قال ابن القيم -رحمه الله- ، في مفتاح دار السعادة (1/ 191) :
(وشق لَهُ السّمع وَخلق الأذن أحسن خلقه وأبلغها فِي حُصُول الْمَقْصُود مِنْهَا ، فَجَعلهَا مجوفة كالصدفة ؛ لِتَجْمَعَ الصَّوْت فتؤديَه إلى الصِّماخ ، وَلِيُحِسَّ بدبيب الْحَيَوَان فِيهَا ، فيبادرَ إلى إخراجه ، وَجعل فِيهَا غُضُونًا وتجاويفَ واعْوِجاجاتٍ تَـمْسِكُ الْهَوَاء وَالصَّوْت الدَّاخِل فتَكْسِرُ حِدَّتَه ثمَّ تُؤَدِّيه إلى الصماخ ، وَمن حِكْمَة ذَلِك أن يُطَوَّلَ بِهِ الطَّرِيقُ على الْحَيَوَان ، فَلَا يصلَ إلى الصِّماخ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ أوْ ينتبهَ لإمساكه ، وَفِيه أيضا حِكَمٌ غيرُ ذَلِك ، ثمَّ اقْتَضَت حِكْمَة الرب الْخَالِق سُبْحَانَهُ أن جعل مَاء الأذن مُرا فِي غَايَة المرارة ، فَلَا يُجَاوِزهُ الْحَيَوَان وَلَا يقطعهُ دَاخِلا إلى بَاطِن الأذن بل إِذا وصل إليه أعْمَلْ الْحِيلَة فِي رُجُوعه ، وَجعل مَاء الْعَينَيْنِ مِلْحا ؛ ليحفظَها فَإِنَّهَا شَحمةٌ قَابِلَةٌ للْفَسَاد ، فَكَانَت مُلوحةُ مَائِهَا صِيَانةً لَهَا وحفظا ، وَجعل مَاء الْفَم عذبا حُلوا ليدرك بِهِ طعوم الأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانَ على غير هَذِه الصّفة لأحالها إلى طَبِيعَته كَمَا أنَّ مَن عَرَضَ لفَمِه المرارةُ اسْتمرَّ طعمَ الأشياء الَّتِي لَيست بِمرَّة ، كَمَا قيل : (وَمن يَك ذَا فَم مُرٍّ مَرِيض ... يجد مُرا بِهِ المَاءَ الزُّلالا).