تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: كيفية الترجيح

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي كيفية الترجيح

    كيفية الترجيح

    د. صالح النهام



    إن طرق الترجيح كثيرة، ذكرها علماء أصول الفقه (1)، والمحدثون (2)، واعتمدوا عليها لأهميتها في دفع التعارض الواقع بين الأدلة الشرعية، وبما أنها لا تنحصر، والإحاطة بها تحتاج إلى أطروحة كاملة لبيانها؛ لذا أكتفي بذكر أهم وجوه الترجيح، والتي يكون بيانها من خلال عدة اعتبارات:

    الاعتبار الأول: الترجيح باعتبار الإسناد

    والمراد به طريق الإخبار عن المتن، وقد عد الشوكاني - رحمه الله - اثنين وأربعين نوعا من وجوه الترجيح بين النصوص من جهة السند، وبيَّن أنها كثيرة، وحاصلها أن ما كان أكثر فائدة للظن فهو راجح (3).

    ومن هذه الأنواع:


    الترجيح بكثرة الرواة


    ويقصد بهذا: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما رواته أكثر والآخر رواته أقل، فيقدم ما رواته أكثر؛ لأن احتمال الغلط أو الكذب على الأكثر أبعد من احتمالهما على الأقل، فيقوى الظن برواية الأكثر، والعمل بالأقوى أرجح. وقد قال بذلك جمهور العلماء، وخالفهم الحنفية.

    الترجيح بشدة الضبط والحفظ


    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما راويه أشد ضبطا وحفظا، والآخر خلاف ذلك، فتقدم رواية من عُرف بهذه الصفات؛ لأن النفس أعلق وأوثق بصاحب تلك الصفات.

    ومثل لذلك، بترجيح ما يرويه مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، على ما يرويه شعيب بن أبي حمزة عن ابن شهاب، وسبب تقديم رواية مالك أنه أشد ضبطا وحفظا وإتقانا من شعيب (4).

    وأيضا بترجيح رواية عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز، على رواية عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز؛ لأن الشافعي - رحمه الله - قال: «بينهما فضل ما بين الدرهم والدنانير»، والتفضيل لعبيدالله. ثم قال: وهو عندي كاختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة (5).

    الترجيح بعلو الإسناد


    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما عالي الإسناد، بمعنى قلة الوسائط، بين الراوي وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" ، والآخر كثرت فيه الوسائط، فيقدم العالي؛ لأن احتمال الخطأ يقل كلما قلت الوسائط. وقد قال بذلك جمهور العلماء، خلافا للحنفية، حيث لم يعتبروا قلة الوسائط وكثرتها، وإنما المعتبر فقه الراوي وحفظه (6).

    ومثل لذلك، بترجيح إفراد ألفاظ الإقامة على تثنيتها؛ قال الزركشي - رحمه الله -: كقول الحنفي: الإقامة مثنى كالأذان؛ لما روى عامر الأحول، عن مكحول، أن أبا محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: «أن النبي " صلى الله عليه وسلم" علَّمه الأذان والإقامة، وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى» (7).

    ثم قال - أي الزركشي -: بل هي فرادى؛ لما روى خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» (8). فإن خالدا وعامرا من طبقة واحدة، روى عنهما شعبة، وحديث عامر بينه وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" ثلاثة. وخالد بينه وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" اثنان.

    ويقول أيضا: واعلم أن الترجيح بهذا ظاهر، إذا كان لا يعز وجود مثله، فإن كان فهو مرجوح من هذه الحيثية؛ لأن الترجيح بالأغلب، مقدم على الأندر (9).

    الترجيح برواية الأفقه والأعلم


    ويقصد بهذا: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحد هذين الحديثين أفقه من الآخر؛ لأنه أعلم بسبل استنباط الأحكام من أدلتها، وأعرف بما يصلح للاستدلال وما لا يصلح، وما يكون عاما أو خاصا، ومطلقا أو مقيدا، وراجحا أو مرجوحا، وناسخا أو منسوخا.

    ومثل لذلك، بترجيح رواية عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: «أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل، ويصوم» (10)؛ على رواية أبي هريرة "رضي الله عنه" : «من أدركه الفجر جنبا فلا يصم» (11)، وسبب تقديم رواية عائشة - رضي الله عنها - كونها أفقه من أبي هريرة رضي الله عنهما.

