يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1 / 188 - 189) ، دار الكتب العلمية بيروت) :
فَانْظُر الآن إلى النُّطْفَة بِعَين البصيرة ، وَهِي قَطْرَة من مَاء مهين ضَعِيف مستقذر ، لَو مرت بهَا سَاعَة من الزَّمَان فَسدتْ وَأَنْتَنَتْ ،كَيفَ استخرجها رب الأرباب الْعَلِيم الْقَدِير من بَين الصلب والترائب منقادةً لقدرته مطيعة لمشيئته مُذللةَ الانقياد على ضِيق طرقها ، وَاخْتِلَاف مجاريها إلى أن سَاقهَا إلى مستقرها ومَجْمَعها ، وَكَيف جمع سُبْحَانَهُ بَين الذّكر والأنثى ، وألقى الْمحبَّة بَينهمَا ، وَكَيف قادهما بسلسلة الشَّهْوَة والمحبة إلى الِاجْتِمَاع الَّذِي هُوَ سَبَب تخليق الْوَلَد وتكوينه ، وَكَيف قدر اجْتِمَاع ذَيْنكَ الماءين مَعَ بُعد كل مِنْهُمَا عَن صَاحبه ، وساقهما من أعماق الْعُرُوق والأعضاء ـ وجمعهما فِي مَوضِع وَاحِد جعل لَهما قرارا مكينا ، لَا يَنَالهُ هَوَاء يُفْسِدهُ وَلَا برد يُجَمِّدُهُ وَلَا عَارض يصل إليه وَلَا آفَة تتسلط عَلَيْهِ ، ثمَّ قلب تِلْكَ النُّطْفَة الْبَيْضَاء الْمُشْرِقَة علقَةً حَمْرَاءَ تضرب إلى سَواد ، ثمَّ جعلهَا مُضْغَة لحم مُخَالفَة للعلقة فِي لَوْنهَا وحقيقتها وشكلها ، ثمَّ جعلها عظاما مُجَرّدَة لَا كِسْوَةَ عَلَيْهَا ، مباينة للمضغة فِي شكلها وهيأتها وقَدرِها وملمسها ولونها ، وَانْظُر كَيفَ قسم تِلْكَ الاجزاء المتشابهة المتساوية إلى : (الأعصاب وَالْعِظَام وَالْعُرُوق والأوتار واليابس واللين وَبَينَ ذَلِك) ، ثمَّ كَيفَ ربط بَعْضهَا بِبَعْض أقوى رِبَاط وأشده وأبعده عَن الانحلال ، وَكَيف كساها لَحْمًا رَكبه عَلَيْهَا وَجعله وِعَاءً لَهَا وغشاء وحافظا ، وَجعلهَا حاملة لَهُ مُقِيمَة لَهُ ، فاللحم قَائِم بهَا وَهِي مَحْفُوظَة بِهِ ، وَكَيف صورها فأحسن صُورَها ، وشق لَهَا السّمع وَالْبَصَر والفَمَ والأنف وَسَائِر المنافذ ، وَمد الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وبسطهما ، وَقسم رؤسهما بالأصابع ، ثمَّ قسم الأصابع بالأنامل ، وَركب الأعضاء الْبَاطِنَة من الْقلب والمعِدة والكبد وَالطِّحَال والرِّئة وَالرحم والْمَثانة والأمعاء ، كلُّ وَاحِد مِنْهَا لَهُ قدر يَخُصُّهُ وَمَنْفَعَة تخصه).