مئات الخطاطين كتبوا المصحف عبر العصور

المخطوطات القرآنية وشرف الكتابة


أحمد أبوزيد

تدوين الوحي الشريف شرف رفيع تسابق إليه الكثير من المسلمين على مر العصور، بدءا من الصحابة الكرام، الذين اشتهروا بكتابة الوحي بإملاء النبي " صلى الله عليه وسلم" ، عقب نزوله، على جلد الغزال والعظام وسعف النخيل، وانتهاء بمئات الخطاطين الذين كتبوا المصاحف الشريفة عبر العصور بمختلف الخطوط العربية التي خلدها القرآن الكريم بعد أن كتب بها.
فقد حرص المسلمون على أن يخرج القرآن، مخطوطا ومطبوعا، في أجمل صورة، وأبهى حلة، واشتهر جمهرة من الخطاطين على مر العصور ببراعة الخط وجماله، وكتبوا المصاحف الخاصة والعامة، وانكب المجلدون والمذهبون عليه إبداعا في إخراجه، حتى أصبح أعظم رونقا، وأجمل شكلا وأكثر جلالا، وكان سببا في تطوير الكتابة العربية وتجويدها، خطوطا ونقوشا، فصار الخط العربي إحدى أهم الوحدات الزخرفية الفنية الإسلامية، ليس هذا فقط، بل امتد أثره ليشمل كل جوانب الفن الإسلامي وميادينه.
وتنوعت مظاهر العناية بالقرآن الكريم، بعد الصدر الأول، من ناحية كتابته وتجويدها وتحسينها، حتى بلغ الرسم القرآني ذروته من الجودة والحسن والضبط، واستقر المصحف على الشكل الذي نراه عليه اليوم من الخطوط الجميلة، وابتكار العلامات المميزة التي تعين على تلاوة القرآن تلاوة واضحة جيدة، واتباع قواعد التجويد.
بداية التدوين
ولقد كانت بداية تدوين النص القرآني الشريف في عهد النبي " صلى الله عليه وسلم" ، على يد عدد من الصحابة، ممن عرفوا بكتاب الوحي، مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وثابت بن قيس رضي الله عنهم.
وبعد موت النبي " صلى الله عليه وسلم" ، قام أبوبكر الصديق "رضي الله عنه" ، بمشورة عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" ، بجمع القرآن الكريم في مصحف واحد من صدور الصحابة ومن الوسائل التي كتب عليها، وسار على نهجه عثمان بن عفان "رضي الله عنه" ، عندما جمع الناس على مصحف واحد، ومنع الاختلاف بين المسلمين، وتم نسخه في عدة مصاحف لتوزيعها على الأمصار الإسلامية. وقد نال زيد بن ثابت "رضي الله عنه" ، شرف تحمل مسؤولية جمع القرآن في عهد أبي بكر، وكتابته في عهد عثمان.
< مخطوطات المصحف
وخلال العصور الإسلامية المتعاقبة تبارى الخطاطون في نيل شرف كتابة المصحف الشريف بخطوط متعددة، وبرز في كل قطر خطاطون بلغوا الكمال في حسن الخط وتجويده، فجاءوا بما يبهر من الخطوط الرائعة، التي خلدت ذكرهم على مر العصور، وعلى رأس هؤلاء: قطبة بن المحرر، وابن مقلة، وابن البواب، والمستعصمي، وإبراهيم منيف، وتوحيدي الطبري، وحامد الآمدي، وخليل الزهاوي، ودرويش نعمان الذكائي، وسفيان الوهبي، ومحمود الثنائي، وصبغة الله الحيدري، وعبدالوهاب النائب، وشهدة بنت أحمد الإبري الدينوري، وعبدالله بك الزهدي، ومحمود شكري الألوسي، وأحمد شاكر الألوسي، ونعمان الألوسي، وعلي علاء الدين الألوسي، وعبدالله بهاء الدين الألوسي، وعمر الهيتي، وعلي الكوتي، وماجد بك الزهدي، ومحمد عبدالعزيز الرفاعي، ومحمد عبدالقادر، ومحمد فريد النحاس، ومحمد محفوظ، وإبراهيم عبدالغني الدروبي، ومحمد بهجت الأثري، ومير علي التبريزي، وهاشم محمد البغدادي، ووليد الأعظمي، وياقوت بن عبدالله الموصلي، وياقوت الرومي
ومازال عدد من هذه المصاحف التاريخية محفوظا في مختلف المساجد والمتاحف ودور الكتب والمؤسسات، منها ما هو مكتمل النص القرآني من بدايته وحتى نهايته، ومنها ما وجدت أجزاء منه فقط، وآخر لم تسلم منه إلا وريقات متفرقة.