    الترجيح برواية صاحب الواقعة


    بمعنى أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما راويه صاحب الواقعة، فيرجح على خلافه. ومثاله: ترجيح حديث ميمونة - رضي الله عنها - حين قالت: «تزوجني رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ونحن حلالان» (12)، على رواية ابن عباس "رضي الله عنه" أنه " صلى الله عليه وسلم" تزوجها وهو محرم (13) .

    الترجيح بكون الراوي سمع من غير حجاب


    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما سمع الحديث شفاها، بينما الآخر سمعه من وراء حجاب، فتقدم رواية من سمع الحديث شفاها؛ لأنه أبعد عن اللبس، وربما شاهد من قرائن الأحوال، ما ذهبت عن صاحبه (14).

    ومثل لذلك، بترجيح حديث القاسم وعروة عن عائشة - رضي الله عنهم-: «الولاء لمن ولي النعمة، وخيرها رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وكان زوجها عبدا» (15)، على رواية الأسود عن عائشة - رضي الله عنهما -: «فاختارت نفسها قال: وكان زوجها حرا» (16)؛ لأن كلا من عروة والقاسم، تيسر لهما من المشاهدة والمشافهة، ما لم يتيسر للأسود؛ لأن عائشة عمة القاسم وخالة عروة؛ فكانا يدخلان عليها من غير حجاب، بينما الأسود كان يسمع كلامها من وراء حجاب (17).

    الترجيح برواية من لم تختلف الرواية فيـه


    ومعناه: أن يكون أحد الحديثين المتعارضين اختلفت الرواية فيه، بينما الآخر لم تختلف، فيقدم الحديث الذي لم تختلف الرواية فيه؛ لكونه أقرب إلى الضبط، وأبعد عن التردد، وهناك قول يرى تعارض الروايتين فيتساقطان (18).

    ومثل لذلك، بترجيح رواية مالك في الموطأ أنه قرأ كتاب عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في الصدقة، قال: فوجدت فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الصدقة.. وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة، حقتان طروقتا الفحل، فما زاد على ذلك من الإبل ففي كل أربعين، بنت لبون، وفي كل خمسين حقة..» (19)؛ على رواية عمرو بن حزم، أن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استئنفت الفريضة» (20). بمعنى تُرَد الفرائض إلى أولها.

    فحديث عمر "رضي الله عنه" لم تختلف الرواية فيه، ورواته كلهم متفقون على هذا الحكم، بينما حديث عمرو بن حزم اختلفت الرواية فيه، فالمصير إلى حديث عمر أولى؛ ولذا قالوا: إذا تقابلت حجتان، وكان لأحدهما معارض بخلاف الأخرى، فما سلمت تكون أولى كالبينات إذا تقابلت، فما وجد لهما معارض سقطت، وما سلمت من المعارضة ثبتت، فكذلك هنا (21).

    الترجيح برواية الأكبر سنا على الأصغر


    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما كبيرا والآخر صغيرا، فتقدم رواية الكبير؛ لأنه أقرب إلى الضبط وأكثر احتياطا، فيكون الظن به أقوى؛ ولأن الكبير أفهم للمعاني، وأتقن للألفاظ، وأبعد عن غوائل الاختلاط (22)؛ لأن الغالب، أن يكون الكبير أقرب إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" ، حال السماع؛ لقوله " صلى الله عليه وسلم" : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» (23)، بمعنى العقلاء، وقيل: البالغون (24).

    ومثل لذلك، بترجيح رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «أهل النبي " صلى الله عليه وسلم" بالحج وأهللنا به معه» (25)؛ على رواية أنس "رضي الله عنه" أنه سمع رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يقول: «لبيك عمرة وحجا» (26)؛ وذلك؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان أكبر سنا من أنس، "رضي الله عنه" . وإلى هذا الترجيح ذهب المالكية (27)، وخالفهم الحنفية (28)، فرجحوا حديث أنس "رضي الله عنه" وقالوا: لكثرة ملازمته لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" ؛ ولأنه كان خادمه عشر سنين.

    الترجيح بروايتي البخاري ومسلم على رواية أحدهما


    ويقصد به: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما رواه الشيخان، والآخر رواه أحدهما، فتقدم الرواية المتفق عليها؛ لأنها تتبوأ المرتبة العليا في مراتب الصحيح. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن دواعي رجحان الحديث المتفق عليه أكثر وأظهر من دواعي رجحان الحديث الذي انفرد به أحد الشيخين.

