«أسطورة إحراق طارق للسفن»

للدكتور عبدالحليم عويس

أبوالحسن الجمال



شاعت الأساطير والأخبار الغريبة في عدد من كتب التاريخ، منها حرق المسلمين لمكتبة الإسكندرية، وزواج العباسة من جعفر البرمكي، وقصة الغرانيق، وغيرها، وقد فند العلماء وثقاة المؤرخين هذه القصص التي التقطها المبشرون والمستشرقون وأذاعوها على نطاق واسع وجعلوها من أصول التاريخ والإسلام، وسوف نتناول في السطور التالية لكتاب الدكتور عبدالحليم عويس «أسطورة إحراق طارق للسفن» الصادر عن دار الصحوة عام 1416هـ/1995م والذي فند حادثة حرق الفاتح الكبير طارق بن زياد للسفن التي عبر بها إلى الأندلس سنة 92هـ التي لم تذكر في أي من المصادر إلا بعد الفتح الإسلامي للأندلس بأربعة قرون وفي ثلاثة مصادر، وقد رجع الدكتور عويس إلى المصادر الأصلية والكتب الأولى التي أرخت للأندلس وأولها كتاب أبي بكر محمد القرطبي المشهور بابن القوطية المتوفى 367هـ «تاريخ افتتاح الأندلس» ومعاصره «المجهول» في القرن الرابع صاحب كتاب «أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائه» ولم ترد أيضا عند آل الرازي أحمد بن محمد وعيسى ابنه وابن الفرضي (ت 403هـ) صاحب «تاريخ علماء الأندلس»، والخشني صاحب كتاب «قضاة قرطبة» فكل مؤرخي القرن الرابع لم يظهر أثر للقصة في كتاباتهم.

ثم يعرج الدكتور عويس ليفحص كتب المدرسة التاريخية الأندلسية المغربية المتألقة في القرن الخامس، والتي قدمت لنا عددا كبيرا من أعلام المؤرخين الأندلسيين من أمثال شيخ مؤرخي الأندلس أبي مروان بن حيان القرطبي صاحب كتاب «المقتبس»، وابن حزم الأندلسي صاحب كتب «نقط العروس»، و«طوق الحمامة»، و«جمهرة أنساب العرب»، و«الفصل»، وعدد كبير من الرسائل وكلها مطبوعة ومتداولة، والحميدي صاحب «جذوة المقتبس»، وصاعد صاحب «طبقات الأمم»، والطرطوشي صاحب «سراج الملوك»، وغيرهم... كل أولئك الأعلام لم يذكروا هذه القصة من الأساس حتى أعلام المؤرخين في القرن السادس كابن بسام الشنتريني صاحب كتاب «الذخيرة في محاسن الجزيرة»، وابن بشكوال صاحب كتاب «الصلة» لم يذكرا القصة رغم أنهما عاصرا الإدريسي، وابن الكردبوسي وهما أول من ذكر هذه القصة كما سنبين لاحقا.. كما أن القصة لم تظهر في آثار مؤرخي القرن السابع مثل موسوعة ابن عذاري «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»، و«المعجب في تلخيص أخبار المغرب» لعبدالواحد المراكشي، و«التكملة»، و«الحلة السيراء» لابن الأبار، وهي أيضا لم تظهر عند مؤرخي القرن الثامن مثل مؤلفات لسان الدين بن الخطيب، وعبدالرحمن بن خلدون، وكذلك رجع الدكتور عويس للمصادر الشرقية فلم يجدها عند الطبري، وابن الأثير، والمسعودي، ويتساءل: «فهل يمكن أن يتجاهل جميع هؤلاء المؤرخين المغاربة الأندلسيين - خلال هذه القرون - قصة هذا شأنها في تاريخهم؟!».

وأول من ذكر هذه القصة كان الإدريسي المتوفى سنة 560هـ في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» التي انتهى من تأليفه سنة 548هـ ومعاصره أبومروان عبدالملك بن الكردبوسي الذي لم تعرف سنة وفاته، وإن كان الدكتور عويس يرجح وفاته في أواخر القرن السادس، وتبعهم في ذلك الحميري في مؤلفه «الروض المعطار»، ويذكر الدكتور عويس نص الإدريسي: «لما جاز طارق بمن معه من البرابر وتحصنوا بهذا الجبل، أحس في نفسه أن العرب لا تثق فيه فأراد أن يزيح هذا عنه فأمر بإحراق المراكب التي جاز عليها فتبرأ بذلك عما اتهم به»، وعن الإدريسي أخذ الحميري فأورد في «الروض المعطار» قوله: «وإنما سمي جبل طارق لأن طارق بن عبدالله لما جاز بالبربر الذين معه تحصن بهذا الجبل، وقدر أن العرب لا ينزلونه فأراد أن ينفي عن نفسه التهمة فأمر بإحراق المراكب التي جاز بها فتبرأ بذلك مما اتهم به» والتشابه بين النصين واضح لا يحتاج إلى تعليق، أما ابن الكردبوس فقد جاءت عبارته مقتضبة في كتابه «الاكتفاء في أخبار الخلفاء» وذلك عندما عقب على المعركة التي خاضها المسلمون بقيادة طارق في فتح الأندلس (معركة شذونة أو وادي لكة أو وادي البيرباط) بقوله: «ثم رحل طارق إلى قرطبة بعد أن أحرق المراكب: قاتلوا أو موتوا». هذه هي النصوص الثلاثة التي وردت عند الإدريسي وابن الكردبوسي والحميري.. وهي الأصل الذي اعتمدت عليه كل المصادر التاريخية والأدبية التي أشارت إلى قصة الإحراق.

بعد ذلك يناقش موضوع إحراق السفن والأسطورة، وينقل هذا عن دراسة الدكتور محمود علي مكي وهو المحقق الثبت في التاريخ الأندلسي، والذي عقد مقارنة ضافية بين عدد من الأساطير كلها تدور حول إحراق القادة لسفنهم ووضعهم جيوشهم أمام مأزق «النصر أو الموت» وذلك في بحثه «أسطورة إحراق السفن في التاريخ» وساق من خلاله من الأساطير الشرقية أسطورة إحراق القائد الفارسي وهرز لمراكبه حين ساعد سيف بن ذي يزن في تحرير اليمن والانتصار على الأحباش وإلقاء وهرز خطبة عصماء يحث بها الجنود على النحو الذي سيذكره بعض المؤرخين فيما بعد في فتح الأندلس، وقد شارك كثير من اليمنيين في الفتح وعلى رأسهم طريف بن مالك، ربما يكونون هم أول من روج للأسطورة.

ثم تناول المؤلف خطبة طارق ومدى دلالتها على حرق السفن، ووجود هذه الخطبة في كتب التاريخ والأدب لا يعني بالضرورة ثبوت قصة إحراق السفن، والمشكلة هنا في ثبوت وصحة الخطبة البلاغية مع أن طارق كان بربري الأصل وحديث عهد باللغة العربية ومعظم جنوده كانوا من البربر كما قالت المصادر الأولى للتاريخ الأندلسي، وبعد أن ناقش الموضوع بحسب وروده في كتب التاريخ والأدب قال: «ومن هنا فنحن نرجح أنه (طارق) لربما ألقى الخطبة باللسان البربري، ثم ترجمها إلى العربية بعض من كانوا في الجيش حتى تصل معانيها إلى عنصري الجيش معا، وهما البربر والعرب، ونحن نرى أن إطار الخطبة كان هو الإطار المحدود الذي ألمحنا إليه وهو «النصر والشهادة» ثم جاء المدونون والكتاب العرب فتوسعوا فيها جريا على عادتهم بالبيان والسجع والتحلية والإطناب».

ثم تناول قضية إحراق السفن في نظر المؤرخين المحدثين، حيث إنه لم يؤيد قصة الحرق من المؤرخين المحدثين إلا نفر قليل، منهم الدكتور أحمد شلبي في كتابه «موسوعة التاريخ الإسلامي» ج4، وحسن إبراهيم حسن في كتابه «تاريخ الإسلام» ج1/32، ومحمد كرد علي في كتابه «الإسلام والحضارة العربية» ص253، والدكتور أحمد مختار العبادي بعد أن يذكر القصة يتردد في قبولها، أما جمهرة المؤرخين المحدثين فلم يقفوا عند هذه القصة الوقفة الكافية التي تتناسب وشيوع القصة في الذهنية المعاصرة، ومنهم الأمير شكيب أرسلان الذي كان يقف موقف المحلل لكثير من القضايا ومع ذلك لم يتعرض لها في كتابه «تاريخ غزوات العرب»، والمؤرخ العسكري الكبير اللواء محمود شيت خطاب لم يقف عند هذه القصة إطلاقا، وهناك من رفض هذه القصة مثل مؤرخ الأندلس الشهير محمد عبدالله عنان، وحسين مؤنس، والدكتور عبدالرحمن علي الحجي في كتابه «تاريخ الأندلس» الذي عالج الموضوعة معالجة إسلامية تامة.

ثم يتناول المؤلف إحراق السفن في الإطار الشرعي، ومعروف أن العصر الذي حدث فيه الفتح هو عصر التابعين، بل كان يوجد صحابة مشهورون زمن الوليد بن عبدالملك، ومعروف أن جيش طارق بن زياد وموسى بن نصير كان جله من التابعين، فهل يوافق هؤلاء التابعون وهم حجة في التشريع على عمل يخالف شرع الله؟ وهل يعقل أن يتواطأ التابعون على منكر لا يقره الإسلام؟ وعلى هذا الأساس يتساءل الدكتور عويس: «كيف سكت التابعون على إحراق طارق للسفن؟ هل يعني مشروعية هذا العمل من الناحية الإسلامية؟ وفي عصر كعصر التابعين ولم ينته القرن الأول الهجري: هل تسمح هذه البيئة الإسلامية بإحراق السفن دون معارضة ودون احتجاج من الساسة والفقهاء أو المفكرين أو الشعراء؟ لقد اختلف الصحابة من قبل وتقاتلوا من أجل مقتل عثمان والخلاف على أسبقية القصاص أو استتباب الحكم، وكل منهم كان يؤمن بأنه يقاتل على مبدأ شرعي؟ لمجتهدهم المخطئ أجر وللمصيب أجران، فهل يتواطأ التابعون على إحراق أسطول إسلامي في وقت هم فيه أحوج ما يكونون لمواجهة الأساطيل الرومانية؟».

وضرب المثل في المواقع الإسلامية الأخرى ومنها موقعة مؤتة التي انسحب فيها المسلمون لما أحسوا بالهلاك، وينتهي به الأمر إلى إنكار هذه الحادثة من الناحية الشرعية ويستحيل حدوثها بين قوم هم من خير القرون؛ القرن الأول.