فنجد دار الكتب والوثائق في القاهرة تضم واحدة من أهم قاعات التاريخ والفنون الإسلامية الموجودة في العالمين العربي والإسلامي، وهي قاعة القرآن الكريم، التي تحتوي على مجموعة من أندر المصاحف الشريفة وأجملها، التي يرجع بعضها إلى القرن الأول الهجري، منها مصحف الخليفة عثمان ابن عفان "رضي الله عنه" ، وهو مكتوب بالخط الكوفي القديم على رق غزال من غير شكل ولا نقط ولا كتابة أسماء السور، والمصحف السمرقندي، ومصحف كتب في آخره إنه بخط أبي سعيد الحسن البصري سنة 77 هجرية، ومكتوب بالخط الكوفي على الرق.
< خطوط متنوعة
وقد كتبت المصاحف في بداية الأمر بخطوط مربعة ذات زوايا، مثل «الخط المكي»، و«الخط الحيري» (نسبة إلى الحيرة في العراق)، والذي يعد من أقدم الخطوط التي كتب بها المصحف، فقد استعمل قبل الإسلام، واستمر العمل به حتى ظهور الإسلام، وكتب به الوحي قبل استحداث الخط الكوفي في خلافة علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" ، والذي يعد أجمل الخطوط في وجدان المسلمين طوال قرون من العصر الإسلامي، واتسعت دائرة استعمالاته، وكتب به المصحف الشريف وكل ما يتعلق بالنصوص الدينية والمستندات الرسمية، كما كانت تزين به المساجد والقصور كتلوين زخرفي جميل.
واستمرت المصاحف تكتب بالخط الكوفي طوال القرون الأربعة التالية. وكان من بين أسباب استخدام هذا الخط ما أمكن توليده من زخارف فيه، مما يعطي جلالا لخطوط القرآن الكريم يتفق وقدسيته، واستمر الوضع كذلك بالنسبة إلى المصاحف إلى أن ظهر نوع آخر من الخطوط من اختراع الأتابكة وابتكارهم هو الخط النسخ.
كما استخدم الخطاطون في كتابة الــقرآن الكريم خط الثلث، والخط المغربي الذي انتشر في بلاد المغرب الإسلامي وبلاد الأندلس، ثم ابتكر خط الرقعة، وظهرت أنماط محلية أخرى وتكونت لها مدارس في بلاد المسلمين أهمها مدرسة هراة في الخط المغولي، ثم مدرسة تبريز في بلاد فارس، وهو ما يعرف بالخط الفارسي، واحتضن حكام المسلمين ذوي المواهب وفناني الخط العربي في عهود الإسلام الزاهرة.
والخط النسخ يكاد يكون خط جميع المصاحف المطبوعة والمنتشرة هذه الأيام، وهي في أصلها مخطوطات لكبار الخطاطين مثل: الحافظ عثمان ومصطفى نظيف.. وغيرهما. وقد تبارى الخطاطون في كتابة القرآن الكريم حتى تعددت الأقلام وتنوعت الخطوط وأصبح الخط فنا متميزا.
< إخراج المصاحف وزخرفتها
وبعد خط المصاحف بخطوطها المميزة والجميلة، جاء فن إخراج المصحف الشريف، الذي يعد من أهم الفنون الجميلة منذ القرن الأول الهجري وحتى العصر العثماني، حيث لم تكن الطباعة معروفة آنذاك، فكان المصحف الواحد يشترك في إخراجه مجموعة من الفنانين، يعملون لأكثر من عام في زخرفته وتذهيبه وكتابة آياته بالخط العربي بأشكاله المختلفة، ومن ثم تجليده تجليدا فاخرا.
وترجع بداية زخرفة وتذهيب المصاحف إلى العصر العباسي الذي تأثر بالفن الفارسي الساساني الذي كان شائعا في إيران، ومنذ ذلك التاريخ اهتم الرسامون المسلمون بزخرفة وتذهيب صفحات المصحف الشريف، وكتبت المصاحف على صفائح الفضة والذهب والعاج، وطرزت الآيات القرآنية الكريمة بخيوط من الفضة والذهب على الحرير والديباج لتزين بها المساجد والمجالس والمكاتب والدواوين.
