لا (الكائد) ونحوها ، لأنها ليست محمودة على الإطلاق ، والله سبحانه لم يصف نفسه بها إلا على وجه المقابلة والجزاء لمن فعل ذلك بغير وجه حق .
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى -عن صفات المكر والخداع والكيد والاستهزاء ونحوها-: (لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيراً ، فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازاً في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيبٍ وذم .
    والصواب : أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب ، فما يذم منها إنما لكونه متضمناً للكذب والظلم أو لهما جميعاً ، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله…فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازاً ، والحق خلاف هذا الظن ، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم ، فما كان منها متضمناً للكذب والظلم فهو مذموم ، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم حسُن من المجازي له أن يخدعه بحقٍ وعدلٍ –إلى أن قال-إذا عرف ذلك فنقول : إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً ، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى –إلى أن قال- أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق ، وقد عُلِم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق ، فكيف من الخالق سبحانه ؟ ، وهذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله ، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه ، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلاً وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحاً ، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحاً البتة ، فلا يمتنع وصفه به ابتداءً لا على سبيل المقابلة على هذا التقرير ، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه)اهـ.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    سادساً: الحب والبغض :
    1-قال في (الموافقات) 2/194:(والحب والبغض من الله سبحانه إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام فيرجعان إلى صفات الأفعال ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام و الانتقام فيرجعان إلى صفات الذات ، لأن نفس الحب والبغض المفهومين من كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة أخرى ، وعلى كلا الوجهين فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام والانتقام وهما عين الثواب والعقاب).
    2-وقال في (الموافقات) 2/195:(إنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات إما أن يستلزم الثواب والعقاب أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب، وإن لم يستلزم فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشئ ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد ، وهو الجزاء لا زائد يرجع إلى العبد إلا ذلك).
    3-وقال في (الموافقات) 2/202:( صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب ).
    قلت:والكلام على هذا من وجهين:
    الوجه الأول:أن هذا الكلام فيه تأويل لصفتي الحب والبغض ، وهو نفس تأويل الأشاعرة فإنهم يؤولون الحب والبغض إما بالمخلوقات فيجعلون الحب هو نفس الإنعام أو الثواب ، والبغض هو نفس الانتقام أو العقاب ، أو بصفةٍ لازمةٍ للحب والبغض وهذه الصفة يقرون بها ، فيجعلون الحب هو إرادة الإنعام، والبغض هو إرادة الانتقام ، وهم يثبتون الإرادة.
    وهم بذلك اقتفوا أثر الجعد بن درهم –شيخ الجهمية – فإنه أول من أنكر صفة المحبة، وتبعه الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم ، مع أن الأشاعرة يلزمهم إثبات المحبة والبغض لأنهم يثبتون الإرادة ، فإن كان إثباتهم للإرادة كما يليق بالله عز و جل فليثبتوا الحب و البغض كما يليق بالله أيضاً، فإن قالوا : إن الحب رقة وضعف في القلب ، والبغض لا يكون إلا عن منافرة ، والله سبحانه ينزه عن هذا ، قيل لهم : والإرادة أيضاً هي ميل النفس لجلب منفعة أو دفع مضرة ، والله سبحانه ينزه عن هذا فيلزمكم نفي الإرادة كما نفيتم الحب والبغض ، فإن قالوا : هذه الإرادة التي تذكرون هي إرادة المخلوقين ، ونحن نثبت الإرادة لله على ما يليق به فلا تشبه غيرها من الإرادات ، قيل لهم : وهذا الحب الذي تقولون إنه رقة ، والبغض الذي تقولون إنه لا يكون إلا عن منافرة هو أيضاً حب المخلوقين وبغضهم ، فأثبتوا الحب والبغض على ما يليق بالله عز و جل ، فيلزمهم فيما أثبتوه نظير ما نفوه .
    فإذا فهم ما سبق ، تبين الجواب على الشاطبي في قوله :( إن نفس الحب والبغض المفهومين من كلام العرب محالان على الله تعالى ) ، والكلام عليه من وجهين :
    الأول :أن يقال له : ويلزمك أيضاً أن تقول ونفس الحياة المفهومة من كلام العرب محالة على الله تعالى ، ونفس العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة وجميع الصفات المفهومة من كلام العرب محالة على الله تعالى ، فإن قال : ولكننا نثبت هذه الصفات كما يليق بالله عز وجل ولا نثبتها كثبوتها للمحدثات ، قيل له: ويلزمك هذا في الحب والبغض ، فأثبتها كما يليق بالله عز وجل ، فإن قال : ولكن الحب والبغض المفهومين من كلام العرب محالان على الله ، فإن الحب رقة ، والبغض عن منافرة ، قيل له : والحياة المفهومة من كلام العرب هو بقاء الروح في الجسد كما في الحيوان أو النماء كما في النبات ، والسمع المفهوم من كلام العرب هو التقاط الأصوات بآلةٍ كالصماخ ونحوه مع وجود الأسباب وزوال الموانع ، وهكذا، فيلزمك نفي الصفات كلها إن جعلت المفهوم من كلام العرب ما نراه في الشاهد، فإن قال : ولكن هذه صفات المحدثات ، ونحن نثبت الصفة لله كما يليق به على وجهٍ لا يشبه صفاتها ، قيل له: والحب والبغض الذي أحلته على الله هو الثابت للمحدثات ، فأثبت لله سبحانه الحب والبغض اللائق به كما أثبت غيره من الصفات .
    الثاني : أن قوله (المفهومين من كلام العرب) مجمل ، فإن كان يريد أن المفهوم من كلام العرب هو ما نراه في الشاهد من صفات المخلوقات فهذا ينزه الله تعالى عنه ، ولكن ليس هذا هو المفهوم من كلام العرب ، فإن الله سبحانه خاطبنا بلغة العرب ووصف نفسه بالحياة وبالعلم وبالقدرة وبغيرها ، فأثبتناها على ما نفهمه من لغة العرب ولا يقتضي هذا تشبيهاً لأننا نثبتها كما يليق بالله سبحانه ، وإن كان يريد أن معنى المحبة والبغض ينزه الله عنه مطلقاً فهذا باطل ، فقد ثبت ذكر المحبة والبغض في الكتاب والسنة فثبتها على ما يليق بالله عز وجل .
    الوجه الثاني:أن قول الشاطبي (لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره ، أو يتكمل بشئ ، بل هو الغني على الإطلاق).
    فيقال له : ما المقصود بهذا؟ .
    إن كان يريد بقوله (تعالى أن يفتقر لغيره ، أو يتكمل بشئ) نفي المحبة والبغض فيلزمه أن يقول هذا الكلام على باقي الصفات ، فإذا كان اتصافه بالمحبة والبغض افتقاراً لغيره وتكملاً بغيره ، فقل مثل هذا في ما أثبته من صفات ، فإن قال :إنها من صفاته وهو بصفاته سبحانه كامل لا نقص فيه ولا افتقار ، فقل مثل هذا في المحبة والبغض .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(قول القائل يتكمل بغيره ، أيريد به شئ منفصل عنه ؟ أم يريد بصفة من لوازم ذاته؟ أما الأول فممتنع ، وأما الثاني فهو حق ، ولوازم ذاته لا يمكن وجود ذاته بدونها كما لا يمكن وجودها بدونه وهذا كمال بنفسه لا بشئ مباين لنفسه).
    والسبيل في هاتين الصفتين هو سبيل أهل السنة والجماعة في باقي الصفات وهو إثباتها على ما يليق بالله عز وجل ، والله تعالى أعلم.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    سابعاً: الدنو:
    قال في (الموافقات) في موضعين :2/164 و 4/202-عن الله سبحانه-:(منزه عن مداناة العباد).
    قلت:
    وقوله (منزه عن مداناة العباد) يحتمل أحد معنيين :
    المعنى الأول : أن يكون أراد أن الله سبحانه منزهٌ عن الاختلاط بالمخلوقات ، أو أن يحويه شئ منها ، ونحو هذه المعاني فهذا حق ، ولكن الخطأ في التعبير لأن لفظ (الدنو) ثابت في الأحاديث.
    المعنى الثاني: أن يكون مراده نفي صفة الدنو ، وأن الله سبحانه لا يدنو بنفسه ، ولا يدني بعض عباده إليه فهذا باطل ، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عبدالله بن عمر t أن رسول الله e قال :( يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ..الحديث) وغيره من الأحاديث ، فهذه الصفة من صفات الأفعال كالنزول والمجئ والإتيان ونحوها فتثبت بما يليق بالله عز وجل .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( وأما دنوه نفسه ، وتقربه من بعض عباده ، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ، ومجيئه يوم القيامة ، ونزوله واستوائه على العرش ، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث ، والنقل عنهم بذلك متواتر ، وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ، وكانوا ينكرون الصفات والعلو على العرش ، ثم جاء ابن كلاب فخالفهم في ذلك وأثبت الصفات والعلو على العرش ، لكن وافقهم على أنه لا تقوم به الأمور الاختيارية ولهذا أحدث قوله في القرآن أنه قديم لم يتكلم به بقدرته ، ولا يعرف هذا القول عن أحد من السلف ، بل المتواتر عنهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يتكلم بمشيئته و قدرته –إلى أن قال- فالذين يثبتون أنه كلم موسى بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً به هم الذين يقولون أنه يدنو ويقرب من عباده بنفسه ، وأما من قال القرآن مخلوق أو قديم فأصل هؤلاء أنه لا يمكن أن يقرب من شئ و لا يدنو إليه )اهـ.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    ثامناً:الحكمة:
    1-قال في (الموافقات) 2/294:(وضع الشريعة إما أن يكون عبثاً أو لحكمة ، فالأول باطل…وإن كان لحكمة ومصلحة ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ، ورجوعها إلى الله محال ، لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد).
    2-وقال في (الموافقات) 1/234:(الشرائع إنما جئ بها لمصالح العباد ، فالأمر والنهي والتخيير راجعة إلى حظ المكلف ، لأن الله غني عن الحظوظ ، منزه عن الأغراض).
    3-وقال في (الموافقات) 1/324:(ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط ، ولكن وضعها للعباد ليبتليهم).
    قلت: والكلام على هذا من ثلاثة وجوه:
    الوجه الأول : أنه هنا خالف الأشاعرة في الحكمة ووافق المعتزلة – وهم خير من الأشاعرة في هذه المسألة- في إثبات حكمة تعود إلى العباد ، ونفي أن تعود الحكمة إلى الله سبحانه، وهذا على أصول المعتزلة الذين ينفون قيام الصفات بالله سبحانه فهم يثبتون حكمة منفصلة عنه ، و الأقوال في مسألة إثبات الحكمة تعود في جملتها إلى ثلاثة أقوال هي :
    القول الأول : قول من ينفي الحكمة مطلقاً وهو قول الجهمية والأشعرية ونحوهم.
    القول الثاني: قول من يثبت حكمة تعود إلى العباد فقط ، وهو قول المعتزلة –ووافقهم الشاطبي هنا-.
    القول الثالث: وهو قول أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون الحكمة لله سبحانه وتعالى ، وهذه الحكمة تتضمن أمرين :
    الأمر الأول: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها و يرضاها .
    الأمر الثاني : حكمة تعود إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها
    والأدلة على هذا كثيرة جداً، وقد اتفق الصحابة والسلف الصالح وأئمة الدين على أن حكمته سبحانه وصفه العظيم القائم به الناشئ عنه وقوع الأشياء في أحسن صنع وأكمل نظام ، وإحكام أحكامه بالحكمة التي صارت بها أحسن الأحكام[4].
    الوجه الثاني : أن قوله (منزه عن الأغراض) يحتمل أمرين :
    الأمر الأول : أن يكون منزهاً عن أغراض المخلوقات التي نراها في الشاهد ، فهذا صحيح .
    الأمر الثاني : أن يراد بهذا نفي أن يفعل الله شيئاً لشئ آخر ، وأن يفعل أمراً لأجل أمرٍ آخر، فهذا باطل وهو نفي للحكمة ، وقد ذكر الله سبحانه في آياتٍ كثيرة إثبات الحكمة وأنه يخلق بعض المخلوقات ويفعل بعض الأشياء من أجل شئ آخر .
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:( الأصل الخامس : أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل ، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل ، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل ، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها – ثم ذكر اثنين وعشرين نوعاً وذكر في كل نوع بعض الأدلة عليه -)اهـ.
    الوجه الثالث : أما قوله ( ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط) فالجواب عليه ماقاله ابن القيم رحمه الله تعالى:(أنه سبحانه إذا كان قادراً على تحصيل ذلك بدون الوسائط وهو قادر على تحصيله بها كان فعل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة ، وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا يفعل إلا بأحد النوعين ، والرب تعالى تتنوع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته ، فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق منفصل وبدون إحداثه ، بل ربما يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه ، فمحبوبه يحصل بهذا وبهذا ، وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين)اهـ.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    تاسعاً: النزول والنور :
    1-قال في (الموافقات) 5/202- تحت مسألة أسباب الخلاف بين حملة الشريعة ، وهي نقلاً عن غيره وأقرها - :( والثاني : دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، وجعله ثلاثة أقسام –ومنها-: ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول ، و(الله نور السماوات والأرض)).
    2- وسبق ذكر تفويضه لمعنى النزول في ثلاثة مواضع.
    والجواب على هذا من ثلاثة وجوه :
    الوجه الأول : أن النزول الإلهي ثابت لله سبحانه كما تواترت بذلك الأحاديث كحديث أبي هريرة t المتفق عليه أن رسول الله e قال :( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له) وغيره من الأحاديث ، ولا يجوز حمله على المجاز لأن هذا نفي له ، ولنفي المبتدعة له فقد أودعه الأئمة مصنفاتهم في العقائد، والحق في هذا أن نؤمن بهذه الصفة ، ونفوض العلم بكيفية النزول إلى الله سبحانه وتعالى كالحال في باقي الصفات .
    الوجه الثاني : أما جعل قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض) مجازاً فهو أيضاً من تحريفات المبتدعة للصفات ، وإنكار (النور) إنما كان من الجهمية والمعتزلة ، وتبعهم على ذلك متأخرو الأشاعرة ، وإلا فابن كلاب –الذي اقتفى أثره الأشعري- و الأشعري كانا يثبتانها ، وقد جاءت النصوص بإثبات هذه الصفة ، فقد قال الله تعالى (الله نور السماوات والأرض) وقال تعالى(وأشرقت الأرض بنور ربها) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e كان يقول إذا قام من الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض) ، وروى مسلم عن أبي ذر t أنه سأل رسول الله e (هل رأيت ربك) فقال (نورٌ أنى أراه) وفي لفظ (رأيت نوراً) ، وروى مسلم أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري t أن الرسول e قال :( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وغيرها من الأحاديث .
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:( إن النص قد ورد بتسمية الرب نوراً ، وبأن له نوراً مضافاً إليه ، وبأنه نور السماوات والأرض ، وبأن حجابه النور ، فهذه أربعة أنواع :
    فالأول : يقال عليه بالإطلاق ، فإنه النور الهادي .
    والثاني : يضاف إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته وقدرته وعلمه…
    والثالث: وهو إضافة نوره إلى السماوات والأرض كقوله(الله نور السماوات والأرض).
    والرابع : كقوله (حجابه النور ).
    فهذا النور المضاف إليه يجئ على أحد الوجوه الأربعة)اهـ.
    أما شبهة هؤلاء بجعل (نور السماوات والأرض) يطلق على الله مجازاً فهو ظنهم أن النور هو الواقع على الجدران المرئي في الشاهد ، وقد ذكر ابن القيم هذا القول ورده من أربعة عشر وجهاً[8]ومنها قوله[9]: (أسأتم الظن بكلام الله ورسوله e حيث فهمتم أن حقيقة مدلوله أن نوره سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان والجدران ، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره وجحده، وجمعتم بين الفهم الفاسد وإنكار المعنى الحق ، وليس ما ذكرتم من النور هو نور الرب القائم به الذي هو صفته ، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه ، فإن هذه الأنوار المخلوقة إنما تكون في محل دون محل ..ليس هو نور جميع السماوات والأرض ، فمن ادعى أن ظاهر القرآن و كلام الرسول e أن نور الرب سبحانه هو هذا النور الفائض فقد كذب على الله ورسوله فلو كان لفظ النص : الله هو النور الذي تعاينونه وترونه في السماوات والأرض لكان لفهم هؤلاء وتحريفهم مستند ما ، أما ولفظ النص ( الله نور السماوات والأرض) فمن أين يدل هذا بوجه ما أنه النور الفائض عن جرم الشمس والقمر والنار ، فإخراج نور الرب تعالى عن حقيقته وحمل لفظه على مجازه إنما استند إلى هذا الفهم الباطل الذي لم يدل عليه اللفظ بوجه)اهـ.
    الوجه الثالث : أننا لو سلمنا بوجود المجاز في اللغة فقد اتفق القائلون به على أن الأصل في الكلام الحقيقة ، ولا يحمل الكلام على مجازه إلا بقرينة تصرفه عن الحقيقة إلى المجاز ، وفي هاتين الصفتين لا توجد قرينة مطلقاً لصرف الحقيقة إلى المجاز
    فإن قالوا : إن القرينة هي تنزيه الله عن صفات الحوادث ، وهذه من صفاتهم ، قيل لهم : فيلزمكم هذا نفسه فيما أثبتموه – والخطاب مع الأشاعرة - ، فيلزمكم نفي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام لنفس العلة وحملها كلها على المجاز ، فإن قالوا: ولكن نثبتها كما يليق بالله على وجهٍ لا يشبه صفات الحوادث ، قيل لهم : فأثبتوا ما نفيتموه على ما يليق بالله على وجهٍ لا يشبه صفات الحوادث ، فإن قالوا : لكن الصفات التي أثبتناها قد دل عليها العقل مع السمع بخلاف التي نفيناها ، قيل لهم :
    أولاً: إن السمع وحده كافٍ في إثبات هذه الصفات ، فإنها توقيفية ولا طريق لمعرفتها إلا السمع .
    ثانياً: إننا لو سلمنا أن العقل لا يدل على الصفات التي نفيتموها ، فإنه لا يدل على انتفائها، بل غايته أن يتوقف فيها ، وقد أثبتها السمع فيثبتان.
    ثالثاً: إننا نستطيع أن نستدل على ما نفيتموه كالنزول مثلاً بالعقل ، فنقول : لو عقلنا موجودان أحدهما يذهب ويجئ وينزل ويصعد ويدنو ويقرب بمشيئته وقدرته ، والآخر لا يفعل ذلك بمشيئته وقدرته ، لدل العقل على أن الأول أكمل من الثاني قطعاً ، والله سبحانه هو معطي الكمال فهو أولى به ، فدل العقل على ذلك ، مع أننا نقول هذا تنزلاً ، فإن طريق إثبات الصفات-في الجملة- هو السمع.
    فالحاصل ، أن جميع ما ثبت في الكتاب والسنة من الصفات فإنها تُثبت على حقيقتها على ما يليق بالله عز وجل مع نفي التمثيل ، والله تعالى أعلم .