    ومثل لذلك، بترجيح حديث عمران بن حصين "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «خير أمتي قرني...»، وفيه: «ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون» (29). على حديث زيد بن خالد الجهني "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ أن يشهد قبل أن يستشهد» (30)؛ وذلك لاتفاق صاحبي الصحيح على حديث عمران، وانفراد مسلم بحديث زيد بن خالد، رضي الله عنهم أجمعين (31).

    وقد خالف جمهور العلماء مسلك الترجيح في هذا المثال، وأخذوا بمسلك الجمع بين الحديثين؛ وذلك بحمل كل منهما على بعض المعاني دون بعض، عملا بمقتضى قاعدة التنويع، ويكون: أن الشهادة المحمودة الممدوح صاحبها هي التي يخبر صاحبها بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له، أو يأتي بها الإمام فيشهد بها عنده. بينما الشهادة المذمومة مختصة بالمبادر بها، فهي في حق آدمي هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها (32)، وقال الإمام النووي - رحمه الله - عن هذا المسلك - أي الجمع بين الحديثين - «هو مذهب أصحابنا ومالك وجماهير العلماء، وهو الصواب» (33).

    ويضاف إلى الترجيحات المذكورة: الترجيح باعتبار نفس الرواية كترجيح الحديث المتواتر على الحديث المشهور، والمشهور على خبر الآحاد، ومرسل التابعي على مرسل تابع التابعي؛ لأن الظاهر من التابعي أن لا يروي عن غير الصحابي، والصحابة رضوان الله عليهم عدول بما يثبت من ثناء رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وتزكيته لهم في ظاهر الكتاب والسنة، وهناك ترجيحات كثيرة ذكرت في المطولات ككتاب الأحكام للآمدي، والبحر المحيط للزركشي وغيرها، وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح، فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات، فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها.



    الهوامش


    1- انظر: مختصر ابن الحاجب: (2/310 وما بعدها)، الإحكام للآمدي: (3/180)، البحر المحيط: (6/149-179)، إرشاد الفحول: (ص:462).

    2- انظر: الاعتبار للحازمي: (ص:11-23)، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي: (ص:474-478).

    3- إرشاد الفحول: (ص:245).

    4- انظر: الاعتبار: (ص:11).

    5- انظر: البحر المحيط للزركشي: (6/56).

    6- انظر: شرح الكوكب المنير: (4/649-650)، سلم الوصول شرح نهاية السول: ( 4/476).

    7- أخرجه أبوداود برقم: (502).

    8- أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (1،4،5،250)، ومسلم في صحيحه برقم: (2، 3).

    9- انظر: البحر المحيط: (6/152). الإبهاج: (3/219).

    10- أخرجه البخاري برقم: (1926)، ومسلم برقم: (1109).

    11- أخرجه مسلم برقم: (1109).

    12- أخرجه أبوداوود برقم: (1843)

    13- المستدرك الحاكم برقم: (6797)

    14- انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني: (2/444).

    15- أخرجه مسلم برقم: (1504).

    16- أخرجه البخاري برقم: (6758).

    17- انظر: معالم السنن: (3/257)، فتح الباري: (9/319).

    18- كتاب التلخيص في أصول الفقه: (2/445).

    19- أخرجه مالك في الموطأ برقم: (23)

    20- أخرجه الحاكم في المستدرك: (1/395-397)، والدارقطني: (2/117).

    21- انظر: الاعتبار بتصرف: (ص:15-16).

    22- انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (2/311)، اللمع للشيرازي: (ص:46)، شرح الكوكب المنير: (4/647)، إرشاد الفحول: (ص:461).

    23- أخرجه مسلم برقم: (122)، وأبوداود برقم: (674).

    24- وقال ذلك النووي في شرحه لمسلم: (4/398).

    25- أخرجه مسلم برقم: (1211)، وأبوداود برقم: (1777).

    26- أخرجه مسلم برقم: (1232)، وأبوداود برقم: (1795).

    27- انظر: حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: (2/27-28).

    28- انظر: فتح القدير: (2/411-412).

    29- أخرجه البخاري برقم: (6428). ومسلم برقم: (2535).

    30- أخرجه مسلم برقم: (1719). وأبوداود برقم: (3596).

    31- انظر: فتح الباري: (5/259).

    32- شرح النووي على صحيح مسلم: (16/87).

