أنموذج للتفاهم والذكاء الإيماني:
أسرة أبي طلحة



نجاح عبدالقادر





الأسرة السعيدة هي التي تقوم على أسس من المودة والرحمة، فإذا بالتفاهم والتوافق يرفرفان بأجنحة السعادة على البيت وأهله.
هذا أبوطلحة وهذه أم سليم؛ نموذج للتفاهم، وحسن التصرف، والذكاء الإيماني. ولنبدأ بهذا الموقف: عن أنس بن مالك "رضي الله عنه" قال: اشتكى ابن لأبي طلحة؛ فمات وأبوطلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت فلما جاء أبوطلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أبوطلحة أنها صادقة. قال: فبات؛ فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات؛ فصلى مع النبي " صلى الله عليه وسلم" ثم أخبر النبي " صلى الله عليه وسلم" بما كان منهما، فقال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما». قال رجل من الأنصار فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن (1).
هذا الحديث يبرهن على ذكاء أم سليم "رضي الله عنه" ، ويظهر ذكاؤها في هذا التدرج الواعي في إعلام زوجها بخبر موت طفلهما الصغير أبي عمير. وتمثل هذا التدرج في:
1- كتمان الخبر عنه تماما في البداية.
2- تعمدها أن تتزين له لتسليه وتنسيه قلقه على ولده ولو مؤقتا.
3- استخدامها أسلوب التعريض بقولها: «وأرجو أن يكون قد استراح».
4- استخدامها أسلوب تهيئة النفس لتلقي الخبر المؤلم بقولها في رواية مسلم: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. ثم لما تأكدت من عدم اعتراضه على أن يسترد صاحب العارية عاريته قالت: فاحتسب ابنك.
إنه ذكاء إيماني امتزج بأخلاق كريمة منها:
1- الصبر الجميل، وهي الأم التي مات طفلها الحبيب.
2- التحكم الهائل في مشاعر الحزن إلى الدرجة التي تزينت فيها لزوجها، حتى تغشاها!
3- رسوخ الإيمان بقدر الله، والتسليم لقضائه.
فكان طبيعيا أن يبارك الله لهما في ليلتهما - كما دعا رسول الله " صلى الله عليه وسلم" لهما - فيرزقا تسعة من الولد كلهم قد حفظ القرآن وعلمه.
يقول ابن حجر: وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد: مشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها. وشرط جوازها ألا تبطل حقا لمسلم. والمبالغة في الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها... وفيه بيان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأي وقوة العزم (2).
موقف آخر: قال البخاري: عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله " صلى الله عليه وسلم" فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل النبي " صلى الله عليه وسلم" إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال النبي " صلى الله عليه وسلم" : «ألا رجل يضيف هذا الليلة، رحمه الله؟».
فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله " صلى الله عليه وسلم" لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت. وفي رواية. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته؛ فجعلا يريانه أنهما يأكلان. فباتا طاويين (3). وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة "رضي الله عنه" : «فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة» (4).
هذا الحديث الشريف يبدو فيه جليا الذكاء الجميل المختلط بالحفاظ على الإحساس والشعور في أعلى درجاته. ويتمثل ذلك في:
أولا - إثارة أبي طلحة اهتمام زوجه بالضيف إلى أقصى درجة بذكاء شديد، وذلك بقوله لها «أكرمي ضيف رسول الله " صلى الله عليه وسلم" »، وهو بهذا الأسلوب الموجز البليغ يحثها على أمرين: طاعة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" بإكرام ضيفه؛ ثم طاعة الزوج الواجبة في المعروف؛ فقدمت للضيف طعام أولادها! ونفذت أمر زوجها: «ضيف رسول الله " صلى الله عليه وسلم" لا تدخريه شيئا».
ثانيا - ذكاء أم سليم في ردها على زوجها؛ إنها تقول له: «والله ما عندي إلا قوت الصبية».. كأنها تستأذن زوجها في أنها ستقدم للضيف طعام أولادها الذي ليس في البيت سواه!؛ واستئذانها هذا يقطع الطريق على لوم زوجها إياها إذا استيقظ طفل من الأطفال باكيا من الجوع؛ وكأنها تقول له: لنكن متفقين على ذلك.
ثالثا - الذكاء الشديد وحسن التصرف مع الصبية الصغار. قال: «نومي صبيانك إذا أرادوا عشاء». ونحن لا ندري كيف استطاعت أم سليم أن تنوم صبيانها بغير عشاء، اللهم إلا بذكائها الشديد وحسن تصرفها.
رابعا - الحرص على إحساس الضيف، وتنفيذ دواعي الإكرام معه كاملة؛ ومنها الجلوس مع الضيف وتناول الطعام معه؛ وهذه عادة عربية أصيلة أقرها الإسلام وشجع عليها؛ ولكن السؤال هنا: كيف سيجلس أبو طلحة وزوجه لتناول العشاء مع الضيف، والطعام قليل قليل لا يكاد يكفي إلا هذا الضيف وحده؟! إن حل هذه المعضلة يحتاج إلى ذكاء شديد، وتفاهم كامل؛ وهذا ما فعله أبو طلحة وأم سليم؛ لقد قال لها: «فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج»، ففعلت ذلك بمنتهى الذكاء: «ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته»، فجعلا يريانه أنهما يأكلان وهما في الحقيقة لا يأكلان.. إنه الحرص على تنفيذ آداب الضيافة، من إيناس للضيف، وإيثاره بالطعام المتوافر؛ مع إيهامه بأنهما يأكلان معه.
خامسا - لقد علم أبو طلحة وأم سليم بذكائهما الإيماني أن إرضاء رسول الله " صلى الله عليه وسلم" هو في الحقيقة إرضاء لله عزوجل، وأن في هذه الطاعة، وفي هذا التصرف الأخلاقي الذكي، ثمرات عظيمة عند الله عزوجل، فإذا بأبي طلحة حين يصبح ذاهبا إلى المسجد يبادره النبي " صلى الله عليه وسلم" بقوله: «ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما». ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية، والمراد بهما الرضا بصنيعهما. لقد علم رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ، عن طريق الوحي، بما صنع أبوطلحة وزوجه مع الضيف؛ ففرح بحسن تصرفهما، وبشرهما بنزول قول الله تعالى فيهما وفي من يصنع مثلهما: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9). هذا والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش

1- البخاري 5/53، ومسلم 12/221.
2- فتح الباري، لابن حجر 4/35.
3- البخاري 12/157.
4- مسلم 1/38.