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    عاشراً: الصفات الخبرية كالوجه واليد والرجل والعين ونحوها:
    1-قال في (الاعتصام) 1/305:( ويتأول الجزئيات حتى ترجع إلى الكليات ، ومثاله في الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب – المنزه عن النقائص – من العين واليد والرجل والمحسوسات والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات).
    2- وسبق ذكر تفويضه لليد والقدم والوجه .
    قلت :والجواب من وجهين :
    الوجه الأول : أن هذه الصفات (الوجه واليدين والعينين والرجل ) ونحوها كان متقدمو الأشاعرة يثبتونها (ويسمونها الصفات الخبرية –يعني التي ثبتت بالخبر-) ، فكان الأشعري والباقلاني وغيرهم من متقدمي الأشاعرة يثبتونها[2]، وإنما ذهب إلى نفيها وتأويلها متأخرو الأشاعرة عندما غلب عليهم التجهم والاعتزال ، والصواب في هذه الصفات هو ما قيل في غيرها من الصفات وهو أنها تثبت على حقيقتها على ما يليق بالله عز وجل ، وهذا هو معتقد السلف والأئمة.
    الوجه الثاني : أنه ذكر في كلامه هذا ألفاظاً مجملة وهو قوله ( الظاهرية) وقوله(الجوارح) ، فأما اللفظ الأول فسبق الكلام عليه في المبحث الثاني، والكلام هنا على لفظ (الجوارح) ، فيقال:
    إن لفظ (الجوارح) لم يرد نفيه ولا إثباته في النصوص الشرعية ، فلا يثبت ولا ينفى لأن الصفات توقيفية لا تقال بالرأي ، ولكن يستفصل عن المراد بهذه الكلمة :
    فإن كان المراد بنفي الجوارح هو نفي ما نراه في الشاهد من جوارح المخلوقات ، فهذا صحيح ولكن اللفظ مبتدع.وإن كان المراد بذلك نفي أن يكون لله سبحانه وتعالى يداً وعيناً ووجهاً ونحوها مما جاءت به النصوص فهذا باطل ، بل تثبت هذه الصفات كما جاءت بها النصوص ولا يضر مع ذلك إن أطلق المبتدعة على من أثبتها تلك الإطلاقات ، والله المستعان .