    33- انظر: إرشاد الفحول: (ص:278).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي رد: كيفية الترجيح

    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: كيفية الترجيح


    كيفية الترجيح

    د. صالح النهام



    في مقال سابق عن كيفية الترجيح التي يعتمدها علماء أصول الفقه، بيّنا أن لهم في ذلك اعتبارات، وفصّلنا القول في الاعتبار الأول، وهو: الترجيح باعتبار السند، وفي هذا المقال نتطرق إلى:

    الاعتبار الثاني: الترجيح باعتبار المتن

    ويقصد بالمتن: ما يتضمنه الكتاب والسنة والإجماع من الأمر والنهي، والعام، والخاص، ونحو ذلك. وأسباب ترجيح المتن كثيرة، أذكر منها:

    الترجيح بالقول على الفعل

    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فالقول أبلغ في البيان؛ لأن الناس لم يختلفوا في كون قوله " صلى الله عليه وسلم" حجة، واختلفوا في اتباع فعله، ولأن الفعل لا يدل بنفسه على شيء بخلاف القول، فيكون أولى (1)، ومنهم من قال: إن القول أبلغ إذا كان بيانا لحكم شرعي، والفعل أبلغ إذا كان بيانا لكيفية لقول رسول الله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (2).

    ومثل لذلك، بترجيح حديث عثمان بن عفان "رضي الله عنه" أن رسول الله قال: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح» (3) على حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله: «نكح ميمونة -رضي الله عنها- وهو محرم» (4)؛ وذلك لأن القول أقوى ومقدم على الفعل لصراحته على دوام الحكم، بخلاف الفعل فإنه يحتمل الخصوص به، ولا يدل على دوام الحكم (5).

    الترجيح بالخبر المومئ إلى علة الحكم على ما ليس كذلك

    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون في أحدهما لفظ يومئ إلى علة الحكم، فإنه يرجح على الخبر الذي ليس فيه ذلك؛ لأن انقياد الطباع إلى الحكم المعلل أسرع من الانقياد إلى غير المعلل؛ ولأن ما اشتمل على العلة أقرب إلى الإيضاح والبيان؛ ولأن ظهور التعليل من أسباب قوة الحكم (6).

    ومثل لذلك، بترجيح حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (7). على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «وُجِدَتْ امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان» (8)؛ وذلك لأن الحديث الأول فيه علة الحكم، والتبديل هو العلة، وقد قال بذلك جمهور العلماء، وقد أخذ جمهور العلماء بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- لعمومه المرتدة والمرتد، وذلك لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام، إلا ما كان مختصا بهن من دون الرجال، والمرأة شخص مكلف بدّل دين الحق بالباطل، فتقتل كالرجل. وخالف في ذلك الحنفية، واستثنوا المرتدة من الحديث، فقالوا: لا تقتل، بل تحبس حتى تسلم. وقالوا: إن «مَنْ» الشرطية في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- لا تعم المؤنث (9).

    الترجيح بكون أحد الحديثين خاصا والآخر عاما

    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما خاصا والآخر عاما، فيقدم الخاص على العام، وهو من باب الجمع بينهما المعروف بالتخصيص، وهو بأن يعمل بالخاص فيما تناوله، ويعمل بالعام فيما بقي.

    ومثل لذلك، بترجيح حديث عبادة بن الصامت "رضي الله عنه" أن النبي قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (10)، على حديث أبي هريرة "رضي الله عنه" أن رسول الله علم رجلا الصلاة، فقال: «كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» (11). فالحديث الأول قال به جمهور العلماء، وهو الأظهر في الدلالة؛ لأنه صريح في نفي الصحة، ولذا يخصص الحديث الآخر العام، وأما الحديث الثاني، فقال به الحنفية لكون الفاتحة لا تتعين (12).

    الترجيح بالتخصيص على المجاز

    ومعناه: أنه إذا احتمل الكلام أن يكون فيه تخصيص ومجاز، فحمله على التخصيص أرجح، لتعين الباقي من العام بعد التخصيص، بخلاف المجاز، فإنه قد لا يتعين، بأن يتعدد ولا قرينة تعينه.

    ومثل لذلك، بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام:121)، فإنه يحتمل التخصيص في من لم يتلفظ بالتسمية عند الذبح، وخص منه الناسي فتحل ذبيحته وهو قول الحنفية.

    وقال الشافعية: ويحتمل المجاز بذكر التسمية وإرادة الذبح؛ لأن الذبح يذكر التسمية عنده غالبا، فلا تحل ذبيحة المتعمد تركها على الأول دون الثاني، كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً} (التوبة:36)، فإنه يحتمل التخصيص بغير أهل الذمة، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } (التوبة:29)، ويحتمل المجاز، بأن يكون من قبيل تسمية الكل وإرادة الجزء (17). وسبب تقديم التخصيص على المجاز ينحصر في الأمور التالية:

    < إن الباقي من العام بعد التخصيص متعين للعمل والمجاز خلافه.

