محنة شيخ الإسلام ابن تيميَّة: تُعتَبر محنة شيخِ الإسلام ابن تيميَّة محنةً من نوْعٍ خاص؛ حيث إنَّه - رحمه الله - كانت حياتُه كلُّها محنةً مستمرَّة؛ فقد ظَلَّ ينتَقِل من اختبارٍ لآخَر، ومن سجنٍ لآخَر، ومن بلدٍ لآخَر، من سلطان جائرٍ، لفقيه متعصِّب، لحاسد حاقد؛ وما ذلك إلاَّ لأنَّ الله - سبحانه - أنار عقلَه وقلبَه، فأراد أنْ ينهض بهذه الأمَّة من شِراك البِدَع والمحدَثات، فوقَع له ما وقَع. ظلَّ شيخُ الإسلام يتفكَّر في أسباب تقَهقُر الأمَّة وكبوتها، فجعَل كلَّ همِّه ينصبُّ في التفكير في الخروج من تلك الحال السيِّئة التي أُصِيبت بها الأمَّة، حتى أكرَمَه الله ووقَف على أسباب ذلك الداء العُضَال الفتَّاك، فراح يُحارِب كلَّ محدَثة، ويقوِّم كلَّ معوجٍّ، ويُناهِض كلَّ مبتدع، وكان - رحمه الله - يحارِب في مختلف الجبهات وعلى كلِّ الأصعِدَة في وقتٍ واحدٍ؛ من أجل تَوحِيد الأمَّة على كلمةٍ سَواء، على العقيدة الصافية والمنهَج الوَسَط الذي خَصَّها الله -تعالى- به، وسنكتَفِي هنا بإيراد ثلاثة أمثِلَة للابتِلاءات والمِحَن التي وقَع فيها - رحمه الله - وكيف نجَّاه الله منها - سبحانه. في السبت التاسع من جُمادَى الأولى سنة خمسٍ وسبعمائة اشتَكَت الصوفيَّة الأحمديَّة إلى أمير دمشق الأفرم من شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ لكثْرة إنْكاره لبِدَعِهم، فما كان من الوالي إلاَّ أنَّه أمَر بإحضار الشيخ إلى قصره، وطلَب منه أنْ يخفَّ وطأتَه عليهم، وألاَّ يشتدَّ في النَّكِير عليهم، ولكنَّه رفَض بشدَّة وقال بعِزَّة العالِم العامِل: "هذا ما يُمكِن، ولا بُدَّ لكلِّ أحدٍ أنْ يدخُل تحت الكتاب والسنَّة قولاً وعمَلاً، ومَن خرَج عنهما وجَب الإنكارُ عليه"، فأرادَت الأحمديَّة استِخدَام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيَّات ودخول النِّيران؛ من أجْل إقناع الوالي والحاضِرين بصحَّة أفعالهم، فأبطَلَ شيخُ الإسلام هذه الحِيَل، وخرَج من هذه المُناظَرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفيَّة الأحمديَّة بترْك أحوالهم البدعيَّة وكُتِب محضرٌ بذلك
وفي السنة نفسها اجتَمَع عُلَماء الأشاعرة وفُقَهاؤهم وقُضَاتهم عن بكْرة أبيهم عند أمير دمشق، وطلَبُوا من ابن تيميَّة الحضورَ لمناظَرته في كتابه "العقيدة الواسطيَّة"، وعقَدُوا له ثلاثةَ مجالس للمُناظَرة، استَطاع خلالَها ابنُ تيميَّة أنْ يظهَر عليهم بالحجَّة والبُرهان؛ حتى ألزَمَهم بتقرير صحَّة ما جاء في "الواسطيَّة"، وقد أدَّى ذلك لتَشوِيشٍ كبيرٍ في دمشق، واستَشاط الأشاعِرة غيظًا وغضبًا وأخَذُوا في الاعتِداء على تَلامِيذ ابن تيميَّة، ومنَعُوا الحافظ جمال الدين المزِّي من التَّحديث بالجامع وحبَسُوه. وفيها أيضًا تكاتَبَ أشاعِرة الشام مع أشاعِرة مصر؛ للضَّغط على السلطان من أجْل نفْي ابن تيميَّة من الشام إلى مصر ومحاكمته هناك، وبالفعل حُمِل ابنُ تيميَّة إلى مصر في رمضان، وعُقِدت له مناظرةٌ مع العُلَماء والفُقَهاء بها، ولم يمكنوه من الدِّفاع عن نفسه أو الكلام أصلاً، وكان زعيمهم ابن مخلوف قاضي المالكيَّة، وكان من أشدِّ خُصوم ابن تيميَّة وحُسَّاده؛ وذلك لقلَّة علمه وكثْرة خطئه في الفتوى، وأيضًا الشيخ الصوفي الضالُّ الحلولي الاتِّحادي نصر المنبجي، وكان صاحِبَ حظوة ووَجاهَة عند أمير مصر بيبرس الجاشَنكِير، وقد انتَهَى الأمر لسجن ابن تيميَّة في القلعة بالقاهرة، ثم وضع بالجب هو وأخوه عبدالله وأخوه الثالث عبدالرحمن، وكتب كتابًا بالحطِّ على الشيخ ابن تيميَّة وعلى عقيدته، وقُرِئ هذا الكتاب في الشام ومصر، وأجبَرُوا الحنابلة على مخالَفته، وحصَلتْ لهم إهانةٌ كبيرةٌ، ومِحنَة عظيمة في سائر البلاد، وعادَت البِدَع للظُّهور بدمشق في أثناء سجن الشيخ بمصر؛ فصُلِّيت الرَّغائب في النِّصف من شعبان سنة سبع وسبعمائة، وأُوقِدت النِّيران كالعادة، وكان ابن تيميَّة قد أبطَلَ ذلك كلَّه منذ عدَّة سنوات، وقد حاوَل بعض العُلَماء إخراج ابن تيميَّة من السجن مُقابِل أنْ يرجع عن بعض الأشياء في عقيدته، ولكنَّ ابنَ تيميَّة رفَض وآثَر السجن على التنازُل عمَّا يعتَقِد، وقد ظَلَّ الشيخ في سجنه قرابة العامَيْن، ثم خرَج بشفاعة الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب، وظلَّ مُقِيمًا بالقاهرة. هكذا مَضَتْ سنَّة الله في ابتِلاء عِبادِه الصالِحين من العُلَماء العامِلين، حتى يَمِيزَ الله الخبيثَ من الطيِّب، وقد صبَر هؤلاء العُلَماءُ الأجلاَّء لما تعرَّضوا له من الفِتَن والمِحَن، وما ضَعُفوا وما استَكانُوا، وآوَوْا إلى ركنٍ شديدٍ؛ فنجَّاهم الله ممَّا ابتَلاهُم به، ورفَع قدرَهم في الدُّنيا، وجعَل لهم الذِّكر الحسن إلى يوم الدين
ونسأل الله أنْ يرفَعَ قدرَهم في الدار الآخِرة، وأنْ يجمَعَنا بهم في جنَّات النَّعيم.
صور من محن العلماء