وكان التذهيب للمصاحف في بداية الأمر مقتصرا على أجزاء معينة من الصفحات، كأشرطة بين السور، والفواصل بين الآيات الكريمة، وامتد إلى الصفحات الأولى لتزخرف جميعها، وكذلك الصفحات الأخيرة من المصحف، وقد بلغ فن التذهيب والتلوين روعته في العصر المملوكي، حيث وصل ذروة الإجادة في التكوينات الهندسية والمضلعات والأشكال التجميلية وزخارف التوريقات والتفريعات النباتية التي أرست دعائم الفن الإسلامي في تجميل الخط. وقد أضفى النص القرآني على الخط العربي منزلة خاصة في نفوس المسلمين جميعا، فامتزج الشعور الديني مع الإحساس بالجمال الفني، ونشأت الروائع الفنية الإبداعية لتطوير الأساليب والأنماط التقليدية.
< روائع المصاحف الأثرية
وإذا نظرنا إلى المخطوطات القرآنية الأثرية فسنجد بعض الباحثين ومنهم الباحث عبدالله بن محمد الشريدة، يقسم تلك المخطوطات طبقا لقيمتها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما اكتسبت قيمتها وشهرتها من عظمة كاتبها ومقامه الديني ومكانته التاريخية، ومنها مصحف الخليفة الثالث عثمان بن عفان "رضي الله عنه" ، وهو المصحف الرسمي للدولة في عهده، حيث قام بإتلاف وإحراق المصاحف الموجودة لدى الصحابة آنذاك، وأمر بنسخ مصحفه الذي تبناه وأرسله إلى أمهات العواصم في ذلك الوقت، وعرفت هذه النسخ الست بـ «المصحف الإمام».
ومنها مصحف الإمام علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" ، وتوجد منه سبع نسخ محفوظة ومخطوطة بالخط الكوفي، منها نسختان في تركيا، ونسخة في صنعاء باليمن، ونسخة في الهند، ونسختان في مدينة شهد في إيران، ونسخة في النجف.
ومنها مصحف الإمام الحسن بن علي، وتوجد منه نسختان في مشهد والنجف، ومصحف الحسن البصري، كتب بخطه سنة 77هـ، وهو مجلد بغلاف من خشب الصنوبر، وفي أوائل آياته حليات ونقوش ذهبية، ومحفوظ بدار الكتب في مصر. ومصحف الإمام الصادق، الذي يرجع إلى القرن الثاني للهجرة وهو مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال، ومجلد بقطع من خشب الصنوبر، وفي أوائل السور والآيات حليات ونقوش ذهبية، وهذه النسخة موجودة بمكتبة رضا رامبوا بالهند، وهنالك نسخة أخرى محفوظة في دار الكتب المصرية.
< خطاطون خلدهم القرآن
وأما القسم الثاني: فهو يضم مخطوطات قرآنية اكتسبت قيمتها وشهرتها من مدى إتقان ودقة الخطاط الذي قام بكتابتها، ومن ذلك: مصحف الخطاط محمــد بن عـــلي بن الـــحسين والمــلقب بـ «ابن مقلة»، والذي كتب عدة مصاحف، منها نسخة موجودة في مكتبة رضا في رامبوا بالهند، وهي نسخة نادرة جدا بالخط النسخي القديم، كتبها في مائتين وخمسة عشر ورقة. والنسخة الثانية كتبها عام 308هـ، وموجودة بدار الكتب المصرية، وهي نسخة محلاة بالذهب. أما النسخة الثالثة فهي بالقلم الكوفي والنسخي معا، وتحتوي على ثلاثمئة وسبع وثلاثين ورقة، من الورق القديم جدا، وموجودة في متحف هراة بأفغانستان.
ومصحف الخطاط علي بن هلال الملقب بـ «ابن البواب»، والذي كتب حوالي أربعة وستين مصحفا، أحدها بالخط الريحاني، أهداه للسلطان سليم الأول، ومنها مصحف بمتحف الآثار الإسلامية ببغداد كتبه عام 1401هـ. كما يحتفظ مستر جستر بيتي في مدينة دبلن بإيرلندا بنسخة من مصحف ابن البواب، وهو مجلد صغير، عدد صفحاته 286 صفحة.
ونجد مصحف الخطاط ياقوت المستعصمي، الذي برع في كتابته للمصاحف الشريفة، فكتب كثيرا من المصاحف التامة، والأجزاء التي تضم سورة أو عدة سور، وهي موجودة في كثير من المتاحف وبعض المساجد وخزائن الكتب، منها مصحفان مكتملان بخط النسخ وخط الثلث، موجودان بخزائن الكتب في إسطنبول بتركيا.