    < إن التخصيص للعام مما جرت به عادة أهل اللسان، فيجب الأخذ به لظهور الاتفاق من علماء الشريعة على اعتبار ما جرت به عادتهم وعرف لغتهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم:4).

    < اتفاق الأصوليين على ترجيح التخصيص على المجاز.

    < إن التخصيص أتم فائدة من المجاز؛ لأن اللفظ عند التخصيص يبقى معتبرا في الباقي من غير احتياج إلى تأمل واجتهاد والمجاز خلافه (18).

    الترجيح بكون المتن سالما من الاضطراب

    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما متنه سالما من الاضطراب، والآخر وقع في متنه اضطراب، فيرجح ما كان سالما من الاضطراب؛ وذلك أن ما لم يقع في متنه اضطراب دليل على كمال ضبط الراوي، وشدة تيقظه، وقوة حفظه (15).

    ومثل لذلك، بترجيح حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «كان النبي يرفع يديه إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع» (16). على حديث البراء بن عازب "رضي الله عنه" أن رسول الله كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود (17). فحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- يروى عنه من غير وجه. وممن رواه الزهري عن سالم، ولم يختلف فيه عليه، ولا اضطرب في متنه، فكان أولى بالمصير إليه من حديث البراء بن عازب الذي يعرف بيزيد بن أبي زياد، وقد اضطرب فيه؛ قال سفيان بن عيينة: كان يزيد يروي هذا الحديث ولا يذكر فيه «ثم لا يعود»، ثم دخلت الكوفة فرأيت يزيد ابن أبي زياد يرويه وقد زاد فيه «ثم لا يعود»، وكان قد لقن فتلقن (18).

    وقد أخذ أكثر أهل العلم بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وذلك لأن أحاديث رفع اليدين قد رويت من حديث خمسين صحابيا، بينهم العشرة رضي الله عنهم أجمعين (19).

    وأيضا أحاديث رفع اليدين مثبتة، بينما الأحاديث المخالفة نافية، والمثبت مقدم على النافي. وبهذا يقول الشافعي رحمه الله «وبهذه الأحاديث تركنا ما خالفها من حديث، لأنها أثبت إسنادا، وأنها حديث عدد، والعدد أولى بالحفظ» (20).

    الترجيح بالخبر الثابت عن النبي نصا على ما ثبت عنه بطريق الاستدلال

    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما نصا من رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، والآخر ينسب إلى رسول الله بالاستدلال لا بالنص، فيقدم ما كان نصا عن رسول الله؛ لأن المنسوب إلى رسول الله لا يوجد فيه نص قاله رسول الله، ولا أمر منه ولا نهي، وإنما هو فعل كان على عهده.

    ومثل لذلك، بترجيح حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي " صلى الله عليه وسلم" «نهى عن بيع أمهات الأولاد»، وقال: «لا يُبَعْنَ ولا يوهبن، ويستمتع بها سيدها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة» (21). على حديث أبي سعيد الخدري "رضي الله عنه" أنه قال: «كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله " صلى الله عليه وسلم" » (22). فحديث ابن عمر - رضي الله عنهما- نص عن رسول الله، فيقدم لإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- على منع بيع أمهات الأولاد (23)؛ ولأنه قد ورد النهي عن التفريق بين الأم وولدها (24). وحكم الأولاد في الحرية والرق مثل حكم أمهاتهم، فإذا كان ولدها سيدها حرا، فإنه دليل على حرية الأم أيضا (25). وأما حديث أبي سعيد "رضي الله عنه" : «كنا نبيع أمهات الأولاد...» فجوابه: أنه قد يجوز أن يكون النهي عن ذلك خفي عنه، أو أن يكون هذا النهي قد ورد بعد هذا القول من أبي سعيد "رضي الله عنه" (26).

    الترجيح بالخبر المشتمل على الحقيقة الشرعية

    ومعناه: أن يتعارض في خبر واحد احتمالان، أحدهما حقيقة شرعية، والآخر حقيقة عرفية أو حقيقة لغوية، فتقدم الحقيقة الشرعية؛ وذلك لأن النبي " صلى الله عليه وسلم" إنما بعث لبيان الشرعيات، والظاهر من حاله أنه يخاطب بها (27).