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "تهوين الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الخلف"

    سبق أن ذكرت في المبحث الأول أنه فسر مذهب السلف بمذهب المفوّضة ، وقد ذهب بالإضافة إلى خطئه في هذا التفسير إلى خطأ آخر وهو تهوين الخلاف بين مذهب السلف في إثبات الصفات على ما يليق بالله ، وبين مذهب ما يسمى بالخلف وهو التجهم ونفي الصفات عن الله سبحانه ، وجعل الخلاف هذا في إثبات النصوص وفي تحريفها أشبه ما يكون بالخلافات الواقعة في الفروع ،وإليك نصوصه في ذلك :
    1-قال في (الاعتصام) 2/695:( فقد ظهر منهم –أي أصحاب البدع- اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلبٍ واحد ، وهو الانتساب للشريعة ، ومن أشهر مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات ، حيث نفاها من نفاها ، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً ، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف في الفروع).
    2-وقال في (الاعتصام) 2/840:(إذا وجد في الشرع أخباراً تقتضي ظاهراً خرق الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار بإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين :
    =إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه ، وهذا ظاهر قوله تعالى(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريقاً إلى معرفته ، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق.=وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه.وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصف الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفي عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد).
    3-وقال في (الموافقات) 3/328-في مسألة تسليط التأويل على المتشابه-:( فإن كان –أي المتشابه- من الحقيقي فغير لازم تأويله…وأيضاً فإن السلف الصالح والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء و لا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين تأويل من غير دليل وهم الأسوة والقدوة ).
    4- وقال في (الموافقات) 5/222-بعد كلام -:(وأيضاً فقد ظهر منهم –أي أهل الأهواء- اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد وهو اتباع الشريعة ، وأشد مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ، فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً).
    قلت:والكلام على هذا من ثلاثة وجوه :
    الوجه الأول : أن سبب تهوين الخلاف بين الفريقين هو الجهل بمذهب السلف ، فإن هؤلاء لما اعتقدوا أن مذهب السلف هو الإقرار بمجرد الألفاظ فقط مع الجهل بالمعاني ، وأن المعاني الظاهرة منها منفية في حق الله ، هوّنوا الخلاف بينهم وبين من نفى الصفات و حرفها عن موضعها ، لاعتقادهم أن الفريقين متفقان على نفي الظاهر ، وإنما الخلاف في ترك الألفاظ على ما هي عليه مع نفي الظاهر ، أو تأويلها عن ظاهرها ، وهو خلاف سهل لاتفاقهم على مبدأ نفي ما يظهر من المعاني، وهؤلاء جمعوا الجهل بمذهب السلف ، وتهوين الخلاف بينهم وبين مذاهب الجهمية .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(ولا يجوز أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف ، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن ( طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث ، من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المعروفة من حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر ، وقد كذبوا على طريقة السلف ، وضلوا في تصويب طريقة الخلف ، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف بالكذب عليهم ، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف ، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة )اهـ وقد سبق الرد التفصيلي على مسألة التفويض ، ومسألة الظاهر فيما سبق .
    الوجه الثاني : أن التهوين بين المذهبين كلام فاسد لا يصح مطلقاً ، وكيف يكون الخلاف هيناً بين أتباع الأنبياء والمرسلين ومن اقتفى أثر الصحابة والتابعين وبين من اقتفى أثر الفلاسفة والمتكلمين وأفراخ الجهمية والصابئين؟! وكيف يكون الخلاف هيناً وقد كفّر السلف الجهمية، وكفروا من يقول بخلق القرآن، وكفروا من أنكر العلو،وكفروا رؤوس الجهمية ومحرفة الصفات، بل وأمروا بهجر من تلبس بشئ من كلامهم ولو قليلاً، بل وشنعوا على أهل الكلام أشد تشنيع وذموهم كثيراً وحذروا منهم وأجلبوا عليهم نصيحة للأمة جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر ، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر ، كيف يكون أولئك المحجوبون ، المفضولون ، المسبوقون، الحيارى ، المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب أحكم ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء ، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم ، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة ، ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة – لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان ؟)اهـ.
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:( ومن المحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثة الصابئين وأفراخ اليونان الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب وأشهدوا الله وملائكته عليهم به وشهد به عليهم الأشهاد من اتباع الرسل أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان وفضلهم على من سبقهم زمن يجئ بعدهم إلى يوم القيامة ما خلا النبيين والمرسلين ، وهل يقول هذا إلا غبي جاهل لم يقدر قدر السلف و لا عرف الله ورسوله وما جاء به)اهـ.
    الوجه الثالث : أن يقال كيف يكون الخلاف هيناً وقد اعترف أئمة ما يسمى بمذهب الخلف من المتكلمين بأنهم كانوا على باطل وفي حيرة وشك من أمرهم؟واعترفوا بأن الحق هو ما كان عليه السلف؟.
    فقد قال أبو المعالي الجويني – وهو من أئمة الأشاعرة وممن قرّب مذهبهم إلى الاعتزال- : (لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي) وقال الغزالي : (أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام ) ،وقال الشهرستاني:
    لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
    فلم أر إلا واضعاً كف حائـر على ذقن أو قارعاً سن نادموقال الرازي :
    نـهـاية إقـدام العقول عقال وأكثـر سعي العالمين ضلال
    وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحـاصل دنيانا أذى ووبالولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال :(لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (الرحمن على العرش استوى) ، واقرأ في النفي ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) (و لا يحيطون به علماً) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)[12].
    فهذه – وغيرها اعترافات رؤوس الخلَفيّة وأئمة المتكلمين قد اعترفوا ببطلان ما هم عليه وبحيرتهم وشكهم وصواب ما عليه السلف ، وهذا أوضح دليل على بطلان ما هم عليه من الاعتقادات ، والله المستعان.

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "مخالفته في الإيمان"
    لم أجد للشاطبي رحمه الله تعالى في الإيمان إلا نصاً واحداً[1] ، وهو قول في (الموافقات) 1/84: ( وأما الإيمان فإنه عمل من أعمال القلوب وهو التصديق وهو ناشئ عن العلم)اهـ.
    قلت:والكلام على هذا من وجهين :
    الوجه الأول : أن جعل الإيمان هو مجرد التصديق القلبي هو مذهب الأشاعرة، وهو نفسه مذهب الجهمية في قولهم الإيمان هو المعرفة ولا فرق بينهما وهو أيضاً قول ابن الراوندي والمريسي وغيرهم من الزنادقة.
    وهذا القول باطل قطعاً ، وقد كفر الأئمة ****ع وأحمد وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول، فإنه يلزم على هذا القول أن يكون كل من عرف الله بقلبه مؤمناً وإن كفر بلسانه أو عمله ، ولو سب الله ورسوله وعادى أولياء الله ووالى أعداءه وأهان المصحف وهدم المساجد وفعل الأفاعيل بالمسلمين والمصلين ، وقد التزم الأشاعرة بهذا الأمر ، فإذا أقيمت عليهم الحجة من الكتاب والسنة والإجماع على أن هذا الفعل كفر قالوا : بأن هذا دليل على انتفاء التصديق من قلبه .
    وقد روى عبدالله بن أحمد والخلال وغيرهما أن معقل بن عبيد الله قال لنافع مولى ابن عمر: إنهم يقولون -يعني المرجئة- نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي ، وأن الخمر حرام ونحن نشربها ، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ، قال : فنتر يده من يدي ، وقال : من فعل هذا فهو كافر ، وروى الخلال عن وكيع قال : الجهمية تقول الإيمان معرفة بالقلب ، فمن قال الإيمان معرفة بالقلب يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، روى الخلال أيضاً عن الإمام أحمد قال : الجهمية تقول : إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه –يعني فهو مؤمن- وهذا كفر ، إبليس قد عرف ربه بقلبه فقال (رب بما أغويتني) ، وروى اللالكائي عن عبدالله بن الزبير الحميدي قال: أخبرت أن ناساً يقولون من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت ، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن ترك ذلك إذا كان يقر بالفرائض واستقبال القبلة ، فقلت : هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله e وفعل المسلمين ، قال الله عز و جل(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)، وروى اللالكائي أيضاً عن أحمد أنه قال :( من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( وقولهم – يعني الجهمية ومن وافقهم- في غاية المباينة لقول السلف ليس في الأقوال أبعد عن قول السلف منه ، وقول المعتزلة والخوارج والكرامية في اسم الإيمان والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية)اهـ.
    الوجه الثاني :أن عمدة هؤلاء بجعلهم الإيمان هو التصديق هو معنى الإيمان في اللغة ومنه قوله تعالى- عن أخوة يوسف-(وما أنت بمؤمن لنا).
    والجواب على هذا الدليل من وجوه :
    الوجه الأول : منع الترادف بين الإيمان والتصديق ، ومما يدل على ذلك ثلاثة أمور:
    الأول :أن التصديق يتعدى بنفسه فيقال (صدقه) والإيمان لا يتعدى بنفسه فلا يقال(آمنه) بل يقال (آمن له) كقوله تعالى(فآمن له لوط)كما يقال أقرّ له ، فتفسيره بالإقرار أقرب من تفسيره بالتصديق .
    الثاني :أن لفظ التصديق يستعمل في الإخبار عن الغيب والشهادة ، فلو أخبر مخبر عن الجنة أو النار ونحوهما من أمور الغيب ، أو أخبر عن شروق الشمس ونحوها من أمور الشهادة لصح أن يقال له صدقت في الحالتين ، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب فقط .
    الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق ، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب فقط .
    الوجه الثاني : لو سلم أن معناه التصديق فلا يسلم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب لأمرين:
    الأول : أن الأفعال تسمى تصديقاً كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة t عن النبي e أنه قال:(إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وكما ورد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى :(ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر بالقلب وصدقته الأعمال).
    الثاني : أنه وإن كان أصله التصديق ، فهو تصديق مخصوص ، كما أن الصلاة في اللغة الدعاء، ولكنها في الشرع دعاء مخصوص ، وكما أن الحج في اللغة القصد ولكنه في الشرع قصد مخصوص ، وهكذا ، فكذلك هنا ، فالتصديق هنا دل الشرع على أن الأعمال من لوازمه .
    الوجه الثالث: أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد دل على هذا الكتاب والسنة والإجماع :
    فمن ذلك قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم) –وقد ذكر المفسرون أن المقصود بالإيمان هنا هو الصلاة-، وكما قال تعالى ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) وقال(ويزداد الذين آمنوا إيماناً) وغيرها من الآيات الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه وهي تبطل مذهب المرجئة عموماً، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي e (الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) –واللفظ لمسلم وفي لفظٍ للبخاري (والحياء شعبة من الإيمان)- وما في السنن عن أبي هريرة t أن النبي e قال :(أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً ) وغيرها من الأحاديث .
    وهو مذهب السلف كما قد روى الخلال عن أحمد قال :( الإيمان قول وعمل) ، وروى اللالكائي عن البخاري رحمه الله تعالى أنه قال :( كتبت عن ألف نفرٍ من العلماء وزيادة ، ولم أكتب إلا عمن قال الإيمان قول وعمل ) .
    وقال البغوي رحمه الله تعالى:(اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان لقوله تعالى(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) إلى قوله ( ومما رزقناهم ينفقون) فجعل الأعمال كلها إيماناً ، وكما نطق به حديث أبي هريرة، وقالوا : إن الإيمان قول وعمل وعقيدة ، يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، على ما نطق به القرآن في الزيادة ، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء، وروي عن عائشة قالت قال رسول الله e (من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله) ، وعن أبي أمامة عن رسول الله e (من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استمل الإيمان) – إلى أن قال – واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته ، قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي e كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل)اهـ.
    وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
    (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ، ولا عمل إلا بنية ، والإيمان عندهم يزيد وينقص)اهـ.

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "مخالفاته في القدر"

    ذهب الشاطبي رحمه الله تعالى إلى مذهب الأشاعرة في القدر ، وهم جبرية في ذلك ، ويتضح هذا من تتبع نصوص الشاطبي ، بل إنه قال في مقدمة كتابه (الموافقات) 1 /4 :( حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار ، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار ، وتوجهت إليه أطماع أهل الافتقار ، لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار ، وثبت في مكتسبات الأفعال حكم الاضطرار) وهذا يوحي بالتصريح بعقيدة الجبر ، وأن أفعال المكلفين اضطرارية، كما أنه ذهب إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين والتشنيع على من يقول بهما ، ونفي التحسين والتقبيح مستند أساساً على نفي الحكمة الإلهية ، وجعل الله سبحانه يأمر وينهى لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة ، وذهب أيضاً إلى أن الأسباب هو ما يحصل الشئ عندها لا بـهـا –وهو نفي لتأثير الأسباب – بل وجعل اعتقاد تأثير الأسباب شركاً – كما يقوله الجبرية تماماً-، وجعل المسببات لا تدخل تحت قدرة المكلف ، وغير ذلك مما سيتضح من خلال المباحث التالية إن شاء الله تعالى:
    المبحث الأول : مسألة التحسين والتقبيح العقليين :

    المبحث الثاني: مسألة الأسباب والمسببات :

    المبحث الثالث: مسألة الظلم:

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "مسألة التحسين والتقبيح العقليين"

