مقدمة كتاب "نفح الطيب" مرآة لثقافة مؤلِّفه الموسوعيّة
الأستاذ عبد الواحد عبد السلام شعيب
كثيراً ما يكتفي القارئ بقراءة مقدمة كتاب ما دون إتمام بقية محتوياته، لأنها تكشف عادة عما يعالجه هذا الكتاب أو ذاك المصنف من قضايا وأفكار، فضلاً عما تحتويه كذلك من حديث عن الأسباب الكامنة وراء تأليفه، وعن الخطة أو الهيكلة التي سار على نهجها صاحبه فيه.
لذا فقد حرص علماؤنا الأُوَل على اهتمامهم الشديد بأن تكون فواتح كتبهم ومصنفاتهم أو مقدماتها ذات قدر كبير من الدقة والإتقان باعتبارها تمثل المرآة التي تعكس نتاجهم العلمي فيها. وهذا هو ما يهدف إليه اليوم منهج البحث العلمي الحديث وطرائقه.
وهكذا، فإن شهرة مقدمات بعض الكتب قد تفوق في بعض الأحايين شهرة الكتاب نفسه. وخير مثال على ذلك "مقدمة" العلامة ابن خلدون التي طغت بشهرتها على شهرة كتابه "العبر" الذي قدم له بتلك المقدمة.
ومن الكتب التي حملت اسم المقدمات محتصراً من بقية اسم الكتاب كاملاً وطارت شهرته في الآفاق كتاب "المقدّمات"([1]) في الفقه المالكي لأبي الوليد ابن رشد الجدّ المتوفى سنة 520 هـ.
من هنا ارتأينا أن نولي مقدمة كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب" للمقَّري التلمساني شيئاً من الدراسة التحليلية المركزة بوصفها إحدى مقدمات الكتب التي تعبر تعبيراً رقيقاً عن هوية مؤلفها الثقافية ذات الطابع الموسوعي، لا بل وعن منهجيته العلمية أيضاً.
والمقَّري صاحب "النّفح" هو شهاب الدين أحمد بن محمد المقَّري التلمساني المولود بتلمسان بالجزائر سنة 986 هـ والمتوفى بمصر سنة 1041 هـ، وهو حافظ المغرب وجاحظها([2]).
ولما كانت مقدمة "النّفح" مستوعبة لعدد متنوع من جوانب ثقافة مؤلفها العلمية الموسوعية، فقد رأينا أن نتحدث عن بعض هذه الجوانب في أربعة محاور صغيرة، وذلك على النحو التالي:
أولاً: منهجية المقَّري العلمية:
يمكن أن نلخص أهم ركائز منهجية المقَّري، العلمية وأهم سماتها في مقدمته في النقاط التالية:
1 ـ يتجلى لقارئ مقدمة كتاب "نفح الطيب" أن مؤلفه قد نهج فيه منهجاً علمياً فريداً في تقسيم هذه الموسوعة الأدبية التاريخية إلى أقسام وأبواب متناسقة ومنسجمة بعضها مع بعض، بحيث قسّم الكتاب إلى قسمين رئيسين: القسم الأول، وهو يتعلق بالأندلس وأخبارها ويضم ثمانية أبواب. أما القسم الثاني، فقد خصصه للتعريف بلسان الدين بن الخطيب وأخباره وأحوال العلماء الذين تطرق إلى ذكرهم، وهذا القسم جعله في ثمانية أبواب أيضاً.
لذا نجد أن المقَّري قد وحّد بين قسمي كتابه من حيث عدد الأبواب، بحيث جعل لكل قسم من قسمي كتابه ثمانية أبواب. وهذا هو النهج الذي يسلكه مع الباحثين والمؤلفين في العصر الحاضر، وذلك تمشياً مع أسس منهج البحث العلمي القويم وأهدافه.
2 ـ من سمات منهجية المقَّري كذلك في مقدمة كتابه "النّفح" أن حدّد لنا فيها المكان والزمان اللّذين خصّهما بالتأليف. فالمكان هو بلاد الأندلس، والزمان هو الحقبة الزمنية التي عاشها المسلمون فيها والتي استمرت نحواً من ثمانية قرون، مع التركيز بصفة خاصة على القرن الثامن الهجري، عصر لسان الدين بن الخطيب الذي خصص له القسم الثاني من الكتاب. وهكذا جعل المقَّري بلاد الأندلس ووزيرها لسان الدين بن الخطيب »محوراً لدائرة معارف تاريخية وأدبية تحتوي أخبار عصره ومصره، لا بل تستوعب كثيراً من أخبار الأجيال التي تعاقبت في الأندلس إلى زمان وجوده« ([3]).
3 ـ حدد المقَّري في مقدمته الأسباب التي حدَت به إلى تصنيف كتابه "النّفح". إذ يقول:
وكنا خلال الإقامة بدمشق المحوطة وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة، كثيراً ما ننظم في سلك الذاكرة درر الأخبار الملقوطة... فينجرّ بنا الكلام والحديث شجون وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجعون، إلى ذكر البلاد الأندلسية ووصف رياضها السندسية... فصرت أورد بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني من النظم الجزل، في الجد والهزل، والإنشاء الذي يدهش به ذاكرة الألباب وإن شاء... فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماعهم، لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم... فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك... أن أتصدّى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه وبدائعه وصنائعه ([4]).
وبالرغم من تردد المقَّري في تقحّم هذا الأمر وتجشّمه في البداية، فإن إلحاح صديقه الأديب الدمشقي أحمد الشاهيني جعله يستجيب لمطلبه إذ عزم على تأليف كتابه "النّفح"، وذلك بعيْد وصوله إلى القاهرة حيث يقول: »ثم إني لما تكرر علي هذا الغر من الإلحاح، ولم تقبل أعذاري التي زنْدُها شحاح، عزمت على الإجابة، للمذكور عليّ من الحقوق... فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزّيّة... «([5]).
4 ـ كما أبان المقَّري في مقدِّمته عن الموضوعات التي ضمنها كتابه "النّفح". إذ يذكر في هذا الصدد:
ولما حصل لي كمال الاغتباط، نشرت بساط الانبساط([6])، وحدثت لي قوة النشاط، وانقشعت عني سحائب الكسل وانجابت، وناديت فكري فلبّت مع ضعفها وأجابت. فاقتدحت من القريحة زنداً كان شحاحاً، وجمعت من مقيداتي حساناً وصحاحاً، وكنت كتبت شطره، وملأت بما تيسر هامشه وسطره، ورقمت من أنباء لسان الدين بن الخطيب حُلَلاً لا تخلق جدّتها الأعصر، وسلكت من التعريف به رحمه الله مَهَامِه تكلُّ فيها واسعات الخطى وتقصر. فحدث لي بعد ذلك عزم على زيادة ذكر الأندلس جملة، ومن كان يعضد بها الإسلام وينصر، وبعض مفاخرها الباسقة، ومآثر أهلها المتناسقة، لأن كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر ([7]).
5 ـ كشف المقَّري النقاب في مقدمته عن هويته، ذاكراً فيها اسمه كاملاً ومكان ولادته ومذهبه والأماكن التي حلَّ بها، والأماكن التي تلقى فيها تعليمه أو تولى التدريس بها. فها هو يقول: »فيقول العبد الفقير... أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقَّري، المغربي المالكي الأشعري، التلمساني المولد والنشأة والقراءة، نزيل فاس الباهرة ثم مصر والقاهرة«([8]).
6 ـاتخذ المقَّري عنواناً لكتابه اتسم بالكمال والشمولية بحيث انطبق تماماً على محتوى ما أورده فيه من أقسام وأبواب وموضوعات. فجاء على هذا النحو: "نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب"؛ وحافظ فيه من جهة أخرى على سنة من سبقه من العلماء والمؤلفين في اتخاذ مثل هذه العناوين المسجوعة لأسماء كتبهم ومصنفاتهم.
7 ـيتبين لنا من مقدمة "النّفح" أن هذا الكتاب بالرغم من كونه أحد كتب التراجم، فإن مؤلفه استطاع أن يجمع فيه بين منهج كتب التراجم والمجامع الأدبية ذات الطابع الموسوعي متخذاً من بلاد الأندلس وأديبها لسان الدين ابن الخطيب مدخلاً لدراسة التاريخ الأندلسي والحضارة الأندلسية بجوانبها المختلفة ليس خلال القرن الثامن الهجري الذي عاش فيه ابن الخطيب فحسب، بل تعداه إلى فترة الوجود الإسلامي بالأندلس كاملة والتي استمرت مدة ثمانية قرون. وهذا هو المنهج الذي سار على منواله المقَّري أيضاً في كتابه "أزهار الرياض في أخبار عياض" الذي اتخذه هو أيضاً مدخلاً لدراسة تاريخ بلاد المغرب وحضارته، مع التعريج على ذكر الحضارة الأندلسية لتداخل تاريخ العدوتين وحضارتهما خلال القرن السادس الهجري بخاصة الذي عاش فيه علاّمة المغرب وحافظها أبو الفضل عياض بن موسى السبتي.
8 ـمن الناحية المنهجية أيضاً، عدّد لنا المقَّري أسماء بعض مصادر كتابه الأدبية والتاريخية في مقدمته، ومنها كتب ابن خلّكان، والصّفدي، وعبد الملك بن حبيب، وابن حجر العسقلاني، وابن الأثير، والزمخشري، وبعض أصحاب الدواوين من الشعراء. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن المقَّري قد اعتمد في تصنيف كتابه "النّفح" على عدد كبير ومتباين من المصادر والمظانّ الأندلسية والمغربية والمشرقية؛ كما أن بعض هذه المصادر لم يصل إلينا.
ومن جهة أخرى، أوضح المقَّري أن معظم مراجعه قد تركها بالمغرب ولم ينقل منها إلى مصر إلا القليل، الأمر الذي جعله يعتمد كثيراً على محفوظاته، حيث يقول: »وتركت الجميع بالمغرب، ولم أستصحب معي منه ما يبين عن المقصود ويُعْرب، إلا نزراً يسيراً علق بحفظي، وحليت بجواهره جِيدَ لفظي، وبعض أوراق سعد في جواب السؤال به حظي. ولو حضرني الآن ما خلّفته، مما جمعت في ذلك الغرض وألفته، لقرّت به عيون وسُرَّت به ألباب«([9]).
9 ـ ومما نلاحظه في الجانب المنهجي لمقدمة "النّفح" كذلك أن المقَّري أراد أن يبرز في كتابه مآثر الأندلسيين العلمية والأدبية منها بوجه الخصوص، وذلك في قوله:
معتنياً بالفحص عن أبناء الأندلس، وأخبار أهلها التي تنشرح لها الصدور والأنفس، وما لهم من السَّبْق في ميدان العلوم، والتقدم في جهاد العدو الظّلوم، ومحاسن بلادهم ومواطن جدالهم وجلادهم، حتى اقتنيت منها ذخائر يرغب فيها الأفاضل الأخاير، وانتقيت جواهر فرائدها للعقول بواهر، واقتطفت أزاهر أنجمها في أفق المحاضرة زواهر، وحصّلت فوائد بواطن وظواهر، طالما كانت أعين الألبّاء لنيلها سواهر، وجمعت من ذلك كلماً عالية ([10]).
ونجد هنا أن المقَّري قد حاكى في كلامه هذا أو تأثر بما كتبه ابن بسّام الشنتريني في مقدمة كتابه "الذخيرة" الذي صنفه في تراجم أدباء القرن الخامس الهجري بالأندلس، وذلك لإظهار مدى تفوق أهل الأندلس في ميدان العلوم والآداب، ولعدم اكتراثهم بتسجيل مآثر بلدهم الأدبية والعلمية ذات السَّبْق. إذ يقول ابن بسّام في مقدمة كتابه:
وقد أودعت هذا الديوان الذي سميته بـ "الذخيرة في محاسن أهل هذه الجزيرة" من عجائب علمهم، وغرائب نثرهم ونظمهم... لأن أهل هذه الجزيرة ـ مذ كانوا ـ رؤساء خطابة، ورؤوس شعر وكتابة، تدفقوا فأنسوا البحور، وأشرقوا فباروا الشموس والبدور، وذهب كلامهم بين رقّة الهواء وجزالة الصّخرة الصّماء ([11]).
ويقول أيضاً: »حتى ضمنت كتابي هذا من أخبار هذا الأفق، ما لعلّي سأربي به على أهل المشرق«([12]).
10 ـ تأثر المقَّري في كتابه "النّفح" تأثراً ما بمنهج لسان الدين بن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، إذ إن هذين الكتابين يتشابهان في العناصر التي تتألف منها الترجمة وفي أسلوب الإنشاء ([13]). إلا أن المقَّري كان أمْيل إلى كثرة الاستطراد في كتابه من ابن الخطيب.
وكثرة الاستطراد هذه التي ميزت منهج المقَّري في بعض كتبه الأخرى، وخاصة "أزهار الرياض"، لم تحدث خللاً بعمله العلمي في مصنفاته ـ حسب علمنا ـ، بل هي التي أضفت على كتابه "النّفح" بخاصة صفة الموسوعية المتعددة المناحي العلمية والثقافية، ولا سيما الأدبية والتاريخية منها.
وقد صرح المقَّري في مقدمته عن غلبة الاستطراد عليه في كتابه "النّفح" في قوله عن ابن الخطيب: »وذكر أنبائه التي يروق سماعها ويتأرج نفحها ويطيب، وما يناسبها من أصول العلماء الأفراد، والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد«([14]).
من جهة أخرى، نرى أن هذا الاستطراد الذي حفل به كتاب "النّفح" قد يعود إلى غزارة معلومات مؤلفه التي تنم عن كثرة اطلاعه وحفظه للأخبار والأشعار حتى سمي عند الأدباء بجاحظ المغرب:
لأنه مثل الجاحظ أبي عثمان، انسياب أسلوب، وطلاوة حديث، وطلبة حقيقة ودراسة تفصيلات يريدها عياناً وبياناً واختباراً وتقريّاً لها في مواطنها ومظانها في الكتب والواقع... حتى يبلغ الغاية شأن الجاحظ عمرو بن بحر، في إتمام وإكمال العدة لموضوعه يبلغ به شأوه بعد أن بذل فيه كل جهد مستطاع ([15]).
ثانياً: الجانب الديني
يتراءى لقارئ مقدمة كتاب "نفح الطيب" مدى ثقافة مؤلفه الواسعة في علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، إذ إن افتتاحيته لمقدمة كتابه أو خطبته له قد شملت عبارات طويلة في الحمد والتصلية بأسلوب فقهيّ بديع حتى ليدرك القارئ خلالها أنه كما لو كان بصدد قراءة كتاب في علوم الشريعة. ومن النماذج التي تبنئ عن بصماته في هذا الشأن من مقدمة "نفحـ"ــه:
ـ إكثاره من الاقتباس القرآني والألفاظ القرآنية. وهذا دليل على درايته بكتاب الله عز وجل وعلومه. وهذا الأسلوب القرآني في كتابة التاريخ بخاصة هو إحدى سمات الكتابة التاريخية عند معظم المؤرخين الأندلسيين الكبار كابن حيان وابن بسام وابن حزم وابن الخطيب.
ومن أمثلة الاقتباسات القرآنية التي أتحفنا بها المقَّري في مقدمته بين الفيْنة والأخرى على سبيل التمثيل لا الحصر قوله: »وأهفو إلى قصور ذات بهجة ([16])، وصروح توضح معالمُها للرائد نهجه... وأنهار جارية ([17])، وأزهار نواسمها سارية«([18]).
وفي حديثه عن ركوب البحر يقول: »وقلّ من ركبه فأفلت من كيده ونجا، فزادنا ذلك الحذر، الذي لم يبق ولا يذر([19])، على ما وصفناه من هول البحر طلقا، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة([20]) طلقا«([21]).
ومنها قوله: »وما يستوى الظل والحرور([22])، والحزن والسرور، والظلمات والنور«([23]). وقوله أيضاً: »ومن كانت بضاعته مُزْجَاة([24])، فهو عن الإنصاف بمنجاة«.
ـ استشهاده ببعض الآيات القرآنية الكريمة في مقدمته، ومنها قوله تعالى: {وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إيّاه}([25])، وقوله تعالى: {إنْ أُريد إلاَّ الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْت}([26]).
ـ وقد يستعمل المقَّري في بعض الأحيان ألفاظاً قرآنية من سور متعددة كما في قوله: »والله سبحانه المسؤول في الفوز والنجاة كرماً منه وحلماً، فبيده الخير لا إله إلاّ هو العلي الكبير، العليم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علماً، فلا يعزُبُ عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء من مخلوقاته على الشمول والاستغراق«([27]).
ـ نلاحظ على افتتاحية المقَّري لمقدمته أن فيها مسحة من علم التوحيد والعقائد كما في قوله:
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي ابتدأ الخلق من غير مثال وبرا، وقسَّم العباد إلى حاضر وباد وظاهر وخامل وقاصر وكامل تشير إليه بالأنامل الكُبرا، وأبدى في اختلاف ذواتهم وأعراضهم وتباين أدواتهم وأغراضهم، وتغاير ألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم وألوانهم وأكوانهم ومناصبهم ومناسبهم عِبَرا، وجعل الدنيا لمن أتيح صغراً أو كبرا،... جسراً للآخرة ومعْبرا، وحكم ـ وهو الفاعل المختار ـ على الجميع بالموت فكان لمبتدإهم خبرا،... فسبحانه من إله انفرد بوجود القدم والبقاء، واختصّ بفضله من شاء فارتقى وعمّ تعالى ذوي السعادة والشقا، بالحدوث والفنا ([28]).
ـ أما عن ثقافة المقَّري الحديثة، فقد أفصح عنها في غير ما موضع من مقدمته. منها حديثه عن قيامه بتدريس الحديث النبوي الشريف في إحدى حجاته بالمدينة المنوّرة على مقربة من قبرالنبي r، إذ يقول: »وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع«([29]). وفي كلامه عن صديقه الأديب الدمشقي ابن شاهين، يقول: »وروينا عنه مسند أحمد حسن الأسانيد والمتون«([30]). يقصد بذلك مسند الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في علم الحديث.
ـ كما نقل لنا المقَّري في مقدمته شيئاً من كلام الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة في ما يجب في حق المصطفى r حيث قال: »وقد قال إمامنا مالك صاحب المناقب الجليلة: "كل كلام يؤخذ منه ويُرد إلا كلام صاحب هذا القبر r أزكى صلاة وأتم سلام"«([31]).
ثالثاً: الجانب التاريخي
تكشف لنا مقدمة كتاب "النّفح" عن ثقافة صاحبه ودرايته الواسعة بعلم التاريخ والأخبار. فكتابه "النّفح" هو موسوعة أدبية تاريخية أرّخ فيها لبلاد الأندلس وحضارتها الإسلامية من شتى جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والثقافية، وخاصة الأدبية منها، خلال فترة الوجود الإسلامي بها منذ الفتح حتى السقوط.
وقد صرّح لنا المقَّري بذلك عن جمعه بين الأدب والتاريخ في "نفحـ"ـه، فقال في مقدمته: »وأوردت فيه من نظم وإنشاء ما يكتفي المقتصر عليه إن شاء، ومن أخبار ملوك ورؤساء، وطبقات من أحسن أو أساء، ما فيه اعتبار للمتأمّل، واذّكار للراحل المتحمّل، وزينة للذاكر المتجمّل«([32]).
من هنا نسجل أن هناك تشابهاً بين موسوعة المقَّري "النّفح" وبين موسوعة ابن بسام الشنتريني المتوفى سنة 542 هـ "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" من حيث أن كلاًّ منهما قد جمع في كتابه بين التاريخ والأدب الأندلسيين. إلا أن الأخير كان قد اقتصر على الترجمة لأدباء الأندلس وأخبارهم خلال القرن الخامس الهجري/ عصر الطوائف وجزء من أعلام القرن السادس الهجري/ عصر المرابطين بالأندلس الذي عاش فيه. بينما كان كتاب "النّفح" أكثر شمولية من كتاب "الذخيرة" من حيث الترجمة لأدباء الأندلس وأخبارهم لا خلال القرن الثامن الهجري الذي عاش فيه لسان الدين بن الخطيب وحسب، بل تعداه بالترجمة لمن سبقه أو لحقه من الأدباء الأندلسيين خلال حقبة زمنية أطول امتدت من لدن الفتح الإسلامي للأندلس إلى ما بعد سقوطها في أيدي النصارى الإسبان سنة 897 هـ/ 1422 م. ولم نقصد بذلك عقد مقارنة منهجيّة بين هذين الكتابين ("النّفح" و"الذخيرة")، وإنما جرّنا إلى ذلك اعتبار أن هذين المصنّفين هما أحفل ما وصل إلينا من المصادر عن الأدب الأندلس وتاريخه.
ويمكن أن نعدد بعض الاهتمامات والإشارات التاريخية للمقَّري في مقدمته والتي تنبئ بضلوعه في هذا الفن، وذلك في المواضع الآتية:
ـ بدأ المقَّري افتتاحية مقدمته بالحديث عن أهمية علم التاريخ مستقياً ذلك من كلام الخالق عز وجل في هذا الشأن، فيقول: »وأمر جَلّ اسمُه بالتدبّر في أنباء من مضى والنظر في عواقب أحوال الذين زال أمرهم وانقضى، من صنوف الأمم، ووبّخ من دَجَا قلبه بالإعراض عن ذلك وأظلم «([33]).
ـ تعرض المقَّري في مقدمته إلى ذكر بعض معجزات النبي محمد r متكئاً في ذلك على دراسته لكتب السّيرة النبوية الشريفة، وذلك في قوله:
سيّد الرّسل الغُرّ الميامين، ملجأ الأمة جعلنا الله ممن نجا باللجإ إليه آمين، الذي أنزل عليه القرآن، هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، وانشق له الزبرقان، ونبع الماء من بين أصابعه زيادة في الإيقان، وسلّمت عليه الأحجار، وانقادت لأمره الأشجار، متفيّئة ظلاله الشريفة وخطّت في الأرض أسطراً مبدعة في الإتقان، إلى غير ذلك من معجزاته الخوارق. فهو صاحب الدعوة الجامعة، والبراهين اللاّمعة([34]).
ـ كشف لنا عن جانب آخر من اهتمامه التاريخي، ألا وهو درايته بعلم النسب. فها هو يرجع في مقدمته نسب المصطفى r إلى جدّه الأعلى عدنان بقوله: »ذو الفضل العظيم الذي لم يختلف فيه من أهل العقول اثنان، والمجد الصميم الثابت الأصول الباسق الأفنان، المنتقى من مَحْتَد معدّ بن عدنان، المنتخب من خير عنصر وأطهر سلالة«([35]).
ـ عرّج المقَّري في مقدمته على الفتوحات الإسلامية الكبرى التي تمت في عصري الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، وبيّن كيف أن الرقعة الإسلامية قد امتدت من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي وبلاد الأندلس غرباً، وذلك في قوله:
وعلى آله وعترته الفائزين بأثرته، أنصار الدين، والمهاجرين المهتدين، وأشياعه وذريته، الطالعين نجوماً في سماء شهرته، وأتباعهم القائمين بحقوق نصرته، أرباب العقل الرصين، الفاتحين بسيوف دعوته أبواب المعقل الحصين، حتى بلغت أحكام ملّته، وأعلام بعثته، من الأندلس والصين، فضلاً عن الشام والعراق ([36]).
ـ أما عن الجانب التاريخي عند المقَّري من الناحية التوثيقية، فقد كان دقيقاً في انتقاء التواريخ الصحيحة أو الأكثر رجاحة في التأريخ لكثير من المواقع الحربية أو الأحداث الهامة في كتابه. وفي مقدمته أفصح لنا عن هذا الاهتمام التوثيقي لديه: ففي رحلته إلى المشرق وحلوله بأقطارها كثيراً ما أرّخ ذلك بذكر الأشهر والسنوات. ومن أمثلة ذلك حديثه عن سنة رحيله إلى المشرق والذي ذكر فيه مدى حنينه إلى المغرب الأقصى في قوله:
إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبده في أحكامه تعقّب أو ردّ، ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو ردّ، برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محلّ طارفي وتلادي، بقطر المغرب الأقصى الذي تمّت محاسنه...
قـطـر كــأنَّ نسِيــمـَــهُ نفحات كافـورٍ ومسْكِ
وكــأنَّ زَهْــرَ ريــاضــه دُرٌّ هَوَى من نظْم سِلْكِ
وذلك في أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المنصب والأهل والوطن والإلف ([37]).
ومن النماذج التي تبيّن اهتمامه بالتدوين التاريخي بالسنوات والأشهر أيضاً ما جاء في قوله: »وأكملت العمرة، ودعوت الله أن أكون ممن عَمَرَ بطاعته ربه عمره، وذلك في أوائل ذي القعدة من عام ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنيّة«([38]). ثم يقول: »ثم عدت إلى مصر... وذلك في محرم سنة 1029 هـ، ثم قصدت زيارة بيت المقدس في ربيع من هذا العام«([39]).
ـ يستشهد المقَّري في مقدمته ببعض العبارات المقتبسة من كلام بعض الصحابة أو الخلفاء الراشدين وخطبهم لمدى اطلاعه الواسع على أحداث التاريخ الإسلامي ووقائعه. ففي ركوبه للبحر يصفه بقوله: »ونحن قعود، كدود على عود، ما بين فرادى وأزواج،... وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء«([40]). فهنا يتحفنا المقَّري بنقله بعض العبارات بنصّها وفصّها من رسالة والي مصر عمرو بن العاص للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما أرسل له طالباً منه أن يصف له البحر، خاصة عندما استأذنه معاوية ابن أبي سفيان والي الشام آنذاك في أن يبني المسلمون أسطولاً بحرياً أسوة بالبيزنطيين. فبعث عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر يصف له البحر بقوله: »يا أمير المؤمنين إني رأيت البحر خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب، وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلّة والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق«([41]).
ـ ذكر لنا المقَّري في مقدمته إحدى القصائد الشعرية ذات المدلول التاريخي والتي تدخل ضمن ما يعرف بالتأريخ بالشعر، إذ هناك الكثير من القصائد الشعرية التي أرّخت لبعض الدول أو الأحداث أو الوقائع المهمة في الأندلس مثل قصيدة يحيى الغزال الجيّاني أو أرجوزته في فتح بلاد الأندلس والتي أثنى عليها شيخ مؤرخي الأندلس ابن حيان في "تاريخـ"ـه، وقصيدة عبد المجيد ابن عبدون في رثاء دولة بني الأفطس أصحاب بطليوس زمن أمراء الطوائف بالأندلس، وبعض القصائد التي أرّخت لانتصار المسلمين في الزلاّقة سنة 479 هـ/ 1086 م، ثم هناك أرجوزة لسان الدين بن الخطيب التاريخية المسماة »رقم الحلل في نظم الدول«([42]). والقصيدة التي أدرجها المقَّري في مقدمة كتابه "النّفح" وتدخل ضمن هذا السياق، تتكون من 103 بيت من الشعر، وهي من نظمه. وقد عدّد في النصف الأول منها بعض من أفناه الزمان من الملوك والأعلام في عصور الجاهلية والإسلام، وخاصة في عهدي الأمويين والعباسيين، بينما خصص النصف الثاني منها في التأريخ لسيرة لسان الدين بن الخطيب عن طريق الشعر. ومن أبيات هذه القصيدة التي تتعلق بابن الخطيب:
بل أين أرباب العلو
وذوو الوزارة والحجا
كأئمة سكنوا بأنـــ
هي جنة الدنيا التي
لا ســيــمــا غــرنــاطــــــ ــه الـــ
م أو التصدُّر والإمامه
بة والكتابة والعلامه
دلس فلم يشكو سآمه
قد أذكرت دار المقامه
غـــراء رائــقــة الــوســامـــــ ه([43])
ـ أكد المقَّري في مقدمته أهمية الجانب التاريخي في كتابه "النّفح". فقد ضمّن قسميْه الرئيسين طائفة كبيرة من الأخبار سواء عن بلاد الأندلس وأحوالها أو عن أعلامها وأدبائها خاصة في عصر ابن الخطيب. وقد عبر عن ذلك أثناء تقسيم كتابه إلى أقسام وأبواب في قوله: »القسم الأول: فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكوان، والأنباء المنتحية صوْب الصواب، الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب، وفيه بحسب القصد والاقتصار، وتحرّي التوسط في بعض المواضع دون الاختصار، ثمانية من الأبواب: ... «([44]).
أما عن القسم الثاني، فيقول: »القسم الثاني: في التعريف بلسان الدين ابن الخطيب، وذكر أنبائه التي يرُوق سماعها ويتأرج نفحها ويطيب، وما يناسبها من أحوال العلماء والأفراد، والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد، وفيه أيضاً من الأبواب ثمانية موصلة إلى جنات أدب قطوفها دانية«([45]).
يتبع