خامساً:صفات (الاستهزاء) و (المكر) و (الكيد) ونحوها:
قال في (الموافقات) 2/257:(تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداءً مجازٌ معروف مثله في كلام العرب ، وفي الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى (الله يستهزئ بهم) (ومكروا ومكر الله) (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) إلى أشباه ذلك).
قلت:
وحمل هذه الصفات على المجاز تأويل لها ، والصحيح في هذه الصفات إثباتها على الوجه اللائق بالله سبحانه ، وكون الاستهزاء والمكر والكيد ونحوها صفات مذمومة من البشر لا يقتضي هذا نفيها عن الله سبحانه لأمرين :
الأمر الأول: أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له في ذاته و لا في صفاته ولا في أفعاله ، فلا يقاس بخلقه –كقياسات المعتزلة مشبهة الأفعال- فيجعل كل ما حسن من البشر حسن منه ، وما قبح منهم قبح منه ، فإن هذا لا يكون إلا للنظيرين ، والله سبحانه لا نظير له ، فقد يحسن منه ما لا يجوز للبشر الاتصاف به كالعظمة والكبرياء ، وقد يحسن من خلقه ما ينزه عنه سبحانه كالعبودية .
الأمر الثاني :إن كون الاتصاف بهذه الصفات مذموم ليس على الإطلاق ، لأن هذه الصفات ونحوها لها حالتان :
الحالة الأولى :يكون الاتصاف بها مذموماً وهو إذا ما تضمن ذلك للظلم والكذب والغش ونحوها .
الحالة الثانية: يكون الاتصاف بها محموداً وهو ما كان بحقٍ وعدلٍ ومجازاةٍ ، فمن مكر بظلم فيحسن أن يمكر به بحقٍ و بعدلٍ .
فمثل هذه الصفات ليست كمالاً على الإطلاق ، وليست نقصاً على الإطلاق ، بل فيها تفصيل ، ومثلها يرد إطلاقها على الله سبحانه في حالة كونها كمالاً وهي التي تكون على سبيل المقابلة ، لذلك فليس من أسمائه سبحانه (المستهزئ) و لا (الماكر) و لا (الكائد) ونحوها ، لأنها ليست محمودة على الإطلاق ، والله سبحانه لم يصف نفسه بها إلا على وجه المقابلة والجزاء لمن فعل ذلك بغير وجه حق .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى -عن صفات المكر والخداع والكيد والاستهزاء ونحوها-: (لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيراً ، فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازاً في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيبٍ وذم .
والصواب : أن معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب ، فما يذم منها إنما لكونه متضمناً للكذب والظلم أو لهما جميعاً ، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله…فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازاً ، والحق خلاف هذا الظن ، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم ، فما كان منها متضمناً للكذب والظلم فهو مذموم ، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم حسُن من المجازي له أن يخدعه بحقٍ وعدلٍ –إلى أن قال-إذا عرف ذلك فنقول : إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً ، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى –إلى أن قال- أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق ، وقد عُلِم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق ، فكيف من الخالق سبحانه ؟ ، وهذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله ، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه ، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلاً وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحاً ، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحاً البتة ، فلا يمتنع وصفه به ابتداءً لا على سبيل المقابلة على هذا التقرير ، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه)اهـ.