وهناك مصحف الخطاط حسن رضا التركي، الذي كتب ثمانية عشر مصحفا، بأحجام مختلفة، والنسخة الكبيرة موجودة في متحف طوب قبو سراي بإسطنبول، وأصبح مصحفه المصحف الرسمي في دولة تركيا. ومصحف الخطاط الحافظ محمد أمين الرشدي التركي، وهو من المصاحف الجميلة، الرائعة التنسيق والتجريد، كتبه عام 1236هـ، وكانت كتابته بوصاية من والدة السلطان عبدالعزيز خان ابن السلطان محمود خان العثماني، والتي أهدته إلى مسجد مرقد الشيخ جنيد البغدادي عام 1278هـ، وحفظ بعدها في مكتبة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بالعراق.
ونجد أيضا مصحف الخطاط الحافظ عثمان، الذي كتب خمسة وعشرين مصحفا، وقد طبعت هذه المصاحف ووزعت على مختلف بلدان العالم الإسلامي، مما كان سببا في ذيوع صيته، فرجح مصحفه على بقية المصاحف، وانتـشر في الأقطار الإسلامية والعربية. وتحتفظ جامعة إسطنبول بمصحف بخطه النسخي البديع، وكذا مكتبة الملك عبدالعزيز في المدينة المنورة. وهناك مصحف الخطاط عبدالله زهدي أفندي، وهو مصحف وحيد يعد من المصاحف النادرة والثمينة، وهو بحوزة مواطن مصري.
< روعة الإخراج الفني
ويأتي القسم الثالث والأخير: وهو يشمل مخطوطات قرآنية اكتسبت قيمتها وشهرتها من روعة الإخراج الفني الذي تميزت به. ومن ذلك: مصحف السيدة خوند بركة، أم السلطان المملوكي شعبان، وهو مصحف من أروع وأبدع ما يفخر به معرض دار الكتب المصرية من العصر المملوكي، حيث كتب عام 775هـ بخط ريحاني، ومضبوط ضبطا عاديا، والفواتح وكل رؤوس السور، وعلامات التجزئة، محلاة بالذهب واللازورد والأزرق الجميل، وحجمه من القطع الكبير.
ومصحف السلطان قلاوون، ويعد من أروع المصاحف من ناحية التذهيب والزخرفة بجانب حسن الخط، وهو يحتوي على ثلاثين جزءا، كل جزء مجلد على حدة. وقد كتب هذا المصحف بأجزائه عام 1313هـ، ويمتاز كل جزء بتنوع زخارفه، وفواتح السور مزينة باللونين الذهبي والأبيض على أرضية زرقاء، وكل جزء يفوق الآخر في تصميماته وزخارفه وتذهيبه.
وهناك مصحف مملوكي محفوظ بدر الكتب المصرية باسم أرغون شاه، ومؤرخ بعام 1349م، ويضم ثلاثمئة وثمان وثمانين صفحة من الحجم الكبير، وبكل صفحة أحـد عشر سطرا، مذهبة بشكل رائع لأوائل الحروف ونهاية الصفحات، وأواخر الآيات وبداية كل سورة. واستخدمت فيه الزخارف المتشابكة المجدولة المزينة بأزهار اللوتس.
< مصاحف هندية
كما تحتفظ دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة بمصحف يعود إلى دولة الهند، ومكتوب بخط الثلث السطري، وتتخلل تلك السطور، بخط دقيق، ترجمة للآيات الشريفة بالخط الفارسي، وهو مقسم إلى سبعة أقسام، كل جزء على حدة.
ونجد مصحف إمبراطور هندي عمره حوالي 400 سنة، يزن 13 كيلوجراما، وتمت كتابته بخطوط ذهبية وفضية، وكل ورقة من هذا المصحف لها رائحة عطر مختلفة عن الأخرى، والخامة المصنوعة منها تلك الصفحات مقاومة للحريق. ومصحف السلطان برقوق المكتوب بخط ابن الصايغ عام 801هـ، وهو منقوش بالذهب والألوان الزاهية، ذات اللون الذهبي الرائع، الذي استخدم فيه الذهب الخالص والأزرق اللازوردي والأحمر الياقوتي، وتتخلل الألوان مساحات من البياض التي تضفي على الألوان عمقا وجمالا.
وهناك مصاحف مكتبة الملك عبدالعزيز بالمدينة المنورة، وهي مصاحف ثمينة، مهداة من عامة المسلمين، ومن مختلف العصور إلى الروضة الشريفة بالمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وهي بأقلام متنوعة، وبأساليب كتابية رائعة، بعضها مذهب تذهيبا غاية في الدقة والجمال.