    ومثل لذلك، بقول رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «الاثنان فما فوقهما جماعة» (28)، أي في تحصيل الثواب والفضل في الصلاة، ولا يريد أن يبين حكما لغويا، وهو أن أقل الجمع اثنان، وإنما أراد حكما شرعيا، وهو أن الاثنين جماعة.

    الترجيح بالخبر المقرون بالتأكيد على غير المؤكد


    ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما كرر فيه قول النبي، والآخر لم يكرر فيه. فيقدم ما كرر فيه؛ لأن التكرار يفيد التأكيد، والتأكيد يبعد احتمال المجاز والتأويل.

    ومثل لذلك، بترجيح حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل..» (29)، على حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صُماتها» (30). فيرجح حديث عائشة -رضي الله عنها- على حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- لاقتران حديثها بالتأكيد «فنكاحها باطل ثلاثا»، وعدم التأكيد في الآخر. وبناء على هذا الترجيح قال جمهور العلماء: إن المرأة لا تلي عقد نكاحها بنفسها، وإنما ذلك إلى وليها (31). وخالفهم الحنفية ورجحوا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وقالوا: إن للمرأة حق تولي عقد نكاحها بنفسها بغير ولي (32).

    وهناك ترجيحات أخرى ذكرت في المطولات، منها

    ما ذكره الآمدي -رحمه الله- والتي أوصلها إلى واحد وخمسين وجها من وجوه ترجيحات المتن؛ كأن يقدم النهي على الأمر؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، وما قل مجازه على ما كثر مجازه؛ لأنه بكثرة المجاز يضعف، فلذلك قدم ما قل مجازه (33)، والحديث الذي يكون أحسن سياقا وأكثر استقصاء على مخالفه، والجمع المعرف على الجمع المنكر؛ لأن الأول لا يدخله، والحقيقة على المجاز لعدم افتقار الحقيقة إلى القرينة، فتقدم لتبادرها إلى الذهن، والظاهر على المؤول إلا أن يكون دليل التأويل أرجح من الأصل، ونحوها.


    الهوامش

    1- انظر: الاعتبار: (ص:20).

    2- أخرجه البخاري، برقم: ( 631).

    3- أخرجه مسلم، برقم: (1409).

    4- أخرجه البخاري، برقم: (1410).

    5- انظر: تيسير التحرير: (3/148)، العدة: (3/1034)، الإحكام للآمدي: (4/335، 346)، شرح الكوكب المنير: (4/656).

    6- انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (2/314)، شرح الإسنوي: (3/240).

    7- أخرجه البخاري، برقم: (3017).

    8- أخرجه البخاري، برقم: (3015).

    9- انظر: نهاية السول: (2/999)، البحر المحيط للزركشي: (6/167).

    10- أخرجه البخاري، برقم: (756).

    11- أخرجه البخاري، برقم: (79).

    12- انظر: الإبهاج: (3/230).

    13- انظر: مشكاة المصابيح: (ص: 290).

    14- انظر: شرح تنقيح الفصول: (ص:125)، شرح المحلى: (1/313)، شرح الكوكب المنير: (4/665-666)، إرشاد الفحول: (ص:28).

    15- انظر: الاعتبار: (ص: 16).

    16- أخرجه البخاري، برقم: (735)، مسلم، برقم: (22).

    17- أخرجه أحمد في المسند، برقم: (4540)، أبو داود، برقم: (750).

    18- انظر: الاعتبار: (ص:16).

    19- انظر: التلخيص الحبير: (1/220).

    20- انظر: الأم: (1/104).

    21- أخرجه الدارقطني، برقم: (4247).

    22- أخرجه الدراقطني، برقم: (4253).

    23- انظر: معالم السنن للخطابي: (5/414)، المغني: (10/470).

    24- أخرجه ابن ماجه، برقم: (2250).

    25- انظر: معالم السنن: (5/414).

    26- انظر: نصب الراية للزيلعي: (3/289، 290).

    27- انظر: مفتاح الوصول: (ص:93)، نهاية السول: (2/998)، شرح الكوكب المنير: (4/668).

    28- أخرجه أبو داود، برقم: (658).

    29- أخرجه أبو داود، برقم: (2083)، الترمذي، برقم: (1102).

    30- أخرجه مالك في الموطأ، برقم: (888)، مسلم، برقم: (1421).

    31- انظر: الأم للشافعي: (5/13)، شرح السنة للبغوي: (9/45).

    32- انظر: فتح القدير للكمال بن الهمام: (3/257-259).

    33- انظر: الإحكام للآمدي: (4/252)، شرح الكوكب المنير: (4/669).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •