"بل ادارك علمهم في الآخرة"



أحمد عباس



لماذا نشعر أحيانًا بأن هناك فجوة كبيرة ما بين إحساسنا بالرغبة في التزود من الطاعات والعبادات التي تقربنا من الله تعالى وبين قدرتنا على ربط كل عمل صالح أو عبادة بيوم يقوم فيه الناس لرب العالمين ليعلم كل إنسان منا ماذا قدم وأخر؟

الإجابة عن هذا السؤال الذي من الضروري أن يقف أمامه كل مسلم وكل مسلمة تكمن في آية من آيات كتاب الله العزيز، عندما يقول الله تعالى: "بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون".

هذه الآية الكريمة تتحدث عن الكفار الذين لا يرجون الله واليوم الآخر لكنها في حقيقة الأمر وعند من يحاول أن يتأملها تكشف عن التفاصيل النفسية التي تؤدي ببعض الناس إلى الكفر بالآخرة، والمسلم الحق عليه أن يكون على حذر دائم من الوقوع في الكفر أو على الأقل الوقوع في ضعف الإيمان وانهياره في القلب.

الله سبحانه وتعالى يذكر دائمًا أن المؤمنين هم الذين يعملون الصالحات، وهذا يعني أن حركة الإنسان المسلم في هذه الحياة لابد أن تكون دائمًا في سياق الإصلاح في الأرض وفعل الخيرات وفي الوقت نفسه هي حركة مدفوعة كليا وجزئيا بطاقة الإيمان.

والذي قد يجعل الإنسان غير قادر على أن يرفق دائمًا أعماله الصالحة وعباداته بإيمان قوي حاضر باليوم الآخر هو أن علمه بالآخرة قد ادارك، بمعنى أن استشعاره لتفاصيل الآخرة قد اضمحل وتضاءل وتناقص.

وهذا يؤكد ويكشف أحد أسرار إسهاب القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في الحديث عن تفاصيل اليوم الآخر سواء مشاهد يوم القيامة أو تفاصيل الجنة وتفاصيل الجحيم.

فالله عز وجل كان من الممكن أن يحدثنا إجمالاً عن يوم القيامة وكذلك يكون الحديث إجمالا عن الجنة ذات النعيم الكامل والنار ذات العذاب المطلق، ولكنه سبحانه وتعالى حدثنا عن الجنة بتفاصيل محددة متنوعة وجاءت الآيات المحكمات الكثيرة لتتناول مشاهد الجنة ونعيمها ومتعها المختلفة وحذرنا من النار بتفاصيلها وحدثنا عن أسمائها وعن صفاتها وعن ألوان العذاب فيها.

إن هذا الحديث المستفيض بالتفاصيل عن الجنة والنار كان لحكمة بالغة من بعض أطرافها أن النفس الإنسانية وهي تعيش الحياة الدنيا تحتاج بالفعل إلى أن تكون مستشعرة ومستحضرة لهذه التفاصيل في الآخرة فعندما يزداد تفكر القلب في هذه التفاصيل ويعيش فيها بوجدانه ومشاعره وتستغرق كيانه بالكامل تجعل هذا القلب في حال غير الحال حتى إن الإنسان ليقوم بأعمال وعبادات وتصرفات يبدو للناظرين أنها مجرد أفعال وسلوكيات عادية بينما هي في حقيقة الأمر ولمن يرى القلوب من داخلها سبحانه وتعالى ليست مجرد أعمال وإنما هي تتويج لحالة من اليقين الكامل في تفاصيل الآخرة، فالقلب إذن يعيش الدنيا بالجوارح لكن القلب متعلق بالآخرة بتفاصيلها الكاملة.

ما أحوج كل مسلم وكل مسلمة أن يجعلوا إيمانهم بالآخرة إيمانًا حقيقيًا حيًا داخل القلوب وليس مجرد إيمانًا مجملاً لا يشعل في القلب إحساس اللهفة والتشوق إلى الجنة وفي الوقت نفسه إحساس الفزع والإشفاق من النار، إن هذا الإيمان الحقيقي بالآخرة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعايش المستمر والدائم مع أدق تفاصيل وصف الجنة والنار التي بسطت لنا في كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.