البنيان المرصوص (1)

خالدة النصيب


حرم الله سبحانه وتعالى الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرما، بل حتى الحيوانات التي لا تكليف عليها، والبهائم إذا حشرت يوم القيامة أخذت كل شاة حقها من الأخرى؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله[ قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» رواه مسلم، والجلحاء: التي لا قرن لها فهي تأخذ حقها بسبب وقوع الظلم عليها من الشاة القرناء بسبب أنه لا قرون لها، وهو قصاص مقابلة لا قصاص تكليف، لكن ليتبين لنا كيف أن الله تعالى عظم شأن الحقوق وأن من ظلم في الدنيا ولم يأخذ حقه أخذه يوم القيامة لا محالة؛ لهذا شرع لنا كمسلمين النصرة لمن وقع عليه الظلم ولمن كان ظالما، فهذا ينصر بأن يرجع له حقه، وذاك ينصر بكفه عن ظلمه، كل هذا حتى يبقى المجتمع متماسكا متعاضدا لا يبغي أحد على أحد، وحتى يبقى المسلمون إخوانا كما وصفهم الرسول[.





لكن لماذا هذا الأمر بنصرة الظالم والمظلوم؟ الجواب: حفاظا على المجتمع وتماسكه ونبذا لأمور الجاهلية البغيضة التي تدعو للتعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه كما تقرر من قواعد الإسلام، جاء في مسلم عن جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي[ في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار؛ فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين؛ فقال رسول الله: «ما بال دعوى الجاهلية؟!» قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة»، فسمعها عبد الله ابن أبي فقال: قد فعلوها؟! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن منها الأعز الأذل، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وفي رواية: «فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره» رواه مسلم.

قال النووي: وأما تسميته[ ذلك دعوى الجاهلية فهو كراهة منه لذلك؛ فإنه مما كانت عليه الجاهلية، ثم قال: وأما قوله[ في آخر هذه القصة «لا بأس» فمعناه: لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته؛ فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم يوجب الفتنة، وليس هو عائدا إلى رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية. انتهى كلام النووي، رحمه الله.

وأما كراهة النبي[ لدعوى الجاهلية فهو كراهته لأخذ الحقوق بدون الرجوع إلى السلطة الشرعية، وكراهة الرجوع إلى القبيلة والحكم بحكمها وإن كان يخالف الشريعة، وهذا من متعلقات الدنيا الزائلة، وقد تحدث فيه الفتن، أقصد فتن الهرج والمرج، قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (جزء 28 صفحة 422): «فإن الذين يتعصبون للقبائل وغير القبائل مثل قيس ويمن وهلال وأسد ونحو ذلك كل هؤلاء إذا قتلوا فإن القاتل والمقتول في النار، كذلك صح عن النبي[ قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه».

لكن إذا أردت النصرة لأخيك فليكن، سواء كان من قبيلتك أم من قبيلة أخرى، وسواء كان ظالما أم مظلوما، فنصرة المظلوم تكون بالرجوع إلى الحكم الشرعي والسلطة الشرعية بعدم التعدي على الآخرين بغير وجه حق قال في «فتح الباري»: «نصر المظلوم فرض كفاية، وهو عام في المظلومين وكذلك في الناصرين؛ بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح». ا.هــ.

فليس شرطا أن يكون من القبيلة حتى أنصره، بل أنصره لأنه رجل من المسلمين، ثم قال: «ويتعين أحيانا على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة». انتهى.

والمقصود من هذا الكلام أنه لا بد في نصر المظلوم من تحقق المصلحة في هذه النصرة وبعد التحقق من وقوع الظلم، أما إن كان سيقع عليه الضرر فإنه يسقط عنه وجوب النصرة ويصبح مستحبا في حقه، هذا فيما يتعلق بالمظلوم، أما نصرة الظالم فهي تختلف وتكون بكفه عن الظلم وحجزه عنه؛ لحديث: «قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تأخذ فوق يديه» رواه البخاري، قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم، من تسمية الشيء بما يؤول إليه وهو من وجيز البلاغة، قال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه، فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسا ومعنى. انتهى.

ويشار إلى أن النصرة في زمن الجاهلية معناها يختلف عما فسره الرسول[، فلقد فسره بأن تكفه عن ظلمه لنفسه ولغيره، وليس موافقته على الباطل والوقوف معه في باطله؛ فتكون النصرة بنهيه وردعه وكفه عن ظلمه، ولأن في ذلك حفظا له عن إهلاك نفسه بظلمه وفيه وقاية المجتمع من شره، وفيه أن من ينصر المظلوم يريد له الخير ولا يبطن له الشر؛ لهذا نرى فيه الحكمة في الإنكار وعدم إضمار العداوة للظالم، وهذا مما يعين على الإصلاح، وتكون النية في ذلك إرادة الخير للظالم بكفه عن ظلمه ومحبته وعدم بغضه، وهذا مما يشيع التكافل في المجتمع الواحد ونبذ الفرقة والعدوان، وفيه شيوع المحبة بين الناس، وأن يشيع التكافل في المجتمع الواحد ونبذ الفرقة و العدوان، وفيه شيوع المحبة بين الناس والإخوان، وفيه القوة للمجتمع المسلم؛ فالمؤمن ضعيف في نفسه قوي بإخوانه، فينبغي عند إرادة النصرة سواء للظالم أو المظلوم تقديم الحكمة على كل شيء؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، أي لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته ، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، والحق أحق بالاتباع.