    ذهب الشاطبي إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين ، وشنع على من يقول به وبدعه ، بل وجعله من البدع الحقيقية –التي لا أصل لها في الشرع - ، ومن البدع الكلية – التي يكون ضررها كلياً في الشريعة - ، وإليك نصوصه في ذلك :
    1-قال في (الاعتصام) 1/147-بعد كلام-:( فلا يصح بناءً على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين ، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع ، وكل بدعة ضلالة).
    2-وقال في (الاعتصام) 1/191:(إن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح العقلي).
    3-وقال في (الاعتصام) 1/221-وقد ذكر البدع الحقيقية[1]-:( قال :وهي أعظم وزراً لأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر ، قال : كالقول بالقدر ، والقول بالتحسين والتقبيح).
    4- وقال في (الاعتصام) 1/136:(والتحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة ، وإنما يقول به المبتدعة أعني التحسين والتقبيح بالعقل).
    5-وقال في (الاعتصام) 1/487:(والعقل لا يحسن ولا يقبح).
    6-وقال في (الاعتصام) 2/543-عندما قسم البدع إلى كلية في الشريعة وجزئية ، ثم تكلم عن الكلية-: (ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين).
    7- وقال في (الاعتصام) 2/594:(ومن ذلك – يعني الابتداع- القول بالتحسين والتقبيح العقلي)اهـ.
    8-وقال في (الاعتصام) 2/872-تحت أمثلة من زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال- :(والعاشر: رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين ، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع).
    9-وقال في (الموافقات) 1/125:(ما تبين في علم الكلام أن العقل لا يحسن ولا يقبح).
    10-وقال في (الموافقات) 2/534،535:(كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم ، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناءً على نفي التحسين والتقبيح ، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة ، وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح ).
    11- وقال في (الموافقات) 3/28:(إن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال وتروك متماثلة عقلاً بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح).
    قلت:والكلام على هذا من ثلاثة وجوه:
    الوجه الأول: أن الأقوال في التحسين والتقبيح أصلها ناشئ عن الاعتقاد ، فلما كان الأشاعرة نفاةً للحكمة قائلين بالجبر ، ويقولون إن الله سبحانه لا يفعل ولا يأمر ولا ينهى لحكمة بل لمجرد المشيئة ، فالله عندهم لا يأمر بشئ لشئ ولا ينهى عن شئ لشئ بل كل ذلك لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة، لهذا الأمر قالوا بنفي التحسين والتقبيح العقليين ، وجعلوا الأعيان والأفعال والتروك لا تتصف بصفاتٍ في نفسها تجعلها حسنة أو قبيحة قبل ورود الشرع ، فلا فرق بين التوحيد والشرك ، ولا بين الصدق والكذب ، ولا بين النكاح والزنا ، ولا بين الطيب والخبيث ، ونحوها قبل ورود الشرع ، بل لما أمر الله بالتوحيد صار حسناً ولما نهى عن الشرك صار قبيحاً ،ولو أمر بالشرك ونهى عن التوحيد لانقلب الأمر وصار التوحيد قبيحاً والشرك حسناً ، وكذلك باقي الأفعال والتروك، وكل هذا أوجبه فرارهم من تعليل أفعال الله سبحانه ، فلو قالوا بأن الأعيان والأفعال والتروك تتصف بالحسن والقبح في نفسها قبل ورود الشرع لكان فيها صفات لأجلها شرع الله فعلها أو تركها ، فيكون قد أمر بالتوحيد لحسنه ونهى عن الشرك لقبحه ، وأمر بالصدق لحسنه ونهى عن الكذب لقبحه ، وشرع النكاح لحسنه ونهى عن الزنا لقبحه ، وهكذا ، وهم يهربون من التعليل فالله عندهم لا يأمر بشئ لشئ ولا ينهى عن شئ لشئ –كما سبق بيانه-.
    فإذا علم هذا تبين أن معنى قول الشاطبي فيما مضى (فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح)[5]وقوله ( إن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال وتروك متماثلة عقلاً بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح) =هو ما سبق ذكره من مذهب الأشاعرة في جعلهم الأفعال والتروك متماثلة عقلاً قبل ورود الشرع فلا يحكم العقل فيها بلا حسن ولا قبح ، وأن الله سبحانه لم يأمر بالمأمورات لحسنها ولم ينه عن المنهيات لقبحها ، بل كل ذلك لمحض المشيئة .
    ولا شك أن هذا القول قول مبتدع في الإسلام ، ولم يقل أحد من الأئمة والسلف أن العقل لا يحسن ولا يقبح ، أو أنه لا يعلم بالعقل حسن الفعل أو قبحه ، بل هذا قول محدث مبتدع ، وعده جماعة من الأئمة من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها.
    الوجه الثاني:أن هذا القول مخالف للمنقول وللمعقول:
    أما مخالفته للمنقول فما تواتر من الآيات والأحاديث التي فيها إن الله سبحانه ذو حكمة بالغة لا يأمر إلا لحكمة ولا ينهى إلا لحكمة و لا يفعل إلا لحكمة سبحانه وتعالى [8]، وأنه يأمر بأفعال لطيبها وحسنها وينهى عن أخرى لخبثها وقبحها كقوله تعالى :( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فهذا صريح في أن الحلال كان طيباً قبل حله ، وأن الخبيث كان خبيثاً قبل حرمته ، لا كما يقول نفاة الحسن والقبح العقليين أن الطيب لم يصر طيباً إلا بعد الأمر به ، والخبيث لم يصر خبيثاً إلا بعد النهي عنه، ، ولو كان لا حسن إلا للمأمور ولا قبح إلا للمنهي لكان معنى الآية(ويحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم ما يحرم عليهم) وهذا باطل فإنه لا فائدة فيه.
    ونحو قوله تعالى(يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) والقول فيها كالقول في الآية السابقة.
    ونحو قوله تعالى(إن الله لا يأمر بالفحشاء) فإنها تدل على أن الفواحش لها صفات في أنفسها من أجلها حرمت ، لذلك نزه الله نفسه أن يأمر بها ، ولو كان الأمر كما يقول نفاة الحسن والقبح لكان معنى الآية (إن الله لا يأمر بما ينهى عنه) وهذا لا فائدة فيه ، وينزه آحاد العقلاء أن يقول مثل هذا الكلام ، فكيف بالله سبحانه ، والآيات في هذا كثيرة.
    وأما مخالفته للمعقول :
    فإن كل عاقل من مسلم أو كافر يدرك بعقله حسن الصدق والعدل والإحسان ونحوها ، ويدرك بعقله قبح الكذب والظلم والإساءة ونحوها ، ولا يقول عاقل قط بالمساواة بين الصدق والكذب ، والعدل والظلم ، والإحسان والإساءة ،والطيبات والخبائث ، بل لو قال أحد بذلك لعدوه مجنوناً ، فانظر إلى هذا المذهب الباطل كيف بنى باطلاً- وهو نفي الحسن والقبح العقليين -على باطل -وهو نفي الحكمة -.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
    (وأما الطرف الآخر في مسألة التحسين والتقبيح فهو قول من يقول إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ، ولا على صفات هي علل للأحكام ، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر ، لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر.
    ويقولون أنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله ، وينهى عن عبادته وحده ، ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش ، وينهى عن البر والتقوى ، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط وليس المعروف في نفسه معروفاً عندهم ، ولا المنكر في نفسه منكراً عندهم ، بل إذا قال(يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم ، وينهاهم عما ينهاهم ، ويحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم –إلى أن قال- فهذا القول ولوازمه هو أيضاً قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضاً للمعقول الصريح ، فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء فقال:(إن الله لا يأمر بالفحشاء) كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال تعالى:(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وقال ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين & مالكم كيف تحكمون ) وقال (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) وعلى قول النفاة لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء ، وبين تفضيل بعضهم على بعض ، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر)اهـ.
    و قال ابن القيم رحمه الله تعالى:(فإن من المستقر في العقول والفطر أن قضاء هذا الوطر في الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والجدات مستقبح في كل عقل ، مستهجن في كل فطرة ، ومن المحال أن يكون المباح من ذلك مساوياً للمحظور في نفس الأمر ولا فرق بينهما إلا مجرد التحكم بالمشيئة سبحانك هذا بهتان عظيم ، وكيف يكون في نفس الأمر نكاح الأم واستفراشها مساوياً لنكاح الأجنبية واستفراشها وإنما فرق بينهما محض الأمر .
    وكذلك من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساوياً للخبز والماء والفاكهة ونحوها وإنما الشارع فرق بينهما فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر ، وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية لا يكون مساوياً لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية حتى يكون إباحة هذا وتحريم هذا راجعاً إلى محض الأمر والنهي المفرق بين متماثلين .وكذلك الظلم والكذب والزور والفواحش كالزنا واللواط وكشف العورة بين الملأ ونحو ذلك كيف يسوغ عقل عاقل أنه لا فرق قط في نفس الأمر بين ذلك وبين العدل والإحسان والعفة والصيانة وستر العورة ، وإنما الشارع يحكم بإيجاب هذا وتحريم هذا .وهذا مما لو عرض على العقول السليمة التي لم تدخل ولم يمسها ميل للمثالات الفاسدة وتعظيم أهلها وحسن الظن بهم لكانت أشد إنكاراً له ، وشهادة ببطلانه من كثير من الضروريات ، وهل ركّب الله في فطرة عاقلٍ قط أن الإحسان والإساءة والصدق والكذب والفجور والعفة والعدل والظلم وقتل النفوس وإنجاءها ، بل السجود لله وللصنم سواء في نفس الأمر لا فرق بينهما ، وإنما الفرق بينهما الأمر المجرد ، وأي جحد للضروريات أعظم من هذا ؟ وهل هذا إلا بمنزلة من يقول إنه لا فرق بين الرجيع والبول والدم والقئ وبين الخبز واللحم والماء والفاكهة والكل سواء في نفس الأمر وإنما الفرق بالعوائد؟ وأي فرقٍ بين مدعي هذا الباطل وبين مدعي ذلك الباطل؟ وهل هذا إلا بهت للعقل والحس والضرورة والشرع والحكمة ؟ .وإذا كان لا معنى للمعروف عندهم إلا ما أمر به فصار معروفاً بالأمر، ولا للمنكر إلا ما نهي عنه فصار منكراً بنهيه ، فأي معنى لقوله(يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال يأمرهم بما يأمرهم به ، وينهاهم عما ينهاهم عنه ؟ وهذا كلام ينزه عنه آحاد العقلاء فضلاً عن كلام رب العالمين ، وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول ، وتقر بحسنه الفطر ؟ فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقلٍ سليم ، ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض على العقول السليمة أنكرته أشد الإنكار ، كما أمر بما إذا عرض على العقل قبله أعظم قبول وشهد بحسنه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل بم عرفت أنه رسول الله ؟ فقال : (ما أمر بشئ فقال العقل ليته ينهى عنه ، ولا نهى عن شئ فقال ليته أمر به)، فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء )اهـ.
    الوجه الثالث : أن الذي يظهر من كلام الشاطبي رحمه الله تعالى أنه لا يعرف مذهب أهل السنة في المسألة ، بل لا يعرف إلا مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة ، وهذا يحصل كثيراً في كتب الأشاعرة والمتكلمين-وهي موارد الشاطبي-حيث يذكرون مذهبهم والمذاهب الأخرى أما المذهب الحق فلا يذكرونه لجهلهم به لا لشئ آخر .
    فالحاصل أنه لما كان مذهب أهل السنة إثبات الحسن والقبح العقليين ، وكان مذهب المعتزلة كذلك ، التبس مذهب أهل السنة بمذهب المعتزلة على بعض الفضلاء ، واعتقد أن كل من قال بالحسن والقبح العقليين فإنه يقول كقول المعتزلة فإن من قولهم أن الأعيان والأفعال والتروك حسنها وقبحها ذاتي وتعلم بالعقل، والشرع مجرد كاشفٍ لهذا لا منشئ له ، وعلى هذا فهم يرتبون الثواب والعقاب على مجرد الحسن والقبح العقليين ولو لم تبلغ الرسالة.
    والفرق بين المذهبين من وجوه :
    الأول : أن أهل السنة أثبتوا لله سبحانه الحكمة في أفعاله وأوامره و نواهيه وهذه الحكمة تتضمن أمرين : حكمة تعود إليه سبحانه ، وحكمة تعود إلى عباده ، أما المعتزلة فلم يثبتوا إلا الحكمة المنفصلة عنه بناءً على مذهبهم في نفي الصفات القائمة بالله سبحانه- وقد سبق تفصيل القول في هذا-.
    الثاني:أن أهل السنة لم يضعوا شريعة لله سبحانه بعقولهم ، فجعلوا ما يحسن منهم يحسن منه فيجب عليه فعله ، وما يقبح منهم يقبح منه ويحرم عليه فعله كما فعله المعتزلة – مشبهة الأفعال- حين وضعوا لله شريعة بعقولهم ، بل الله سبحانه لا شبيه له في أفعاله كما لا شبيه له في ذاته وصفاته، وليس كل ما حسن من خلقه حسن منه ولا ما قبح منهم قبح منه.
    الثالث: أن أهل السنة يجعلون الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل ، وأن الشرع جاء لتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن وتقبيح القبيح ، ولكنهم لم يرتبوا العقاب على مجرد التحسين والتقبيح العقليين بل لابد من وجود الرسالة والبلاغ ، بخلاف المعتزلة فإنهم يرتبون الثواب والعقاب على مجرد الحسن والقبح العقليين[.
    الرابع:أن أهل السنة يثبتون أقسام الحسن والقبح الثلاثة وهي :
    الأول : أن يكون نفس الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك ، كما يعلم بالعقل حسن العدل وقبح الظلم ، فهذا حسنه وقبحه راجع إلى نفس الفعل وهو يعلم بالعقل .
    الثاني: أن الشارع إذا أمر بشئ صار حسناً ، وإذا نهى عن شئ صار قبيحاً ، فهذا اكتسب فيه الفعل صفة الحسن والقبح من خطاب الشارع ،كالأمر بالصلاة مثلاً فإن صفتها لا تعلم بالعقل بل بخطاب الشارع ، فلما أمر بها علمنا حسن هذه الصفة.
    الثالث: أن تكون المصلحة ناشئة من نفس الأمر لا من الفعل ، وذلك كأن يأمر الشارع بشئ ليمتحن به العبد كما أمر إبراهيم بذبح ابنه ، فالحكمة هنا والمصلحة من نفس الأمر لا من المأمور به .
    فأهل السنة يثبتون الجميع ، أما المعتزلة فلم تثبت إلا القسم الأول ، وزعموا أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع.
    فمما سبق يتبين الفرق الكبير بين مذهب أهل السنة وبين مذهب المعتزلة ، وأن من سوى بينهما فقد أبعد ، والله تعالى أعلم.

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    "مسألة الأسباب والمسببات"

    ذهب الشاطبي إلى ما ذهب إليه الأشاعرة في الأسباب ، وكلامه في هذا الباب كثير جداً ، لذلك رأيت أن أقسم كلامه إلى أربع مسائل كما يلي :
    المسألة الأولى

    "تأثير السبب في المسبب"

    ذهب الشاطبي إلى أن السبب هو ما يحصل المسبب عنده لا به ، وأن الله قد أجرى العادة في الخلق أن يحدث المسبب عند السبب- بلا تأثير منه- ، وإليك نصوصه في هذا :
    1-قال في (الاعتصام) 1/497:(فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات).
    2-وقال في (الموافقات) 1/314:(السبب غير فاعل بنفسه ، بل إنما وقع المسبب عنده لا به، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب والعبد مكتسب له – ثم ذكر أدلة وقال1/315- والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع ، وإذا كان كذلك ، فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه ، فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون ، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أن يكون ).
    3- وقال في (الموافقات) 1/316:( وإنما قصده – أي الشارع- وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق ، وهو أن يكون خلق المسببات على إثر إيقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ويشقى من شقي).
    4-وقال في (الموافقات) 1/317-في مسألة وقوع المسببات-(التفات إلى العادة الجارية) وذكر نحو هذا الكلام من كون وقوع المسببات على أثر الأسباب قد أجرى الله العادة به في مواضع منها (الموافقات) 1/326،328،354،359.
    5- وقال في (الموافقات) 1/322:(أن يدخل – يعني المكلف- في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة).
    6-وقال في (الموافقات) 1/335-336:(إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب ، قصد ذلك المسبب أو لا ، لأنه لما جعل مسبباً له في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرة ، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات ، إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام ، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار ، والإسهال إلى السقمونيا ، وسائر المسببات إلى أسبابها ، فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا ).
    قلت:
    وهذا الكلام هو كلام الأشاعرة –الذين اقتفوا آثار الجهمية في إنكار الأسباب- ، فإنهم أنكروا أن يكون للأسباب أي تأثير على المسببات ، وقالوا : إنه ليس في النار قوة الإحراق ، ولا في الماء قوة الإغراق ، ولا في السكين قوة القطع ، قالوا : ولكن الله يخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب لا بها ، فعند وجود النار يخلق الله الإحراق بلا تأثير من النار، وعند وجود السكين يخلق الله القطع بلا تأثير من السكين ، وهكذا ، ويقولون : إن الله قد أجرى العادة بخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب -وكل هذا طرداً لعقيدتهم في الجبر وأنه لا فاعل إلا الله-.
    ومن المعلوم أن هذا باطل في الشرع والعقل ، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل في الأسباب قوة تؤثر في مسبباتها ، وهو خالق السبب والمسبب ، والمسبب إنما حدث بالسبب لا عند السبب –كما يقوله الجبرية- ، وأهل السنة لا ينكرون تأثير القوى والطبائع والأسباب الطبيعية ، بل يقرون بها كإنزال المطر بالسحاب ، وإنبات الأرض بالماء ، ونحو ذلك ، وقد ذكر الله سبحانه تأثير الأسباب في المسببات في كتابه كقوله تعالى :(فسقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) ، وقال تعالى :(وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقوله تعالى(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) وغيرها من الآيات ، وهو أمر معلوم بالعقل والمشاهدة.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وأن له قدرة حقيقية ، واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية ، بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب ، وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرون أن لها تأثيراً لفظاً ومعنى ، حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى( ونكتب ما قدموا وآثارهم) وإن كان التأثير هناك أعم منه في الآية ، لكن يقولون : هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها ، والله تعالى خالق السبب والمسبب ، ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ، ولا بد له من معارض يمانعه ، فلا يتم أثره – مع خلق الله له – إلا بأن يخلق الله السبب ويزيل الموانع .
    ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى وطبائع ، ويقولون: إن الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل)اهـ.
    وقال رحمه الله تعالى :( ومذهب الفقهاء أن السبب له تأثير في مسببه ، ليس علامة محضة ، وإنما يقول إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم – إلى أن قال-ومملـوء – يعني القرآن- بأنه يخلق الأشياء بالأسباب ، لا كما يقوله أتباع جهم : أنه يفعل عندها لا بها ، كقوله تعالى ( أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقوله(وأنزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد & والنخل باسقات لها طلع نضيد & رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً ) وقوله(وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) وقوله(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) وقوله(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ونحو ذلك)اهـ.
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:(وعندهم – يعني الجهمية الجبرية- أن الله لم يخلق شيئاً بسبب، ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر ، فليس في النار قوة الإحراق ، ولا في السم قوة الإهلاك ، ولا في الماء والخبز قوة الري والتغذي به ، ولا في العين قوة الإبصار ، ولا في الأذن والأنف قوة السمع والشم ، بل الله سبحانه يحدث هذه الآثار عند ملاقاة هذه الأجسام ، لا بها ، فليس الشبع بالأكل ، ولا الري بالشرب ، ولا العلم بالاستدلال ، ولا الانكسار بالكسر ، ولا الإزهاق بالذبح – إلى أن قال- بل عندهم صدور الكائنات والأوامر والنواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجحت مثلاً على مثل بغير مرجح ، فعنها يصدر كل حادث ، ويصدر مع الحادث حادث آخر مقترناً به اقتراناً عادياً لا أن أحدهما سبب الآخر ولا مرتبط به –إلى أن قال- وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين ، بل ولسائر أديان الرسل ، ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها[7]، ولم يمكنهم ذلك فإنهم لا بد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم ، فإن قيل لهم:هلا أسقطتم ذلك؟قالوا:لأجل الاقتران العادي ، فإن قيل لهم هلا قمتم بما أسقطتموه لأجل الاقتران العادي أيضاً ، فهذا المذهب قد فطر الله سبحانه الحيوان ناطقه وأعجمه على خلافه ، وقوم طردوه فتركوا له الأسباب الأخروية)اهـ.

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

    المسألة الثانية
    "اعتقاد تأثير الأسباب"
    ذهب الشاطبي إلى أن اعتقاد تأثير السبب في المسبب شرك ، وهذا امتداد للمسألة السابقة، فإن الجبرية يعتقدون أنه لا فاعل إلا الله ، لذلك فمن نسب التأثير إلى غيره فقد أشرك ،وإليك نصوصه في ذلك :
    1-قال في (الموافقات) 1/321:(أن يدخل فيها – يعني في الأسباب- على أنه فاعل للمسبب أو مولد له ، فهذا شرك مضاهٍ له والعياذ بالله ، والسبب غير فاعل بنفسه ، والله خالق كل شئ ، (والله خلقكم وما تعملون) ، وفي الحديث (اصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه ، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام).
    2- وقال في (الموافقات) 1/323:(فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله ، فالله هو المسبب لا هي إذ ليس له شريك في ملكه ، وهذا كله مبين في علم الكلام ، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه ، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه وهو صحيح)[1].
    3-وقال في (الموافقات) 1/328:(اعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية).
    قلت:والكلام على هذا من وجهين:
    الوجه الأول:أن هذا القول هو قول الأشاعرة –كما سبق- ، وهو خلاف ما عليه أهل السنة، فإنهم يثبتون تأثير الأسباب في المسببات ، والله هو خالق السبب والمسبب ، وليس في جعل السبب مؤثراً في المسبب شرك لأن الله سبحانه هو الذي جعله كذلك .
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:( والتأثير اسم مشترك ، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع ، فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشا لله لم يقله سني ، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال.
    وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل ، أو في وجهٍ من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات ، فهو أيضاً باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل ، وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق.وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة ، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة ، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب ، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات ، وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً ، وقد قال الحكيم الخبير (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) (أنبتنا به حدائق ذات بهجة) وقال تعالى ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) فبين أنه المعذب ، وأن أيدينا أسباب وآلات و أوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم)[3].
    وقال أيضاً:( والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار ، وإلى أسبابها باعتبار ، فهي من الله مخلوقة له في غيره ، كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه ، وهي من العبد صفة قائمة به ، كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جماداً ، فكيف إذا كان حيواناً؟ وحينئذٍ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة ، كما أنا إذا قلنا : هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ، ومن الله بمعنى أنه خلقه ، لم يكن بينهما تناقض .وإذا قلنا : هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من هذا الأرض بمعنى أنه حدث فيها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها ، لم يكن بينهما تناقض ).
    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى[5]:( ويا لله العجب !! إذا كان الله خالق السبب والمسبب ، وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا ، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته ، منقادة لحكمته ، إن شاء أن يبطل سببية الشئ أبطلها ، كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم ، وإغراق الماء على كليمه وقومه ، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها ، وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها ، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا ، فأي قدحٍ يوجب ذلك في التوحيد؟ وأي شركٍ يترتب على ذلك بوجهٍ من الوجوه؟.ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق ، والماء لا يغرق ، والخبز لا يشبع ، والسيف لا يقطع ، ولا تأثير لشئ من البتة ، ولا هو سبب لهذا الأثر ، وليس فيه قوة ، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا ، قالت : هذا التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد ، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاءوا به كما تراه عياناً في كتبهم ، ينفرون الناس عن الإيمان)اهـ.
    الوجه الثاني: أن قول الشاطبي (وفي الحديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه) خطأ ، ففي الحديث (وأما من قال مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب) ولم يقولوا (أمطرنا نوء كذا وكذا) والفرق بين الأمرين ظاهر ، فقولهم (مُطِرنا) مبني للمفعول ، ولو بنيته للفاعل لكان التقدير (أمطرنا الله) فهم نسبوا الفعل إلى الله سبحانه ولكنهم جعلوا النوء سبباً في ذلك بدليل (باء السببية) الداخلة على (نوء كذا) ، والله سبحانه لم يجعل النوء سبباً قدرياً للمطر ، والقاعدة المعلومة من النصوص أن جعل ما ليس بسببٍ سبباً شركٌ أصغر ، كالطيرة مثلاً فقد جاء النص على أنها شرك لأن المتطير جعل ما لم يجعله الله سبباً للتطير ، وكالتمائم فإن صاحبها جعلها سبباً في الحفظ وليست كذلك، وكالتولة فإن صاحبها جعلها سبباً للمحبة وليست كذلك ، بخلاف الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله سبحانه أسباباً فإن نسبة مسبباتها إليها لا شئ فيها –كما سبق- ، فهؤلاء لو قالوا (مُطِرنا بالسحاب) لكان الكلام صحيحاً ولا شئ فيه البتة ، فإن السحاب سبب للمطر جعله الله كذلك، وذكره في كتابه ، فالفرق بين المسألتين أن أولئك جعلوا ما ليس بسببٍ سبباً وهو النوء ، وهؤلاء ذكروا سبباً قدرياً صحيحاً ، والله تعالى أعلم.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •