"مسألة التولد"
والمقصود بالتولد : وجود مسبب تولد من سبب مباشر من العبد ، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب ، وزهوق النفس عن القتل ، ونحوها ، فذهب الشاطبي في هذه المسألة –كعادته-إلى مذهب الأشاعرة ، وهو أن هذه الأمور من فعل الله سبحانه لا كسب فيها للمكلف ولا قدرة له عليها ، وإليك نصوصه في ذلك :
1-قال في (الموافقات) 1/302:(ثبت في الكلام أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب ، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه لا كسب فيه للمكلف)
2-وقال في (الموافقات) 1/306:(فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات ، فإذاً لا يتعلق التكليف إلا بمكتسب ، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف ، لأنها ليست من مقدورهم ، ولو تعلق بها لكان تكليفاً بما لا يطاق).
3- وقال في (الموافقات) 1/308:( إن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبِّب ، وإنها ليست من مقدور المكلف).
4-وقال في (الموافقات) 1/312:(إن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم ).
5-وقال في (الموافقات) 1/337:(المسببات التي حصل بها النفع والضر ليست من فعل المتسبب).
6-وقال في (الموافقات) 1/355:(قد تبين أن المسبب ليس للمكلف ، ولم يكلف به ، بل هو لله وحده).
7-وقال في (الموافقات) 1/356:(- فسر حديث (وإن أصابك شئ فلا تقل :لو أني فعلت كان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) – قال:فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان ، لأنه التفات إلى المسبب في السبب ، كأنه متولد عنه أو لازم عقلاً ، بل ذلك قدر الله وما شاء فعل ، إذ لا يعينه وجود السبب ، ولا يعجزه فقدانه)[1].
8-وقال في (الموافقات) 3/36:(المسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى ، فالله هو خالق الولد من الماء ، والسكر عن الشرب ، كالشبع مع الأكل ، والري مع الماء، والإحراق مع النار).
9-وقال في (الموافقات) 3/440:(كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي ، وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى).
قلت:والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول : أن هذه المسألة وتسمى (مسألة التولد) ويُمثل لها باندفاع الحجر عند اعتماد العبد عليه ، فهل اندفاعه هذا مقدور للعبد ومن فعله أو من فعل الله سبحانه ولا قدرة للمكلف عليه؟ ذهب الأشاعرة تبعاً لمذهبهم في الجبر أنه فعلٌ لله سبحانه ولا قدرة للعبد عليه مطلقاً ، وطردوا هذا في كل المسببات المتولدة عن الأسباب كالشبع من الأكل ، والري من الشرب ، والزهوق من القتل، وهكذا [2]، أما المعتزلة فقد ذهبوا –طرداً لقاعدتهم في القدر- إلى أن هذه المتولدات من فعل العبد فقط[3].
والحق في هذه المسألة هو ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى[4]:
(والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد ، وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله ، فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه ، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة على حصول الشبع ، وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد ، وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع ، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق السببين جميعاً ، ولهذا كان العبد مثاباً على المتولدات ، والله تعالى يكتب له بها عملاً، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة [5]في آيتين في القرآن ، قال تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح) فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولداً ، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات ، وكذلك غيظ الكفار ، وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك ، ثم قال الله تعالى (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم) فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه (إلا كتب لهم) ولم يقل : به عمل صالح ، وأما الجوع والعطش والنصب و غيظ الكفار وما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه (إلا كتب لهم به عمل صالح) فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان عمل بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله-إلى أن قال-ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة ، وينهى عنها أخرى كما قال تعالى ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)[6] وقال(إن تنصروا الله ينصركم ) وقال تعالى(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)[7] وقال تعالى(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم و ينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)[8] فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين ، وهذا مبسوط في موضعٍ آخر[9]).
الوجه الثاني:أن قوله –في تفسير الحديث-(فقد نبهك على أن (لو) تفتح عمل الشيطان لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم له عقلاً ) فإنه تفسير على ما يوافق مذهبه في القدر وفي الأسباب والمسببات ، وليس هذا تفسير الحديث ، بل كانت (لو) تفتح عمل الشيطان لأنها دليل على الجزع والتسخط والتأسف على ما فات ، وعدم الرضا بالقدر ، وهذا هو المذموم هنا ، فعلى العبد عند المصائب أن ينظر إلى القدر وأن لا يتحسر على الماضي[10].
ولو كان الأمر كما قال الشاطبي لما جاز استعمال (لو) مطلقاً لأنها بالمعنى الذي ذكره ، وقد جاء في الصحيح قوله e (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولأهللت بالعمرة) فسوق الهدي هنا هو السبب في عدم إحلاله من عمرته ، وفي الحديث الآخر الصحيح –في الرجل المتمني الخير- (لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان) فالسبب في عدم عمله عدم ملكه مثل ماله ، وفي الحديث الآخر (لو صبر أخي موسى ليقص الله علينا من نبئهما) فالسبب في عدم القص عدم صبر موسى ، فعلى تفسير الشاطبي لا يجوز استعمال (لو) في مثل هذا لأنها التفات إلى المسبب في السبب ، وهذا لا يصح لما سبق بيانه من القول الصحيح في مسألة الأسباب ، وللأحاديث التي ثبت فيها استعمال (لو) في حالة تمني الخير ، وإنما المذموم استعمالها في التسخط حال المصيبة، والله تعالى أعلم.